غازي القصيبيّ.. ذاكرة بحرينيَّة

غازي القصيبيّ.. ذاكرة بحرينيَّة

وُلِدَ غازي القصيبيّ في الهفوف عام 1359هـ =1940م، وحِين بلغ الخامسة مِنْ عمره انتقل مع أسرته إلى البحرين، لينشأ ويترعرع ويشبّ فيها، واختلف الطِّفْل غازي هناك إلى مدارسها، واختلط أقرانه مِنْ البحرينيّين، وتألَّفتْ بينه وبين كوكبة منهم الألفة والمحبَّة والصَّداقة، وتحلَّى بعادات أهل البحرين التي لم تكن لتختلف كثيرًا عمَّا يعرفه أبناء شرقيّ الجزيرة العربيّة في المأكل والمشرب واللَّهجة والأفراح والأتراح.

تَهَيَّأَتْ لنشأة القصيبيّ البحرينيَّة أسباب خلوصه لها، فسنوات الطِّفْل الخمس التي قضاها في الهفوف امَّحَتْ مِنْ ذاكرته، ولمْ يعرفْ مِنْ حياته هناك إلَّا ما استقاه مِنْ أفواه أهله، وإنْ كانتْ حياته في الهفوف بابًا لألم وحزْن لم ينتهيا، فالموت قد اخترم أمَّه الشَّابَّة، وقامت جدَّته لأمّه علَى تربية أبناء ابنتها، وأحاط الحُزْن والفجيعة قلب تلك العجوز التي فقدتْ زوجها وابنتها في عام واحد، ولكنَّها صبرتْ واحتسبتْ وأصبحتْ أُمًّا لأولئك الصِّبْية، وحين صَحَّ لربّ الأسرة التَّحَوُّل إلى البحرين كانتْ تلك العجوز المكِّيَّة مِنْ ضمن القافلة الصَّغيرة التي جازتْ واحات الأحساء وعَبَرَتِ البحْر نَحْو ذلك القدر الذي سيخبِّئه الله لها ولِحَفَدَتها في جزيرة البحرين.

تَأَذَّنَ الله لغازي القصيبيّ أنْ تبدأ حياته التي عاشها فرواها غير مرَّة في البحرين، وكأنَّ واعيته تأبَى أنْ تُلِمَّ بأيِّ حدث مِنْ سنواته الخمس في الهفوف، وأغلب الظَّنّ أنّها كانتْ قاسيةً عليه وعلى أشقَّائه وعلى جدَّته، وكأنَّ عبور البحر إلى البحرين مُخَلِّفًا وراءه الهفوف هو ضرب مِنَ المحْو لذكريات مضتْ والكتابة لذكريات أقبلتْ، فخلُصَ غازي للبحرين، وخلُصَت البحرين له، وظَلَّ فؤاده وحُبُّه وهواه مُعَلَّقًا بين وطنِه الذي نَزَحَ مِنْه ووطنِه الذي استقبله، وحِين شَبَّ ذلك الطِّفْل واستوى شاعرًا ذا صِيت آذن الشِّعْر لصاحبه أن يكون «شاعر القُطْرين» المملكة العربيَّة السّعوديّة والبحرين.

عاش غازي القصيبيّ في البحرين زهرة عمره، وكانتْ السَّنوات العشْر التي قضاها في البحرين هي سنوات التّكوين، ولذلك لا مَعْدَى له أنْ تكون ذاكرته ذاكرة بحرينيَّة خالصة، واصطلحت البيئة والنَّاس والثَّقافة في تلك الجزيرة على أنْ تصنعه البحرين على عينها، حتَّى إذا شَبَّ، وحتَّى إذا استوى رجلًا كاملًا، وحتَّى إذا أصبح أديبًا جهيرًا بعثتْ به، وهو قِطْعة مِنْ تاريخها، إلى وطنه الأمّ ليُكْمِل سِيرته الأولَى في الثَّقافة والإصلاح.

وفي البحرين تَهَجَّى الفتَى غازي الأحرف الأولَى لسرّ المعرفة، وفيها تَفَجَّر الشِّعْر علَى لسانه، وجعل يُسْلِس مِنْ نفوره حتَّى راضه، واستأنس له.

