الحرمان
المحروم في الاصطلاح هو الفِقيرِ المتعَفِّفِ الَّذي لا يَسألُ، وهو البائس الذي يعيش في شدة وضنك وضيق ذات اليد، ولا يستطيع الحصول على أساسيات الحياة، إلا بعد عنت وجهد، وقد لا يحصل إلا على الفتات وما يسد الرمق.
وللحرمان صور كثيرة على الرغم من ثراء المحروم، وقد يتساوى هذا المحروم مع محروم المال بالشعور، وقد يكون أسوأ منه درجات؛ فالغني الذي يُحرم تناول طعام يشتهيه لسبب صحي محروم، يشعر بالحرمان كلما رأى هذا الطعام، أو شاهد غيره يتناوله، ولا يستطيع أن يحرم أسرته منه، فهو محروم مما يأكلون وبه يتلذذون. والغني، صحيح الجسم، المحروم من الذرية، محروم من الأطفال ورائحتهم وضحكاتهم ومداعبتهم، ولذة الشراء لهم والإنفاق عليهم وحملهم، وحتى لو حاوطه ألف طفل، وتبنى ألف طفل، فطفل الصلب غير، فهو الروح، وحشاشة الفؤاد، وفلذة الكبد.
يتيم الأبوين، محروم من الحنان والحضن الدافئ، ولو كان غنيًا، فلا بديل عن الأبوين ولو كان حوله عشرات الأحباب والأصحاب، وسيبقى هذا الحرمان يلازمه مهما كبر، فحرمان الأبوين لا يُعوض، وجفاف لا يَنْدى أبدًا. ومَنْ خسر رضا والديه وحبيهما وحضنيهما الدافئين، وبركة دعائيهما له، وسؤاليهما عنه، وخوفيهما عليه، وكَسَبَ سخطيهما وغضبيهما، وتسبب بدموعيهما، وكسر خاطريهما، وآذى قلبيهما، فهو محروم محروم محروم.
ومَنْ فقد نعمة أو حاسة أو عضوًا في جسده، فهو محروم. ومَنْ ينام بصعوبة بالغة، أو بمساعدة الأدوية فهو محروم. والمريض المعتل بمرض مزمن، محروم بقدر مرضه أو أمراضه، وما يترتب عليها؛ فمثلًا مريض الربو، محروم من التنفس الطبيعي كبقية خلق الله، تلازمه الأدوية لتساعده، ولا يستطيع أن يبذل جهدًا كغيره، تؤذيه بعض الروائح وإن كانت ذكية، عليه أن يعيش وفق اشتراطات معينة إن أراد أن يتجنب أي مشكلات أو مضاعفات. وهكذا كثير من الأمراض التي تحرم ضحاياها، وتتحكم بكثير مما يأكلون ويشربون ويعملون، وتشعرهم بقدر من الحرمان صغر أم كبر.
وأشد درجات الحرمان، أن يتيح الله له بابًا للعطاء وعمل الخير فلا تفعل. ويفتح لك بابًا للبر والإحسان فتحجم. وييسر لك طريقًا للإصلاح ورأب الصدع فلا تتقدم. وتشرق أمامك شمس الهداية فتغمض عينيك. ويُمَكِنُكَ من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فتخجل وتتردد وتنأى بنفسك.
وصور الحرمان كثيرة، لا يمكن حصرها، ففاقد البصيرة محروم، ومَنْ لا يستطيع اتخاذ القرار الصحيح محروم، ومَنْ كان بلا أصدقاء فهو محروم، ومَنْ عاش بلا سكينة وطمأنينة فهو محروم، ومَنْ فقد القناعة والرضا فهو محروم. ومَنْ أُقفلت في وجهه أبواب البركة والتوفيق والنجاح فهو محروم.
واعلم - يا رعاك الله - أنَّ الحرمان حرمانان، حرمان لا يد لك فيه، تُؤجر وتُثاب عليه إنْ صبرت واحتسبت، وحرمان بما كسبت يداك، و«على نفسها جنت براقش»، فذلك عذاب مقيم وخسران مبين ■