أثر النصوص قراءة في كتاب «السيميوطيقا الثقافية»

أثر النصوص قراءة في كتاب «السيميوطيقا الثقافية»

انشغل الدارسون من مختلف التخصصات بالثقافة: مفهومها، ماهيتها، وظيفتها، وتأثيرها علينا... ويأتي كتاب «أنا ماريا لوروسو» «السيميوطيقا الثقافية نحو منظور  ثقافي في السيميوطيقا» (ترجمة: سيد فارس، المركز القومي للترجمة، القاهرة 2023م) ليقدم لنا تنويعًا على هذا الانشغال، ولكن من زاوية منهجية محددة، هي الثقافة بوصفها «أداة اتصال»، وما يقتضيه هذا من عمليات التأويل التي تصاحب العلامات الثقافية في مختلف السياقات وتأثرها بالأفراد المنتجين والمستقبلين لها.

 

وإذا كان الإنسان - وفقًا لـ «كليفورد جيرتز - «حيوانًا يتدلى في خيوط نسجها بنفسه، فإن الثقافة هي تلك الخيوط، وهذا يعني أن فهم الثقافة وتحليلها ليس علمًا تجريبيًا نبحث فيه عن القانون أو القاعدة، ولكنه علم تأويلي يبحث عن المعنى». (ص6)
يقدم لنا كتاب «السيميوطيقا الثقافية» قراءة في المدارس والمناهج المختلفة التي انشغلت بتأويل العلامات، متتبعًا الخطوط المختلفة والمسارات المتقاطعة لعلميات الفهم والتأويل على نحو ما قدمته تلك المناهج، بحثًا عن السبيل الذي تغدو به الثقافة «فعلًا مؤثرًا»... ولعلّه من الصعب تحديد موضوع «السيميوطيقا الثقافية» بدقة، ليس لأنه غامض أو مبهم، وإنما لأنه شديد الاتساع؛ إذ يوشك أن يستوعب كل مظاهر الثقافة وأنظمة العلامات من حولنا، وإذا كانت «السيميوطيقا الثقافية» متصلة بكثير من الحقول والمعارف، فإنها أشد اتصالًا وتداخلًا بين الأنثربولوجيا اللغوية والأنثربولوجيا السيميوطيقية على وجه التحديد؛ باعتبارهما يكشفان الطريقة التي تسهم بها اللغة وأنساق الاتصال المختلفة في إعادة إنتاج الثقافة ونقلها وتحويلها.
وما يهدف إليه هذا الكتاب تحديدًا هو وضع «الخطوط العريضة لسيميوطيقا تمتلك الأدوات (النظرية والمنهجية) التي تمكننا من رصد المعنى «في الواقع والفعل»، والممارسات الاجتماعية المستعملة لإدارة المعنى ومعالجته. ولهذا السبب أيضًا سوف تتحول السيميوطيقا التي أطرحها هنا لتصير لصيقة لصوقًا بالأنثربولوجيا ومتماسة معها في كثير من الأحيان: إذ تُعد فكرة «المعنى في الواقع والفعل» على الأرجح جوهر هذين الميدانين العلميين». (ص17) 
وهذا يعني أننا إزاء قراءة للعلامات تستجوب - في جوهرها - منطق المعنى وديناميات التأويل، وعمليات التنظيم التي من خلالها تعيش العلامات داخل الحياة الاجتماعية... ولا تقتصر المقاربة هنا على اللغة وحدها، بما هي نظام سيميوطيقي، ولكنها تتسع لتضم كل أنساق العلامات التي لا تقل أهمية عن اللغة... كما أنها لا تقارب العلامات في ذاتها، ولكنها تقاربها في حضورها الاجتماعي المميَّز والمؤثر، بمعنى أنها لا تتوقف عند حدود معالجة البنى والشفرات والأشكال الدالة، ولكنها تستمرّ بحثًا عن نشاط العلامة في الواقع، وذلك انطلاقًا من قناعة ترى أن «المعرفة المنفصلة عن الواقع، والمركزة بشكل كبير على الشفرات... هي معرفة منقوصة وغير كافية». (ص19)
وبعبارة أخرى، نحن هنا إزاء مقاربة تحاول المزج بين اتجاهين في القراءة أو المقاربة: الاتجاه البنائي الشكلي المغلق الذي يركز على الشفرات والرموز المجردة (البنائية وتعاليم بيرس) واتجاه مدرسة تارتو (الثقافة بما هي مجموعة من أنساق العلامات المتفاعلة والمتبادلة فيما بينها) لتقدم مقاربة تجمع هذا إلى ذاك وتنظر إلى المعنى داخل السياق أو إلى المعنى في «الواقع والفعل».   