كان لأستاذه أحمد يتيم ولرفيقه في الصَّفّ عبدالرَّحمن رفيع اليدُ الطُّولّى لاجتذابه نَحْوَ الشِّعْر بأسراره التي تكشَّفَتْ لفتًى خَلَعَ رداء الطُّفولة، وها هو ذا يخْطو خطواته الأولى إلى الشَّبَاب بصَبْوتِهِ وزينته وعنفوانه، ينْظم عبد الرَّحمن قصيدة فينقضها غازي، وتستعر الخُصومة الشِّعريَّة العابثة بين الشَّاعرين الشَّابَّيْن، وكانت قصائد المهاجاة تلك سبيلًا لرياضة الشِّعْر واللُّغة، وذريعة لاستواء الشِّعْر بين يديْه، فهام في أودية الشِّعْر، عاشقًا مُدِلًّا بنفسه وبموهبته.

رَعَتِ البحرين ذلك الشَّاعر الشَّابّ، فقدْ آذَنَ نُشُوء الحركة الوطنيَّة فيها، وما اضطربتْ فيه الحياة العربيَّة في غير صُقْع بأن يُصْيخ غازي السمع إلى صوْت الثَّائرين، وأن يَلْتَفَّ أقرانه مِنْ شُبَّان الحركة الوطنيَّة في البحرين حوْل جمال عبد النَّاصر الذي صَعَدَ نَجْمُه في تلك المدَّة مِنْ تاريخ التَّحرُّر الوطنيّ.وأحسَبُ أنّ تلك النَّشْأة الأولَى قَرَنَتْ شِعْره بقضايا التّحرير والكِفَاح العربيّ التي لم تَنْفَكَّ ملازمة لغازي القصيبيّ في رحلته الشِّعْريَّة التي نوَّفَتْ على نِصْف قرن مِنَ الزَّمان، وإنْ كان موقع أُسْرته وصِلاتها القديمة بالأسرة الحاكمة في البحرين قدْ حَدَّ مِنْ أنْ يَصْدَعَ غازي بذلك الشِّعْر الوطنيِّ، وما كان لغازي أن يخرج على أمر أبيه، فآثَر أن يُذَيِّل قصائده الوطنيَّة الثَّائرة باسمه المستعار (محمد العُلَيْنِيّ).

غَشِيَ غازي القصيبيّ المنتديات الأدبيَّة في البحرين، وأذاع شِعْره في صُحُفها ومجلَّاتها، وكان ذا رأي في ما أخذ الأدباء فيه مِنْ ضُروب الشِّعْر، قديمه وحديثه، ومال بطبيعته التي ألقتْها في روعه شروط التَّربية أن يَجْنَح إلى القَصْد والاعتدال، وجعل يَدْفَع عنْ نفسه مَيْلَها الفِطْرِيّ إلى الثَّورة، وكان شِعْرُه في تلك الحِقْبة متوسِّطًا بين شِعْر الشّيوخ وشِعْر الشُّبَّان، وأَغْلَب الظَّنّ أنّ مصالح أسرته وجاهها العريض وما تمتّ به مِنْ علائق وثيقة بالأسرتين الحاكمتين في السّعوديّة والبحرين قدْ وَطَّناه على الحذَر والتَّحَسُّب، وليس مِنْ شُروط الضِّيافة، وهو سُعوديّ نشأ في البحرين، أنْ يُثير شِعْره في الاستعمار النُّفوس المتعطِّشة للحُرِّيَّة والاستقلال، فالبحرين مَحْمِيَّة بريطانيَّة، وما يَجُوز لأترابه مِنْ شُعراء البحرين لا يجوز له، وليس له إلَّا أن يَقْمَع ذلك الشِّعْر الوطنيّ الثَّائر الذي حَكَّ في صدره، ولْيَلْزَمِ الصَّمْت فذلك أَسْلَم.

إذن. إنْ لم يكنْ غازي القصيبيّ ثائرًا فَلْيَكُنْ مُجَدِّدًا، ولْيَصُبَّ غَضَبه وسُخْطَه على ما اصطلح عليه الشّعراء المقلِّدون في البحرين والأقطار العربيَّة الأخرى.

