حكاية من الزمن الجميل رواية «نجمة أولاً وأخيرًا»
نجمة من جديد، أميرة من الماضي، أو في حضرة الماضي، عناوين كثيرة تطرأ على بال القارئ لرواية (نجمة أولًا وأخيرًا «حكاية البطة المصرية») للكاتب الكويتي حمد الحمد، والتي صدرت عن دار بلاتينيوم الطبعة الأولى 2023.
الرواية تضمنت أحداثًا متنوعة في أزمنة مختلفة، مترابطة في فحواها ومتصلة بشخوصها. وخير ما يعبر عن ذلك غلاف الرواية والذي جاء يحمل لوحة بريشة الفنانة السعودية نورا العندس، وتظهر فيها هيئة امرأة غير محددة المعالم، عكست الى حد كبير حبكة الرواية وأبطالها. تحتوي الرواية على أربعة فصول، في الفصلين الأول (نجمة.. أولا وأخيرا) والثاني (مواجهة) تأتي الأحداث على لسان الراوي في سرد الاحداث، وفي الفصلين الثالث (البطة المصرية.. مذكراتي) والرابع (حياتنا.. مسارات) يكمل القارئ أحداث القصة من خلال يوميات كتبتها البطلة أميرة.
القصة.. إمرأة
فواز، رجل قارب الستين من عمره، مقعد بسبب حادث تعرض له وهو بمرحلة الشباب على دراجة نارية، يسكن في منزل كبير فخم بمنطقة راقية مع خادم، ذات يوم يقرأ اسمًا يعرف صاحبته جيدا ضمن أسماء الوفيات المنشورة في إحدى الجرائد اليومية. والاسم يعود إلى سيدة تقاربه بالعمر، كان على علاقة بها، وهو متأكد تماما من شخصها، لكنه يسعى للمزيد من المعلومات حول أسباب وفاتها، وكذلك حياتها. ومن خلال رقم هاتف عادة ما يوضع مع أسماء الوفيات لتلقي تعازي من يتعذر عليهم الحضور الشخصي، يتواصل مع (أخت نون) بعد أن قام بعدة اتصالات صامتة ومزعجة. وتتكرر المكالمات بينهما، وتتضح الصورة لكلاهما ومن شدة الوضوح تنخلق بينهما مواقف وأشياء أخرى.
من وجهة نظر قارئ، إن صورة المرأة في الرواية خلقت أحداثًا كثيرة إن كانت معظمها. البداية كانت بـ «نجمة» الفتاة التي أحبها البطل « فواز» وهي شقيقة صديقه، لكن التفاوت في المستوى الاجتماعي حال دون ارتباطهما ببعض، خاصة بعد الرفض القاطع لوالدة فواز «سبيكة» من التقدم لخطبة نجمة، وبرفضها هذا، حالت دون أن يكون لابنها حياة أسرية. وتظهر شخصية الفتاة الثالثة «أميرة» التي كانت ترد على اتصالات فواز الهاتفية والتي سردت له ما حدث لأختها نجمة بعد أن أسدلت الستار على قصتها معه، وحاولت إكمال حياتها والبحث عن الاستقرار وتكوين أسرة. وأميرة أيضا تحل للقارئ شفرة عبارة «البطة المصرية» التي وردت على الغلاف، كما توضح لبطل القصة فواز كيف حطت بها الرحال في منزل نجمة التي لم ولن يكن لها أثر، لولا أن تزوج والد نجمة بممرضة مصرية أثناء علاجه في مصر، وأثمر زواجه بفتاة أسماها أميرة، وأطلقت عليها أسرتها الكويتية اسم البطة المصرية.
أم سعود، أو حجية كونا، تلك المرأة المسنة التي تأتي بالأخبار وتتناقلها من منزل إلى آخر، وكانت فاعلة في المنطقة التي تسكنها عائلة نجمة، والتي أشاعت خبر وصول بنت المصرية (أميرة) وتسببت أيضا باختيارها لمهنتها المستقبلية، وذلك لكثرة ترديدها عبارة (ياحليلها هذه بنت الممرضة)، وأميرة الطفلة كانت تتساءل عن الممرضة وما الذي تفعله، حتى أكملت دراستها في معهد التمريض وأصبحت ممرضة كوالدتها.
وأخيرا وليس آخرًا نجد دورًا أنثويًا صغيرًا لكنه محورياً، لشخصية « أم سعدون» ابنة خالة فواز التي اجتهدت لتزويجه بشتى الطرق، ولولاها لما صارح أميرة وتقدم للزواج بها.
المرآة العاكسة
لا أحد ينكر أن الروايات الأدبية كالمرايا، تعكس كل ما هو موجود في المجتمع. ويظهر هنا ارتباط الكاتب بمجتمعه بصورة جلية، ويستشفه القارئ بسلاسة ويسر، ومن خلاله يتعرف على العديد من القضايا المجتمعية والظواهر الاسرية المحيطة بالمجتمع الكويتي والعربي. ويمكن حصر منها.