والفرض الذي تتأسس عليه هذه المقاربة أن الثقافة ليست جوهرًا متعاليًا يمكن إدراكه بمعزل عن الواقع؛ فالواقع نفسه تشكيل ثقافي... ولا تنحصر مشكلة السيميوطيقا الثقافية في موضوعها المتسع، ولكن في «كيف يمكننا ملاحظة الثقافة من وجهة النظر السيميوطيقية، أو العلامية (السيميوسيس) من وجهة نظر ثقافية». (ص22)
ولعله لا يخفى عليك أن السيميوطيقا الثقافية - في جانب منها - ردٌّ على النزعة النصية المنغلقة التي تقارب العلامة أو النص بمعزل عن سياقهما، فهذه النزعة ترى أن النصوص احتوت كل شيء، ولا حاجة بها إلى الخارج أو إلى السياق، ولا شك أن مثل هذه القناعة أو ذاك الفرض - الذي يعزل الظاهرة عن محيطها بأثر من العلم التجريبي - يحتاج إلى مراجعة... تمامًا كما تقول أنا ماريا: «اليوم، وبعد عدة عقود، يمكننا مرة أخرى أن نُمعن التفكير في الطابع العلاقي للعلامات والرموز، في مقابل طابعها المكتفي بالذات». (ص24)
وهذه المراجعة تتأسس بطبيعتها على مُصادرة ترى أن الثقافة بطبيعتها «تتخذ شكلًا نسقيًّا منظمًا». وأنّ التنوع الثقافي الكبير الذي نجده في الأعراف والنصوص والعادات والتعبيرات الفردية والاجتماعية... هذا التنوع ليس مُفككًا كما قد نظن؛ إذ يمكننا باستمرار إيجاد الروابط التي تشدّ بعضه إلى بعض؛ فالثقافة «تعيش وتقتات على الترابطات وتخلقها... فالطبيعة النسقية هي نزعة ذاتية التنظيم تتسم بها الحياة الثقافية». (ص27)
والحقيقة أنه لا يمكننا الحديث عن ثقافة معينة بمعزل عن نسق القيم والمعتقدات التي تمنحها هويتها ومعنى وجودها؛ فالنصوص مواد تعبيرية، تتجلى فيها هذه القيم وتلك الأنساق، وبهذا وحده  يتحقق للثقافة دوران وتداول اجتماعي واتصال للقيم والهويات والمعرفة، والعواطف والمشاعر، ولهذا السبب لا تمثل الثقافة «روحًا مجرّدة». بل «تُجسِّد» ذاتها، وتفرض أشكالًا قابلة للمشاركة». (ص28)
ولا يعني هذا بأي حال، أن الثقافة تقتصر على الجانب المادي وحده، ولكنها بالتأكيد تتسع لما هو غير مادي كاللهجات والفولكلور، وما تقصده «أنا ماريا» بالتجسيد هنا هو قابلية الثقافة - المادية وغير المادية - للتداول والمشاركة، أو باختصار قابليتها للاتصال، وهذا يشمل المظهرين: المادي وغير المادي.
من الضروري هنا أن نتوقف إزاء مفهومي: «النَّص والشَّفرة code» باعتبارهما مرتكزين أساسين يوجهان نظرة «أنا ماريا» إلى الثقافة، ويمنحان التصور الذي تقدمه تماسكه المعرفي: 

- المفهوم الأول: النص
لا تحصر «أنا ماريا» النص في تصور مُحدَّد، ولكنها تتوسع في المفهوم على نحو يجعله يستوعب كل وحدة ثقافية ذات معنى... فالنص ليس معطى أو شيئًا موجودًا يمكن إدراكه بمعزل عن الأنساق الثقافية التي أنتجته أو تستقر في نسيجه، النص بالأساس تشكيل ثقافي يتسم بالترابط والتماسك والدلالة... وهذا يعني أنه مفهوم شديد الاتساع، فكلُّ ما له معنى نصٌّ: فقد يكون رواية أو قصيدة، أو عملًا فنيًّا، أو إعلانًا أو مشروعًا معماريًا أو قطعة أثاث أو متحفًا أو طقسًا معينًا...إلخ. كما أنه قد يكون ماديًّا وقد يكون معنويًّا، وقد يتنزل في اللغة أو في غيرها مما يصعب حصره من الأشكال والتبديات الثقافية الدّالة من حولنا. (ص30) 
ولا يقتصر الأمر على هذا القدر، ولكن «أنا ماريا» تنتبه إلى الشبكة الواسعة التي تربط النص بغيره من النصوص والممارسات والأفعال داخل الفضاء الاجتماعي... فالحياة الاجتماعية بطبيعتها تنتج آثارًا نصية عظيمة التنوع. وهذا يعني ببساطة أن الانشغال هنا لن ينصب على النصوص المفردة بقدر ما يتوجه إلى الوعي بديناميات النسق الثقافي الذي تعمل النصوص في داخله، فهناك ارتباط ما يجب الوعي به والكشف عنه، بين مختلف أشكال الثقافة: أشكال التعبير، أنماط السلوك، أنماط السرديات النصية، والنماذج المرئية والنماذج الانفعالية... والغاية من هذا النظر المتسع هو أن نتمكن من «تعيين واستجلاء الأنساق العامة للارتباطات» التي تجمع مختلف الأشكال. (ص23)
يبدو النص هنا مفهومًا بلا شاطئ يمكن حصره فيه؛ فالواقع نفسه يتبدى لنا باعتباره نصًّا مركبًا متعدد الوسائط يتكون من عديد الأحاديث والكلمات واللغات، ومن هذه الزاوية تحديدًا تلتقي سميوطيقا الثقافة بالأنثربولوجيا التي تقدم بدورها خبرة قوية بالسياق وما يجري فيه من تفاعلات، تؤثر بشكل ملحوظ على وعينا بالواقع وإدراكنا له.