ذلك ما يقوله نقَّاد غازي القصيبيّ ودارسو شِعْره في حِقْبته البحرينيَّة، فأثره في شُعراء البحرين قويّ، بلْ إنَّه استطاع أن يَخْطُوَ بالشِّعْر في البحرين خُطُواتٍ لم يستطعْ أنْ يُحقِّقها شاعر البحرين الكبير إبراهيم العريِّض. يقول النَّاقد والشَّاعر البحرينيّ علويّ الهاشميّ:

«إنَّ غازي أوَّل مَنْ جَسَّد طموحات العريِّض الفنِّيَّة وأحلامه في الانطلاق بالشَّكْل التَّعبيريّ إلى فضاء الحداثة، مِمَّا عَجَز العريِّض نفسه عنْ تحقيقه. كما أنَّه حاول التَّعبير عنْ طموحات المعاودة السَّاعية إلى تصوير الواقع وتجسيد همومه وقضاياه الحيَّة». (شعراء البحرين ص 102).

لم تكنِ البحرين مكانًا يلوذ به غازي القصيبيّ ثمّ يَتحوَّل عنه، ولكنَّ البحرين كانتِ الأُمَّ التي ألفَى في كَنَفِها الطُّمَأنينة والدَّعَة والسُّكون، وكانتِ الرَّحِم التي رعَاه طِفْلًا وشابًّا، ويلفت النَّظر أنَّ البحرين هي التي أسبغتْ عليه هُويَّته الأدبيَّة، فحينما رام غازي نَشْر ديوانه الأوَّل، حار في اسم يَتَّخِذه عنوانًا له، وقَلَّب نظره في غير عنوان يرتضيه هو ووالده وأسرته، وقدْ كان لهم أثرٌ في حياته، فعبارة «ليالي الصِّبَا» التي ارتضاها عنوانًا لديوانه لم يُسِغْه والده، فكلمة «ليالي» تحمل في أعطافها معاني لا يحتملها عقل الشَّيخ، و«أغاني الصِّبا» سوف يخلط بين ديوانه وديوان الشَّاعرة المصريَّة ملك عبد العزيز زوج النَّاقد الشَّهير محمد مندور و«شباب» يجعله أدْنَى صِلَةً بديوان النَّاقد والشَّاعر عبدالقادر القطّ «ذكريات شباب».

وقبْل أنْ يُعْييه أمر «التَّسْميَة»، والتَّسْميَة هويَّةٌ وولادة، زَيَّن له صديقه ناصر بوحيمد أن يُطْلِق على ديوانه اسم «أشعار مِنْ جزائر اللُّؤلؤ»، فاستطاب غازي هذا العنوان، وسَرعان ما أخرج للنَّاس ديوانه الأوَّل عام 1380هـ=1960م، وأطْرَف ما في الأمر أنَّ ناصر بوحيمد شاعر سعوديّ نشأ في البحرين! ولكَ أنْ تُجِيل في خاطرك انتخاب هذا الاسم والرِّضا به، فجزائر اللُّؤلؤ هي البحرين، وكان بين يديه لوْ أراد أن يتَّخذ ديوانه اسم «أشعار مِنْ الأحساء»، وهو ابن الأحساء، أوْ الخليج، ولكنَّه أَبَى ذلك كلّه، وآثَر أنْ يَعْرِضَ على القارئ العربيِّ شِعْرًا تَغُور جذوره في تُراب البحرين، حتَّى لوْ احتوَى ذلك الدِّيوان على شِعْر نظمه غازي في أثناء إقامته في القاهرة!

ليس عجيبًا، أن يفتتح غازي القصيبيّ ديوانه بقصيدة يشتاق فيها إلى البحرين، في قصيدة «جزيرة اللُّؤلؤ».

أَرْضِي هُنَاكَ.. مَعَ الشَّوَاطِئِ..
وَالْمَزَارِعِ... وَالسُّهُولِ
فِي مَوْطِنِ الأَصْدَافِ.. والشَّمْسِ الْمُضِيئَةِ... وَالنَّخِيلِ
أُمِّي هُنَاكَ... أَبِي.. رِفَاقِي
نَشْوَةُ الْعَيْشِ الظَّلِيلِ
حَيْثُ الْحَياةُ تَمُرُّ صَافِيَةً
مُعَطَّرَةَ الذُّيُولِ
حُلُمٌ شَهِيُّ الطَّيْفِ..
تَقْنَعُ مِنْهُ عَيْنِي بِالذُّهُولِ

