المقاطعة التجارية سلاح فعَّال
في مواجهة القوة الوحشية التي يقوم بها الكيان الصهيوني في الأراضي العربية المحتلة، برزت قوة أخرى أكثر نعومة، وربما أكثر إنسانية، هي المقاطعة التجارية للشركات الداعمة لهذا الكيان، والتي تمثل نقطة تحول في سياق تداعيات عملية طوفان الأقصى، التي أكملت عامها الأول هذا الشهر، فالمقاطعة التجارية لم يقتصر نجاحها فقط على المحيطين العربي والإسلامي، إنما امتد إلى العالم الغربي، وإلى بعض الشركات والمؤسسات في الولايات المتحدة، وأوربا، إلى جانب أمريكا اللاتينية وشرق آسيا، لتواجه هذه «القوة الناعمة» الكيان الصهيوني وأكاذيبه بما توفره منصات التواصل الاجتماعي، من مساحة لتفنيد الروايات الصهيونية المؤيدة لاحتلال الأراضي العربية.
ذلك الأمر جعل بعض العلامات التجارية العالمية. ليس في أسواق مال الشرق الأوسط فقط، بل أيضًا في بورصات العالم مثل «وول ستريت» تفصح عن تأثر أعمالها، وتراجع مبيعاتها الضخمة نتيجة هذه المقاطعة، أو على الأقل لكون المقاطعة كانت أحد أسباب التراجع في الأداءين التشغيلي والمالي.
تداعيات المقاطعة
فعلى سبيل المثال أطاح الأداء المالي الضعيف لربعين متتالين على مدى عدة أشهر لواحدة من أشهر شركات القهوة في العالم ستاربكس برئيسها التنفيذي لاكسمان ناراسيمهان، حيث كانت هذه الشركة هدفًا لحركات المقاطعة، بسبب مواقفها السياسية المرتبطة بالحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، ما أثر على شعور المستهلكين والمبيعات، خصوصًا في الأسواق الخارجية الرئيسية، أما سلسلة مطاعم ماكدونالدز، فقد أعلنت عن تسجيلها انخفاضًا مفاجئًا في مبيعاتها العالمية خلال الربع الثاني من هذا العام، وهو أول تراجع لها في 13 ربعًا، متأثرة بتداعيات المقاطعة في الشرق الأوسط، إلى جانب عوامل أخرى كارتفاع معدلات التضخم، وتباطؤ تعافي النمو في الصين، وهو ما جعلها تعتمد سياسة تسويقية غير مألوفة، كإعلانها خلال الأشهر الماضية عن وجبة منخفضة التكاليف «وجبة الـ 5 دولارات» لتحفيز المبيعات في الأسواق التي تواجه مصاعب لافتة، أما سلسلة مطاعم كنتاكي فتعتزم من خلال فرعها في كندا تقديم الدجاج المحضر وفقًا للشريعة الإسلامية في بعض المناطق، في مسعى لكسر المقاطعة المتصاعدة، وجذب الجمهور العربي والمسلم.
وتعرضت شركة دومينوز بيتزا للمقاطعة بشكل لافت، خصوصًا في أسواق آسيا، حيث انخفضت المبيعات بنسبة 8.9 بالمئة في النصف الثاني من العام الماضي. وتسببت الصور التي تم تداولها على وسائل التواصل الاجتماعي، والتي تظهر الشركة وهي توزع وجبات مجانية على الجنود الإسرائيليين، بردود فعل كبيرة غاضبة، وفقًا للوكالة.
تراجع الأرباح
وعلى صعيد المقاطعة في الشرق الأوسط، يمكن قياس النتائج من خلال الشركات المدرجة كشركة أمريكانا للمطاعم العالمية، إذ بلغ صافي الربح 80 مليون دولار خلال النصف الأول من 2024م، وبنسبة تراجع 45 بالمئة، مقارنة مع 145 مليون دولار كانت قد سجلتها في الفترة المماثلة من العام الماضي.
وحسب وكالة بلومبرغ فقد أوقفت شركة جنرال أتلانتيك مؤقتًا بيع حصتها البالغة 20 بالمئـــة فــي شركـة «ماب بوغا أديبيركاسا» (Map Boga Adiperkasa) المشغلة لـ «ستاربكس» في ديسمبر الماضي. وتقدر قيمة الحصة في الشركة التي تعد واحدة من أكبر مشغلي امتيازات الوجبات السريعة في إندونيسيا، بنحو 54 مليون دولار، كما أوقفت شركة «سي في سي كابيتال بارتنرز»، وهي من كبرى شركات الأسهم الخاصة في أوربا بيع حصتها البالغة 21 بالمئة في شركة «كيو إس آر براندز» الماليزية، المشغل المحلي لسلسلة مطاعم كنتاكي وبيتزا هت بسبب المقاطعة، وقدرت قيمة الحصة بأكثر من 1.2 مليار رينغيت ماليزي (252 مليون دولار)، ويؤكد تجميد مجموعات الأسهم الخاصة العالمية على مبيعات الأسهم شدة المقاطعة في منطقة تضم 250 مليون مسلم.
ويتجنب المستهلكون في إندونيسيا وماليزيا - ذواتي الأغلبية المسلمة - إلى جانب الأسواق العربية الكبيرة العلامات التجارية الأمريكية منذ بدء العدوان الإسرائيلي على غزة في أكتوبر الماضي.
