جمال العربية فاروق شوشة
جمال العربية
"أنت دير الهوى وشعري صلاة" بين هذه القصيدة وقصيدة "صلوات في هيكل الحب" التي أبدعها الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي، أنفاس شعرية مشتركة، تفتح الباب لدراسة مقارنة تعنى بالتأثير والتأثر.تبدأ هذه الملامح المشتركة من عنواني القصيدتين: أولي كالصلاة وقد نشرها الشاعر أول مرة تحت عنوان "أنت دير الهوى وشعري صلاة" و"صلوات في هيكل الحب "، وينسكب على القصيدتين جو هذه الصلوات دعاء وابتهالا ونداء واسترحاما، وتقربا من ذات المحبوب وتفانيا في محبته وإقامة طقوس العبادة وشعائر الولاء. ثم يمتد الجو المشترك بين القصيدتين إلى الموسيقى التي تسبح فيها القصيدتان، والبنية الإيقاعية والنغمية لكل منهما، حين تشتركان في بحر "الخفيف " بموسيقاه الممتدة المنسابة، الملائمة لأحوال الضراعة والمناجاة والاستعطاف، ثم يشترك الشاعران محمود حسن إسماعيل وأبو القاسم الشابي في هذا التركيز المستمر على صورة الـ "أنت " وهي موضوع الخطاب في القصيدتين حين نجدها تتصدر ثمانية عشر بيتا من قصيدة الأول، واثني عشر بيتا من قصيدة الثاني، وهذه إلى "أنت " في الحالين، وفي القصيدتين هي مجمع عناصر الجمال، ومصدر كل المفاتن الروحية والجسمية، والمعادل الأسمى لصورة الجمال في الوجود، والوتر الذي يهتز فيحدث صداه في وجدان الشاعرين إلهاما وتدفقا وذوبانا شعريا يبلغ أقصى حالات الوجد والهيام. ثم تشترك القصيدتان- قرب ختامهما- في هذه الضراعة الأخيرة التي تتركز فيها كل معاني الاحتياج والرجاء الذي يشوبه قلق اليأس وخوف اقتراب الفناء، وكأن كلا من الشاعرين يستقرئ غيبا يوشك أن يطبق على أنفاسهما، مبددا جلوة الحب، ونضارة الحياة وربيع الوحي والإلهام. تبقى الإشارة إلى أن قصيدة الشابي "صلوات في هيكل الحب " كانت أول ما نشر له على صفحات مجلة أبوللو- التي كانت تعبر عن جماعة أبوللو الشعرية ويرأس تحريرها الدكتور أحمد زكي أبوشادي- في مستهل عام 1933، بينما طالع القراء قصيدة محمود حسن إسماعيل في ديوانه "هكذا أغني " في طبعته الأولى الصادرة عام 1938، فهل يعني هذا أن المناخ الشعري- الذي أحدثه نشر قصيدة الشابي، ولفت الأنظار بشدة إلى الظاهرة الشابية في الإبداع الشعري من خلال هذا النموذج الذي اعتبره بعض الأدباء "عروس قصائد الحب في الشعر العربي كله " ربما من منطلق الإعجاب الشديد والحماس الجارف- قد حرك شاعرية محمود حسن إسماعيل- وهي شاعرية لها من الإحالة والاقتدار والتفرد في الإبداع- مما جعله يقدم نموذجه بدوره، على سبيل المساجلة الشعرية غير المقصودة، أو لإثبات الهوية الشعرية عند واحد من شباب شعراء أبوللو يرى أن الأنظار كلها قد تحركت في اتجاه المغرب العربي- إلى الشاعر التونسي الشابي- فأراد أن يردها من جديد إلى المشرق العربي حيث هو ورفاقه من كوكبة شعراء أبوللو: إبراهيم ناجي وعلي محمود طه ومحمد عبدالمعطي الهمشري وغيرهم؟ هي إذن إشارات من شأنها أن تغري نقادنا- المعنيين بالدراسة المقارنة بين النصوص المتماثلة- بالبحث والنظر والتأمل، والخروج بصيد وفير، خاصة أن قصائد الشابي التي أتيح لها أن تنشر على صفحات مجلة "أبوللو" هي التي أتيح لها الذيوع والانتشار أكثر من غيرها، وهي التي ترددت أصداؤها في قصائد عدد من الشعراء، أعجبوا بالشابي وانبهروا بشاعريته المجددة، وروحه الشعرية العارمة. أما ديوانه الذي أتيح له أن ينشر بعد رحيل صاحبه بواحد وعشرين عاما- في عام 1955- فلم يتح له من التأثير ما أتيح لهذه القصائد القليلة العدد، فعندما نشر كان المناخ الشعري قد تغير، وبدأت بواكير حركة الشعر الجديد، ودواوين الموجة الأولى من روادها تستحوذ على الاهتمام. في قصيدة "أقبلي كالصلاة" للشاعر محمود حسن إسماعيل تلتمع أهم سماته وخصائصه الشعرية. قدرة خارقة على التصوير والتجسيد، وحس مرهف بالألوان والعطور والروائح، وبصر شاخص إلى ما وراء المنظور من ظواهر الطبيعة يحاول النفاذ إلى بعض أسرار الوجود، ووجدان شعري ممتلئ بتجربة الحياة شديد الحساسية لإيقاعات الكون، متلاحم النسيج مع رموزها وإيحاءاتها، فناء صوفيا، وانجذابا روحيا ونزوعا إلى التطهر في محراب الطبيعة ومعبدها المقدس، وهي نزعة حارة متوهجة نطالعها دوما في أشعار الرومانسيين الكبار الذين كانت صلواتهم وغنائياتهم وأشواقهم بمثابة الحلم الدائم، ينشد الالتحام بالطبيعة والفناء فيها والتطهر من خلالها. ونتأمل صور القصيدة ولوحاتها المتتابعة: صورة الزورق الشريد الحيران في مهب الريح العاتية تحت جنح الدياجير، والشاطئ المرخي بعيد ولا أمل يلوح. وصورة الأيكة الوارفة الظلال تمنح الأمان والسكينة والواحة السخية بفيء إليها العاشق المجهد هربا من هجير الأسى، وصورة المحبوبة التي يخاطبها بكلمة "أنت " في مستهل العديد من أبيات القصيدة، كل بيت ينطق بقيمة من قسماتها ويضفي لونا إلى لوحاتها الأخاذة الفاتنة. وفي القصيدة أيضا معجم محمود حسن إسماعيل الشعري الذي يتناثر في سائر قصائده، ويشير إلى مرتكزاته الأساسية: النبغ والأيكة الظلال والخميل والجدول والواحة والناي والمحراب والزورق والشط والطير والدير والصلاة والحسن والناسك. ولا تقف حدود المعجم عند شيوع هذه المفردات وغيرها وإنما تتجاوز ذلك إلى أساليب استخدامها وهندسة التراكيب الشعرية التي يقيم معمارها من خلال صياغاته لمفردات هذا المعجم. وقد انسكب الجو الصافي الروحي على القصيدة في العديد من مفردات هذا المعجم بدءا من عنوان القصيدة فإذا بنا نجد البيت الأول فيها- غير المصرع كما كان الحال في قصيدة الشابي- يتضمن هذه العناصر: الصلاة والنسك والمحراب والعابد والمتبتل، وفي البيت الثاني تطالعنا: آية والله ووحي ومنزل، وهكذا الحال في سائر أبيات القصيدة. لقد. الشاعر في شحن قلوبنا بوهج تجربته الشعرية، من خلاله هذه التفاصيل الصغيرة التي اكتسبت معناها الكلي، وبفضلها أصبح الشاعر- هذا الإنسان المنفرد على ظهر هذا الكوكب- وترا في لهاة الطبيعة وجزءا من جسر الوجود البشري المتراكم، تماما كما تصبح الشجرة المنفردة صوتا شعريا يضج بحداء الطبيعة للكون، وترديدا لصوت الرياح المعبر عن ملحمة الوجود والعدم. أنت دير الهوى، وشعري صلاة... "إلى غمامتي الشاردة... أهدي هذه الصلاة! ".
![]() |
|