وحِينَ تَلُوح «الْمَنامة» يتبدَّد الظَّلام، ويستعيد «الْمَلَّاح» زَوْرقه التَّائه، وتُشِعّ الأضواء، ويُهَنَّأ الغريب بعودته إلى مرفئه سالِمًا، فها هو ذا وطنه يُطِلّ عليه، بعد أنْ نهكتْه الغربة طويلًا

الضَّوْءُ لَاحَ.. فَدَيْتُ ضَوْءَكِ
فِي السَّوَاحِلِ يَا مَنَامَهْ
فَوْقَ الْخَلِيجِ أَرَاكِ زَاهِيَةَ
الْمَلَامِحِ كَابْتِسَامَهْ
الْمَرْفَأُ الْغَافِي وَهَمْسَتُهُ
يُهَنِّئُ بِالسَّلَامَهْ
وَنِدَاءُ مِئْذَنةٍ مُضَوَّأَةٍ
تُرَفْرِفُ كَالْحَمَامَهْ
يَا مَوْطِني! ذَا زَوْرَقِي
أَوْفَى عَلَيْكَ فَخُذْ زِمَامَهْ

هَلْ كان في حُسبان ذلك الشَّاب الذي نَشَر ديوانه في بيروت، وكَرَّ راجعًا إلى القاهرة ليُكْمِل سنته الرَّابعة في جامعتها أنّ أشعاره تلك لم تكُنْ حديثًا عابرًا في الحبّ يَقْطَع بها العُشَّاق أوقاتهم؟ وهلْ ذهب به الظَّنّ أنْ سيكون هذا الدِّيوان قوَّة دافعة للحركة الشِّعْرِيّة الحديثة في البحرين؟ أغْلَب الظَّنّ أنَّ شيئًا مِنْ ذلك لم يخطر بباله، غير أنَّ غازي قال كلمته ومضَى، وأكبّ شعراء البحرين الشُّبّان على ديوانه، يستظهرونه ويقتفون أثره. وفي ذلك يقول الشَّاعر البحرينيّ قاسم حدَّاد:

«فذلك الكتاب هو مِنْ بين الكتب التي تعرَّفْتُ بها باكرًا على صوت جديد مختلف في كتابتنا في تلك الفترة، وأعني كتابتنا التي كانتِ الجغرافيا قيْدًا ظالِمًا لها في سنوات التأسيس الحديثة، ولعلّ الذين نَجَوْا مِنْ ذلك، وغازي أحد المبكِّرين، هم الذين تمكَّنوا مِنَ الكتابة في أُفق أكثر حيويَّة مِنْ حيث الرّؤية الإنسانيَّة مضمونًا، والأهمّ مِنْ حيث جوهر الأشكال والأساليب والأدوات الفنِّيَّة، وهذا، في تقديري، هو العامل الحاسم الذي سَبَقَنا إليه غازي القصيبيّ مِنْ حيث جرأة الخروج عن القالب، الذي تململ فيه بعض الوقت، بأشعاره الأولَى، لكنّه سَرعان ما قال لنا كلمته الشِّعْريَّة، فنِّيًّا بقَدْر مشجِّع على الذِّهاب إلى الحرِّيَّة».

غادر غازي القصيبيّ البحرين، وضرب في الأرض البعيدة طَلَبًا للعِلْم، وآبَ إلى وطنه المملكة العربيَّة السّعوديّة عام 1384هـ (1964م) بعد أنْ ظَفِرَ بدرجة الماجستير في العلاقات الدَّوليَّة مِنْ إحدى الجامعات الأمريكيَّة، وأصبح محاضِرًا في جامعة الرِّياض (جامعة الملك سعود)، وشيئًا فشيئًا بدأ يعتاد وطنه الذي غادره طفلًا واغترب عنه سنين عددًا، لكنَّه آب إلى الرِّياض وفي أعماقه نخلة بحرينيَّة، فرُوحُه، كما تُظْهِرُها سِيرته، تَحُوم حَوْل زُرْقة البحْر، حَيْثُ الطُّفولة والصِّحاب، وحيثُ شاغبه الحُبّ ذات مرَّة، ويُمْكِن القول إنَّ زُملاءه في الرِّياض، في تلك الْمُدَّة، عرفوه أستاذًا جامعيًّا وعميدًا لكلِّيَّة التِّجارة، أمَّا البحرين فقد ظلَّ رفقاؤه وقرَّاؤه يُطْلِقون عليه لقب «الشَّاعِر».