غير أن حملات المقاطعة لم تتوقف آثارها فقط على الجانب المالي، إذ ساهمت أيضا في كبح جماح التأييد الأهوج للعدوان الصهيوني وتقديم التعاطف لجيش الاحتلال، إذ باتت شركات داعمة للصهاينة تتنكر من هذا الدعم وتعمل على «تبييض» مواقفها وتعلن أنها شركات لا علاقة لها بالسياسة، في إعلانات متفرقة لشركات وعلامات تجارية، مثل «ستاربكس» و«ماكدونالدز» و«كوكا كولا» وفرعها «كوستا كوفي» و«أمازون» و«غوغل»، و«مارس»، و«نستله»، و«زارا»، وبنك باركليز، و«بن آند جيري»، و«ليدل»، و«تيسكو»، و «ويتروز»، و«إم آند إس» و«كنتاكي فرايد تشيكن» وغيرها.
تغيير استراتيجيات الشركات
ولا ترتبط المقاطعة فقط بالأرباح والخسائر، إنما تؤثر أيضًا في تغيير استراتيجيات الشركات ومستقبلها، فشركة الأمن الخاصة «جي 4 إس – G4S» قررت بيع جميع أعمالها المتبقية في الأراضي المحتلة، وشركة «فيولا – Veolia» الفرنسية التي أصبحت أول شركة عالمية تنسحب بشكل كامل من السوق الإسرائيلية بعد خسارة عقود عمل تقدر بأكثر من 20 مليار دولار، بحسب ما أفادت به حركة مقاطعة إسرائيل، وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها (BDS)، كما انسحبت شركة الاتصالات الفرنسية «أورانج – Orange» من السوق الإسرائيلية بعد حملات ضدها في فرنسا ومصر، وشركة «إتش بي – HP» العالمية، التي فسخت عقدها مع سلطة الاحتلال لتوفير خوادم لحوسبة قاعدة بيانات المستوطنين الإسرائيليين.
والمقاطعة بطبيعتها سلوك متكرر تاريخيًا، ويحمل التاريخ الحديث العديد من صور حملات المقاطعة الناجحة، والتي تحولت إلى أثر مستدام في التاريخ الإنساني كحملة مقاطعة السكر في القرن التاسع عشر، التي أفضت إلى إلغاء العبودية في أمريكا، أو الحملة التي أطلقت في نهاية ثمانينيات القرن الماضي على شركات التجميل بالولايات المتحدة، لمنعها من إجراء اختبارات لمنتجاتها على الحيوانات، فضلًا عن المقاطعة الأشهر عالميًا والتي تعد نبراسًا لأي مشروع أو حملة مقاطعة في العالم التي قادها المهاتما غاندي في نضاله لاستقلال الهند عندما قاطع الهنود استخدام منتجات القطن البريطانية، لتمتد لاحقًا إلى كل المنتجات.
وفي الحقيقة، فإن المقاطعة كقوة ناعمة لم تقتصر فقط على جانب الشركات بل امتدت بفضل الأجيال الأصغر سنًا، التي كونت نظرة مختلفة تجاه القضية الفلسطينية، إلى الجامعات بحيث تحولت مطالب قطع العلاقات المالية والأكاديمية مع جامعات الكيان الصهيوني إلى حملات طلابية حققت في أكثر من حالة نتائج إيجابية، إذ أعلنت جامعة باليرمو الإيطالية في مطلع يونيو الماضي عن مقاطعة كل العلاقات الأكاديمية مع الجامعات الإسرائيلية حتى انتهاء الحرب على غزة، وجاء القرار بعد 26 يومًا من الاعتصام الذي أقامه طلبة الجامعة احتجاجًا على الصلات التي تربط جامعتهم مع الباحثين والجامعات الإسرائيلية، كما صوت مجلس كلية بيتزر الأمريكية ومقرها كاليفورنيا، لمقاطعة مختلف الجامعات والمؤسسات التعليمية الإسرائيلية كأول مؤسسة للتعليم العالي في الولايات المتحدة تصوت على هذا النوع من المقاطعة الأكاديمية، كما أقرت جامعة كاليفورنيا - ديفيس قرارًا يمنع استخدام أموال ميزانية الجامعة لدعم الاحتلال الإسرائيلي، بأي استثمارات أو دعم الشركات المتواطئة في الإبادة الجماعية بقطاع غزة، إضافة إلى حظر شراء منتجات هذه الشركات مستقبلًا.
والمقاطعة ليست فقط إجراءً عقابيًا للكيانات الداعمة للاحتلال إنما أيضًا فيها جانب مهم من ترشيد السلوك الاستهلاكي وتوجيه لرفع كفاءة المنتجات المحلية، لاسيما في السلع الاستهلاكية والضرورية.
ولكن المقاطعة هنا رغم اتساع نطاقها لا تعتمد هنا إلا على يقظة الضمير الإنساني الذي هاله العدوان الوحشي لإسرائيل على قطاع غزة، وهو للأسف شعور لن يستمر طويلًا، لذا يجب أن نستفيد من هذه الفرصة التي هيأها لنا ضمير العالم، وننقل هذه المقاطعة لواقع أكثر انتشارًا وصلابة فهي سلاح لا مفر من استخدامه في هذه المرحلة من صراعنا الطويل مع الصهاينة التي تتطلب الكثير من الصبر والوعي بأهميته الكبيرة ■