ولا تتجاهل «أنا مايا» بالتأكيد التراث النصي، ولكنها تحاول توظيفه على مستويين: الأول: هو مقاربة أو تأمل نصوص ثقافة معينة، والآخر: هو «مقاربة الثقافة ذاتها وتأملها بوصفها نصًّا مع التركيز على الارتباطات التي تمنح الثقافة تماسكًا». (ص33)
الكلام كله إذن يتجه نحو البحث في العلامية (أو السيميوسيس) - (هذا مصطلح يشير إلى الملكة الفطرية لدى البشر على إنتاج العلامات واستيعابها من كل نوع، بداية من العلامات البسيطة مثل نظم الإشارة إلى البنى الرمزية المعقدة للغاية، كما يشير إلى العملية التي تتضمن تأسيس وتشكيل العلاقة بين علامة ما وموضوع هذه العلامة ومعناها) - وذلك على نحو يتجاوز النزعة التجزيئية التي تتوقف عند حدود النص، فالبعد الثقافي لا يُستمد من النص المفرد بقدر ما يستمد من مجمل العلاقات المتبادلة بين النصوص.
فالاهتمام هنا لا يتوجه إلى النصوص بحثًا عما تمثله، ولكنه يبحث فيما «تقوم به وما تفعله»، فالنصوص «تشكل الممارسات: إذ تقدم نماذج للمعقولية والفعل، وتقوي القيم أو تضعفها، وتقرر وتطبع السلوكيات أو توصمها، وتمثل أو تختزل التفكير المركّب، وتجعل من الممكن تذكر أشياء ونسيان أخرى بصورة تدريجية... باختصار، إنها تلج إلى عالم الحياة الاجتماعية بوصفها عناصر فاعلة تؤثر في الواقع وتتفاعل معه». (ص33)
وهذا الفهم يعني أن المقاربة هنا لا تكتفي بتحليل المضمون، ولكنها تتجاوز ذلك إلى البحث في «الآثار الثقافية» للنصوص، والطريقة التي تتكيف بها ثقافيًا مع هذا النسق أو ذاك، وكيف يحدث هذا التفاعل بين النص والنسق، أو بعبارة أخرى كيف يحدث هذا التفاوض بين الاثنين، ليبقى النص في النهاية أكبر من مجرد «ثروة من المضامين» ولكنه فعل دينامي حي، «يدور ويتداول مع العالم المحيط». (ص33)

- المفهوم الثاني: الشفرة code
لعله من المفيد هنا أن نتذكر أهيمة هذا المفهوم في «البنيوية»، وارتباطه القوي بمفهوم البنية نفسه، ويظهر ذلك بصورة خاصة في أعمال «ليفي ستورس» (الأنثربولوجيا البنائية) وقد سبقت الإشارة إلى التداخل بين السيميوطيقا الثقافية والأنثربولوجيا..
لا تدير «أنا ماريا» ظهرها للبنيوية، ولا تغفل عن منجزاتها التي سرت في التيارات التي عرفت بما بعد البنيوية، تقرّ «أنا ماريا» بأن «سيميوطيقا الثقافة لا يمكنها أن تكون إلا بنائية»، ولكنها تمتاز بدرجة أو أخرى عن بنيوية الستينيات الكلاسيكية؛ فهي تقبل منها إدراكها المنظم والنقدي والنسقي للمعنى، وفي المقابل ترفض منها عيوبها التقليدية التي كثيرًا ما أخذها الدارسون على البنيوية، ويأتي على رأسها: النزوع التجريدي، والنظر غير التاريخي للمعنى. 