ومِمَّا يُصَدِّق ذلك أنَّ ديوانه الثَّاني «قطرات مِنْ ظَمَأ» خرج للنَّاس في مُدَّة إقامته الأولَى بالرِّياض عام 1385هـ (1965م)، بَيْدَ أنَّ نِصْف نُسَخِه بِيعَتْ في البحرين وأقطار الخليج، ويمكن القول إنَّ غازي القصيبيّ كان إلى ما قبل تكليفه أعباء الوزارة في المملكة العربيَّة السّعوديّة عام 1395هـ (1975م)- كان ذا نَشَاطٍ بيِّنٍ في صِحافة البحرين ومنتدياتها الأدبيَّة.

يؤيِّد ذلك أنَّ غازي القصيبيّ كان يُذيع قصائده ومقالاته الأدبيَّة في صحافة البحرين، وأنَّه خاض غير معركة أدبيَّة عن الالتزام وغاية الأدب مع جمهرة مِنْ أدباء البحرين وشعرائها، وبحسْبنا أنْ نُذَكِّر القارئ أنَّ ديوان «أبيات غزل» الذي صدر عام 1396هـ (1976م)، بعد أنْ حَمَل أعباء وزارة الصِّناعة والكهرباء، إنْ هو إلا أثر مِنْ آثار الحِقْبة البحرينيَّة، وأنَّ بُداءة انتمائه إلى الحركة الأدبيَّة في المملكة العربيَّة السّعوديّة إنَّما يُعَبِّر عنه خير تعبير ديوانه «أنتِ الرِّياض» الذي صدر عام 1397هـ (1977م)، وفي هذا الدِّيوان بدأتْ معالم البيئة السّعوديّة تنْسلّ إلى جمهرة منْ قصائده، وبهذا الدِّيوان أصبح غازي القصيبيّ ذا أثر، أيّ أثر في الحَراك الأدبيّ في بلاده!

ظَهَرَت الصَّحراء في شِعْر غازي في «قطرات مِنْ ظمأ»، و«معركة بلا راية»، واستبانتْ في «أنتِ الرِّياض»، بَيْدَ أنَّ البحر كان قدْ صبغ حياة غازي وشِعْره، وحيثما ضرب في الأرض كان يبحث عنْ تلك الواحة التي خلَّفها وراءَه، يستحثّه «ظمأ» الصحراء فيحُثّ الخُطا بحثًا عنْ «ريّ» البحر، وظلّ البحر والصَّحراء يتجاذبانه، إنَّه لم يَجْفُ الصَّحراء، ويُظْهِر شِعْره شغفه بها:

وَطُفْتُ الْكَوْنَ.. لَمْ أَعْثُرْ
عَلَى أَجْدَبَ مِنْ أَرْضِكْ
عَلَى أَطْهَرَ مِنْ حُبِّك...
أَوْ أَعْنَفَ مِنْ بُغْضِكْ

لكنَّه لم يتنكَّر للبحر، فهو كامن فيه وكأنَّه صَدَفَة مِنْ أصدافه، ويَظْهَر شغفه بالبحر في مفرداته التي تنساب على صفحة شِعْره، وبلغ مِنْ سَطْوة البحر عليه أنْ حمله إلى منزله في الرِّياض، إذْ كانتْ له غُرْفة بحريَّة تحمل مِنْ البحر كُلَّ شيءْ إلا ماءَه! واستطاع، كما قال محمد جابر الأنصاريّ، أن يُوفِّق بين البحر والصَّحراء في حياته وفِكْره، وخلُص إلى هذه الموافقة البديعة:

بَدْوٌ وَرَحَّالَةٌ مَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا
وَالْبَرُّ وَالْبَحْرُ يَنْسَابَانِ مِنْ مُضَرِ

وكأنَّ ذلك الجِسْر الذي قَرَّب واحات شْرقيّ المملكة العربيَّة السّعوديّة إلى جُزُر البحرين قَبَسٌ مِنْ رُوحه الذي فيه أثر مِنْ كِلا البلدَيْن، فهو يُلْفِي نفسه هنا وهناك.