الميراث - تحتل إشكاليات الإرث حيزًا مهمًا في العلاقات الأسرية، وقدمها الكاتب بشكل اجتماعي تمثل في مطاردة أبناء عم فواز له، حيث أوضح أنه وعلى الرغم من قدم الإشكالية
- خمسينات القرن الماضي وما قبلها- الا أن مطالباتهم غير المشروعة بحصتهم بالورث لم تتوقف. وتتمحور الإشكالية بأن الجد الكبير كان تاجرا وعمل معه ابناه، أحدهما توفي قبل أبيه، ووفقا للقانون آنذاك فإن وفاة الابن قبل أبيه تخرج أبناءه من التركة في حال توفي الجد بعد الاب، وبهذا الخصوص أورد الكاتب مثلا شعبيا متداولا حول ذلك «اللي يموت قبل جده خل يحط إيده على خده». وهذا ما حدث بين أبناء الصاقر. وهنا يكتشف القارئ أحد أهم القوانين الكويتية التي شرعت في سبعينات القرن الماضي، في عهد الشيخ عبد الله السالم والذي سن قانون «الوصية الواجبة» وعلى أساسه يرث أبناء الابن المتوفى قبل الجد. ونظرا لكون الحادثة بالرواية حدثت قبل التشريع القانوني فإن لا ورث لهم، إلا أن نظرة الظلم واللاعدالة سيطرت على أبناء العم، فهم يرون بأحقيتهم بنصيب أبيهم خاصة وفواز الذي لا ذرية لديه ينعم بثروة طائلة.
البيوت الخاوية - قد تكون مسارًا طبيعيًا ومظهرًا مألوفًا في كل المجتمعات، فبعد كبر الأبناء وزواجهم وسعيهم للعمل، وبوفاة أحد الوالدين أو كلاهما، تخلو البيوت وتفضى، إلا ما ندر، حيث يتخذه ابن او ابنة سكنا له. وفي المجتمع الخليجي عادة ما يقطن خادم مع من يبقى ويصبح أحد أبناء المنزل، وإن كان من في البيت مسنًا فعادة ما يستعان بممرض على اطلاع بحالته الصحية وعلاجاته المنزلية. في الرواية صور الكاتب هذا الوضع، حيث يقطن فواز لوحده مع جافيد، الخادم الآسيوي والذي يصف نفسه برسالة لزوجته (أنا خادم، أنا طباخ، أنا سايق مرات. لكن هو يصارخ ما يحترم أنا.. أنا بكرة أطلب زيادة راتب)، وذلك بالفعل ما يحدث بهذه العلاقة فلا جافيد يستغني ويترك منزل فواز ولا فواز يتخلى عن جافيد وإن طلب أضعاف راتبه. والسبب ببساطة حالة الألفة والعشرة التي تربطهما، ففواز مصدر رزق مريح لجافيد، والأخير مصدر راحة واستقرار وأمان لفواز.
البدون - وهم من لا يحملون جنسية، بينما يقيمون في الدولة منذ عشرات السنين، منهم من اخفى أو أضاع أوراقه الثبوتية بما فيها الجنسية، ومنهم تخاذل ولم يبال بالإجراءات القانونية المتبعة بالدولة، ومنهم من اعتاد العيش بالدولة واستقر بها ولم يكترث بالمستقبل لأبنائه، وهناك فئات وأسباب كثيرة لتواجدهم وكثرتهم وبقائهم بالمجتمع الكويتي. في الرواية أظهر الكاتب شخصية أبو خلف أو كما يسميه فواز بطل القصة بالعم أبو خلف، وهو الذي يشرف على أملاك فواز الصاقر ويدير مكتب العقارات الخاص به، كما كان يفعل قبله والده ويصفه الكاتب (حاول والده أن يحصل له على جنسية، لكنه لم يفلحوهو لديه ملف ضمن جهاز المقيمين بصورة غير قانونية، وينتظر لكن لا يعرف إلى متى؟)
العزوف عن الزواج - ظاهرة اجتماعية اكتسحت المجتمعات العربية والكويتية، وطالت الجنسين الذكور والاناث. ومن الرواية نلاحظ أن فواز وبعد علاقة حب، سعى لتتويجها بالزواج وفشل، عزف عن فكرة الارتباط مرة أخرى، رغم كونه الوحيد لدى والديه، اللذان كانا يتطلعان لزواجه بإحدى فتيات العائلة أو من تكون مناسبة له اجتماعيًا، وانجابه للبنين والبنات الذين سيحملون اسم العائلة، إلا أنهما لم يحظيا بهذه اللحظات السعيدة. في المقابل سعت نجمة الى الزواج للتخلص من كلمة (عانس)، ووجدت