والشفرة code واحدة من المفهومات المركزية في البنيوية، ويمكن تعريفها - وفق إديث كريزويل - بأنها مجموع السنن والأعراف التي تخضع لها عملية إنتاج الرسالة وتوصيلها. فالشفرة نسق من العلامات يتحكم في إنتاج رسائل يتحدد مدلولها بالرجوع إلى النسق نفسه، وإذا كان تلقي الرسالة هو نوع من التشفير فإن تلقيها وتحويلها إلى مدلول هو نوع من فك الشفرة عن طريق العودة بالرسالة إلى إطارها المرجعي في النسق الأساسي... (عصر البنيوية ص374)
والشفرة بالتأكيد ذات طبيعة اتصالية، ولكن قيمتها الأساسية لسيميوطيقا الثقافة تأتي من قدرتها على خلق اتساق بنائي بفضل التوافق والتناغم المنظم بين عناصرها... وهذا يعني أنها قادرة على إيجاد المعنى ومنحه تماسكه، فـ«الشفرة ليست مجموعة من التعليمات التي يشترك فيها المرسل والمتلقي من أجل التواصل. بل إنها تمثل في الحقيقة أنساقًا من القواعد الاجتماعية، وهي ضرورية للدلالة على المعنى وإدارته وتنظيمه اجتماعيًّا». (ص38)
وعليه، فالشفرة أكبر من مجرد ضرورة تواصيلة، إنها - طبقًا لإيكو - لا تقول لك ما «يجب عليك» فعله أو فهمه، ولكنها تقترح عليك أيضًا «ما يمكنك» فعله أو فهمه... وهذا يعني أيضًا أنها تمنح الفعل أو الظاهرة هويتها وامتيازها، فكل ثقافة أو هوية اجتماعية لا يمكن إدراكها بمعزل عن شفراتها المختلفة: شفرات الموضة والشارع، واللغة العامية والرطانات الخاصة... الشفرات تنظم المعنى، وتمنحه تماسكه، داخل نسق أو بناء معين. (ص38)
فالشفرات تقوم بدور أساسي في تنظيم العالم الاجتماعي، باعتبارها مجموعة القواعد والتقاليد الاتفاقية التي تنظم عالمًا معينًا، مثل: عالم الجماعة الاجتماعية، عالم القرابة، عالم الموضة، أو عالم المطبخ والطهي، كما يعلمنا ستروس... ولا شك أن الدراسات السيميوطيقية للثقافة تدين له بجملة أمور، مثل: ضرورة التركيز على البنية التحتية غير الواعية للظواهر، وعلى السمات النسقية للثقافة، وعلى القوانين العامة.
من هذه الزاوية تحضر البنيوية في مقاربة «أنا ماريا»؛ فأن تكون بنيويًا «يعني أولا وقبل كل شيء، الشروع في عمل وممارسة تأويلية قادرة على استجلاء وتحديد أشكال المعنى البنائي، رؤية منظمة للعناصر، المرتبة في هيراركيات ومستويات...». 
ومن خلال توظيف الشفرات والتحديد الدقيق للأنساق، يأتي التعالق والتداخل بين البنيوية والسيميوطيقا، ليمنح الشفرات والأنساق التجسيد والتحديد والحيوية بقدر ما يبعد بهما عن التجريد الذي يؤخذ على البنيوية، إذ تتابع السيميوطيقا الثقافية النسق الداخلي لكل نص، وتهتم بالطريقة التي تتطور بها شفرة معينة عبر مختلف التجليات والمظاهر. 
ولا تكتفي «أنا ماريا» بذلك القدر، ولكنها تتابع تجليات النسق والشفرات البنائية لدى رولان بارت وجاك دريدا لتخلص إلى أن كل الظواهر السميوطيقية - هي بطبيعتها - اجتماعية ونسقية على حد سواء، لأنها ببساطة تستند على العلامات، وتأتي قيمتها أو أهميتها من كونها جزءًا لا يتجزأ من بناء كليّ وشامل... فكل خطاب وكل ممارسة، وكل نمط لغوي يستمد معناه من النسق الثقافي العام الذي ينتمي إليه... باختصار، لا توجد ظاهرة سيميوطيقية مستقلة. (ص50)
● كانت هذه قراءة أوليّة للمدخل التمهيدي والفصل الأول من كتاب «السيميوطيقا الثقافية» يلي ذلك ثلاثة فصول أخرى، لا شكّ في أهميتها، وضرورة مطالعة الخلاصات المهمة والتطبيقات العميقة التي تجدل النظر بالتطبيق، لتضفي عليه في الأخير مزيدًا من الحيوية والعمق ■