وكُلَّما تقدَّمَتْ بغازي القصيبيّ السِّنّ تَشُدُّه البحرين إليها، فثمَّة البِئْر الأولَى، بئْر الذَّاكرة التي تكوَّنَتْ فيها، وحقيق لِمَنْ تأمَّل أدب القصيبيّ أن يُمْسِك بالبحرين غائرة فيه، فهْي «بِئْر» الحكايات التي لا تَغِيض، وإليها يَفْزَع ويَعُبّ مِنْ مائها وأساطيرها وحكاياتها، ليبدأ رِحْلة جديدةً في أدبه، فبعْدَ أنْ عَرَفَه الأدب العربيّ الحديث شاعرًا تتقدَّمه «أشعار مِنْ جزائر اللُّؤْلُؤ»، انعطف مَرَّةً أخْرَى إلى البحرين فكان ديوانه «العودة إلى الأماكن القديمة» (1405هـ-1985م)، وليستْ تلك الأماكن سوى البحرين، التي رجع إليها سَفِيرًا لبلاده بعد وزارته الأولَى، وما إنْ رَجَع الابن إلى حِضْن أُمِّه التي تنعَّمَتْ به حِينًا مِنَ الدَّهْر، واستعاد ذاكرته ونفسه، حتَّى ضَرَبَ في الأرض سَفِيرًا لبلاده في بريطانيا، وقبل أن يُغادر البحرين التي خَرَج أميرها، على تقاليد الإمارة، ليودِّع السَّفير العاشق، تضوَّعَتْ سماء البحرين بكلمات غازي:

أَتَذْكُرِينَ إِذَا مَا غِبْتُ فِي سَفَرِي
أَنِّي خَلَعْتُ عَلَى عَيْنَيْكِ سِحْرَهُمَا؟
وَأَنَّنِي قُلْتُ فِي عَيْنَيْكِ قَافِيَةً
مَا اسْتَوْطَنَتْ وَرَقًا لَوْلَايَ أَوْ قَلَمَا؟
وَأَنَّنِي كُنْتُ فِي العُشَّاقِ.. أَعْشَقَهُمْ
وَكُنْتُ فِي الشُّعَرَاءِ الْمُفْرَدَ الْعَلَمَا؟
وَكُنْتِ بَيْنَ حَبِيبَاتِي الْأَعَفَّ هَوًى
الأَجْمَلَ.. الأَنْبَلَ.. الأَصْفَى.. الأَرَقَّ فَمَا؟
شِعْرِي كَحُسْنِكِ.. لا يَخْبُو شَبَابُهُمَا
لَمْ تَشْكُ لَيْلَى.. وَلا مَجْنُونُهَا هَرِمَا

وهُناك في الحِقْبة اللَّنْدنيَّة متح غازي القصيبيّ مِنْ البِئْر الأولَى، بِئْر البحرين، وبدأ حِقْبة جديدةً في حياته وفي أدبه بروايته «شُقَّة الْحُرِّيَّة» بأبطالها البحرينيّين!

وحِين آبَ غازي إلى وطنه المملكة العربيَّة السّعوديّة في وزارته الأخيرة كان «الْمَلَّاح» الذي ألفيناه شابًّا في «أشعار مِنْ جزائر اللُّؤْلُؤ» قدْ أعْياه الدَّرْب، واصطلحتْ عليه الهموم والآلام، وبات يستدني رحيله عنْ دنيانا، وأضحَى لَهِجًا بالموت، فَفَزِعَ الْمَلَّاح الشَّيْخ إلى البئْر الأولَى يسترفدها، فما بخِلَتْ عليه، فأخرج حكايته مع الموت «المواسم» عام 1427هـ (2006م). وفي هذا الكتاب الصَّغير نَعْرِف مِنْ غازي القصيبيّ ما لمْ نعرفْه مِنْ قَبْلُ، فليس في هذا الكتاب سوى نُذُر الموت الذي أضحَى خدينه منذ نشأته الأولى، وفيه نرى ذلك الرَّجل الفارع الطُّول كسيرًا باكيًا، وقدْ عرفْناه مِنْ قَبْلُ ضاحكًا ساخِرًا، وتَلُوح البحرين في هذا الكتاب لتحْنُوَ على ابنها، وبَقِي في بِئْر الذَّاكرة بُلْغة منها، ويكرّ غازي إلى موسم اللَّذَّات قبْل أنْ تغتاله النَّوَى، إلى بيتهم القديم في الرِّفاع، في البحرين، فعساه أن يجد فيه شيئًا مِنْ فَرَح، وتُطِلّ صُورة الفِناء الدَّاخليّ لذلك البيت حزينة شاحبة، ويقرأ القارئ فيها، وقد اتَّخذها غازي صورة للغلاف، طَلَلًا جاء الشَّاعر أخيرًا ليبعث فيه الحياة نَثْرًا.