بالثري سلمان مخرجا لها، بل وكانت تعد نفسها محسودة عليه (يحسدون الميت على موتة الجمعة) ولكن كمعظم الحالات المتسرعة انتهى بها الامر بمركز الشرطة والطلاق. فقد اتخذ سلمان نجمة كطعم لبناء ثروة وهمية حملتها الديون والاحكام القضائية، وجردتها مما ظنت أنها كانت تحسد عليه، فكله كان مستأجرًا. إذن الكاتب قدم دافعًا للزواج عند بعض الرجال المحتالين، ممن يجد بعقد الزواج وسيلة لنيل مطامعه. وفي حالة أخرى قدمها الكاتب هي مس (ديسوزا) الممرضة الهندية والتي وصفتها أميرة بأنها ذكية، ولم تتزوج بحياتها، لكنها كما تصف نفسها تزوجت المستشفى ولم تعرف غيره، فهي تكره الزواج والرجال وحتى الجنس، وذلك لتحرش أحدهم بها وهي صغيرة. وفي العموم يمكن للقارئ أن يستشف النظرة المجتمعية الغالبة لمهنة التمريض، والتي نجح الكاتب في تقديمها للقارئ من خلال عدة حوارات منها ما جاء على لسان أنثى (الطبيبات والممرضات حظهن في الزواج موقوف إلى أجل غير مسمى)، ومنها ما جاء على لسان الذكر (يا أميرة أنت خبلة.. ترى ممرضة مثل الخادمة!)
وهنا نجد الكاتب يتطرق بحذر لأحد أهم أسباب عزوف الفتيات عن الزواج، تاركا للقارئ التكهن بالأسباب الأخرى.
وفي الرواية قضايا أخرى عرج عليها الكاتب بالذكر من خلال شخوصه، مثل تغير العادات الاجتماعية بعد انتشار فيروس كورونا، التهرب وعدم المواجهة وادعاء العجز في مواجهة المشاكل والأمور المهمة التي تستلزم إنهاءها أو حلها، وهنا يقدمها الكاتب من خلال شخصيتين من الذكور وهما فواز الصاقر الذي عجز عن مواجهة والدته والإصرار على الارتباط من حب حياته، ومن خلال سلمان زوج نجمة الذي فر هاربا عندما انكشفت نواياه وتدهور وضعه المالي المزيف. في المقابل تظهر قوة شخصية الإناث اليوم، حيث المرأة (أميرة) صريحة تسمي الأشياء بمسمياتها، واضحة تعرف أهدافها جيدا وتسعى الى تحقيقها.
بين الكاتب والرواية
إن من المتعة في قراءة رواية هو استكشاف جوانب غامضة أو غير مصرح بها عند الكاتب تجاه قضايا مجتمعية قد تكون دقيقة. ومنها موقفه من اللغة العربية، وجاء ذلك من خلال استعراضه لحدثين الأول حول أسماء المجمعات التجارية الدارجة باللغة الإنجليزية ورفضه لذلك من خلال تساؤل جاء فيه (لماذا يختارون أسماء أجنبية لمجتمعاتنا؟ « الافينيوز» يفترض اختيار اسم عربي اسمها العربي « الجادة»، لماذا نتخلى عن لغتنا؟) والموقف الثاني عندما رأى فواز أمًا تتحدث مع أبنائها الصغار بلغة إنجليزية وأثاره الموقف وود أن ينصحها لكنه خشي ردة فعلها التي قد تسيء له. وتساءل (لماذا يتعمدون فصل الصغار عن لغتهم ولغة قومهم؟ لهذا يعيشون غرباء في بلدهم).
كما جاء موقفه من النقاب على لسان أميرة في أول لقاء لهما (قال إنه يقدر المرأة المحجبة وحتى السافرة وليس المنتقبة، يقول.. النقاب يغطي ملامح الوجه تماما، ووجه الإنسان هو واجهته، فكيف يسير إنسان بلا وجه؟)
إن الكتابة التفاؤلية إن صح تسميتها هكذا هي سمة من سمات الكاتب، ففي هذه الرواية له وروايات أخرى يحرص على إشاعة روح الأمل وسط أصعب المواقف، وبث الفكاهة مع أكثر الأحداث جدية، وذلك ما يجعل القارئ يترقب الفصل الأخير والذي حتما سيتوجه بالنهايات السعيدة. فيختم الرواية بإعطاء جزء من أملاكه لأبناء عمه وذلك من منطلق رغبته في استكمال حياته بهدوء وراحة دون حقد أو ضغينة، وبالزواج من أميرة والتي تأتي له بالأبناء وتمنحه الأجواء الأسرية التي افتقدها بشدة ■