وحِينَ أخرج غازي ديوانه ذا العنوان الموحي «حديقة الغروب» عام 1428هـ(2007م) أدْرك قارئه أنَّ الشَّاعر ينعَي نفسه إلى النَّاس، فقدْ آن للملَّاح أن يستريح مِنَ غُرْبته وتجواله، وبات يستدني أجله بنفس مطمئنَّة:

يَا عَالِمَ الغَيْبِ! ذَنْبِي أَنْتَ تَعْرِفُهُ
وَأَنْتَ تَعْلَمُ إِعْلَانِي.. وَإِسْرَارِي
وَأَنْتَ أَدْرَى بِإِيمَانٍ مَنَنْتَ بِهِ
عَلَيَّ.. مَا خَدَشَتْهُ كُلُّ أَوْزَارِي
أَحْبَبْتُ لُقْيَاكَ.. حُسْنُ الظَّنِّ يَشْفَعُ لِي
أَيُرْتَجَى الْعَفْوُ إِلَّا عِنْدَ غَفَّارِ؟

وقبل أن يَمَلَّ الشَّاعر ضوْضاء المدينة ويجد خلاصه في الموت، يَغُور في أعماق البِئْر الأولَى، ويَسْتَعِيد ملامحه الذي غادرها منذ غادر البحرين، وحقيق لمن تأمَّل رحلة غازي القصيبيّ مع الشِّعْر، أن يُدْرِك أنَّ البحرين كانت له البَدْء والمنتهَى، كانتْ البَدْء حين قدَّمتْه شاعِرًا في «أشعار مِنْ جزائر اللُّؤْلُؤ»، وكانتِ المنتَهَى حين أخْرَج غازي آخِر دواوينه «البراعم» 1429هـ (2008م)، هذا الدِّيوان الذي ضَمَّ بين غلافيه أشعاره الأولَى التي لم يضمَّها ديوان مِنْ دواوينه السَّابقة، وهي تلك الأشعار التي نظمها غازي القصيبيّ حينما كان يرى العالَم مِنْ حوله بعيْنَيْن بحريْنيَّتَيْن، وكأنَّ هذه الأشعار التي لم يتَّسع لها صدر ديوانه الأوَّل تكملة له، وقدْ آن للسِّندباد الشِّعْرِيّ أن يئوب، بعد تطوافه شرقًا وغربًا، إلى جزيرة اللُّؤْلُؤ، إلى البئْر الأولَى، بِئْر الطُّفولة والبراءة والأساطير والأشعار.

وحِين عاد مِنْ رِحلة استشفائه الطَّويلة في أمريكا آثَر أن يُلْقِي في أمكنته القديمة في البحرين مَرْساة الملَّاح، يستمدّ مَددًا مِنْ البِئْر الأولَى، ويُصْيخ السمع إلى صوت الذِّكريات، قبْل أن يغتاله المرض وتستأثر به الصَّحراء التي أحبَّها وأحبَّتْه، فَيَلْقَى بارئه بعيدًا عن «جزائر اللُّؤْلؤ»، وها هي ذي الرِّياض التي توسَّد ثراها تُرَدِّد كُثْبانها ما قاله غازي ذات يوم:

أُحِبُّكِ حُبِّي عُيُونَ الرِّياض
يُغَالِبُ فِيهَا الْحَنِينُ الْحَيَاءْ
أُحِبُّكِ حُبِّي جَبِينَ الرِّياض
تَظَلُّ تُلَفِّعُهُ الْكِبْرِيَاءْ
أُحِبُّكِ حُبِّي دُرُوبَ الرِّياضِ،
عَنَاءَ الرِّياضِ، صِغَارَ الرِّيَاضْ

 

حسين محمد بافقيه

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات