أسئلة القراءة الفعل والمنهج والأفق

أسئلة القراءة الفعل والمنهج والأفق

تكشف أسئلة القراءة عن إشكالية مركبة قد تدفع للتفكير في ثلاث قضايا تربطها بالقراءة عدة وشائج: الأولى، تهم الفعل (هل نقرأ؟)؛ أي الفعل المتولد من حرية القارئ القائمة على أسّ إبستيمولوجي بخلفية دعم الذات معرفيًا، ورفع منسوب وعيها وإدراكها للوجود الممتد، بما فيه وجود الأنا. والثانية، تخص المنهج (كيف نقرأ؟)؛ أي الطريقة التي نستند إليها في القراءة، أكانت كثيرة أم قليلة، أكانت مؤطر بسياق بحثي يستدعي القراءة لزومًا أم موجهة باهتمام ذاتي حرّ. والثالثة، تقترن بالأفق (لماذا نقرأ؟)؛ بوصفه أفقًا توجهه غايات معينة، ورهانات متنوعة. 

 

تسهم القراءة في الارتقاء بالإنسان، وتجعل وجوده مؤطرًا بالفكر الخلاق والقيم النبيلة. إنَّه الأفق المثالي لتراكم القراءة، وعَبْرَه تُحقق الذاتُ وجودًا ملؤه الفهمُ والإدراك والوعي... بامتدادات الحياة المختلفة. لهذا، أنْ يقرأ الإنسان معناه الانشغال بالوجود والذات لأجل الفهم، ومعناه بناء حصانة فكرية تؤمّن صموده أمام التفاهة، وتبني شخصيته على مبدأ التمرد، فيتراءى إنسانًا رافضًا الإذعان والشر والتسلط والخضوع... إلخ. كذلك، أن يقرأ الإنسان معناهُ أن يُوفر لذاته ما بهِ يقنع ويفحم، لأنه يمتلك ما يسعفه في الحجاج والبرهنة. 
تتراءى القراءة فعلًا يدعم الوعي بوجود معقد ومركب، وممارسة تدفع الذات القارئة للانصراف عن النميمة والضياع في تفاصيل اليومي، والاشتباك مع الأفكار التي تسعف في التفكير والتحليل والتأويل. من هنا، فإن القراءة تصيّر الإنسانَ مرتبطًا، بأكثر من وشيجة، بالأخلاق الفاضلة والقيم النبيلة والتفكير العقلاني، كما تصيِّره قادرًا على التمييز بين سياقات الوجود، ومقامات التواصل الملزمة لتوظيف العقل أو العاطفة، والموجبة لكشف الخطأ من الصواب، والمفضية لاكتشاف الوهم ومعرفة الحقيقة، والمساهمة في إضاءة العميق وإظهار المحتجب. القراءة، إذًا، معرفة تُنير، وفعلٌ يضئ ويُحرر. لهذا، لا يمكن التفكير في السؤال: هل نقرأ؟، إلا في علاقته الجدلية بسؤال يترتّب عنه، لزوما: هل يجب أن نقرأ؟
تأكيدًا، القراءة واجبة، ويجب أنْ نقرأ. إنّه الوجوب الدال على الحاجة، والمفتوح على الارتقاء بالذات إلى الإدراك. من هنا، فإنّ القراءة، بوصفها ضرورة، تسعف في التأمل، وتكفل للكائن البشري الفهم؛ التأمل يبدأ من الذات ويمتد للعالم، والفهم يتولد من التأمل. لهذا، فإنّ السؤال: هل نقرأ؟ يضمر إشارات دالة على تأمين وعي بقضايا الوجود الإنساني وغير الإنساني، قضايا الذات والآخر. كأنّ الإنسان الداخل عالم القراءة المنزهة عن أغراض إيديولوجية، لا محالة، يخرج منتصرًا؛ حيث يتبدى انتصاره في قدرته على امتلاك وعي مركب بالوجود المعقد. لهذا، من اهتم بالقراءة فقد تحرر من أعطاب متنوّعة؛ في مقدّمتها أعطاب الفكر التي تدفع للاستمتاع بكل تفاهة، فتصير الذات منهزمة أمام سلطة غرائز تُفْصل الكائن البشري عن هويته الإنسانية النوعية. بهذا المعنى، فإن الاهتمام بالقراءة، فعلًا ومداومة، ينتجُ كائنًا بشريًا بعقل يقظ، يمكن من فهمِ قد يقود إلى إنتاج كائن نوعي في سلوكه وتصرفه، وفي قيمه وأفكاره. القراءة، إذًا، تنتهي بالقارئ إلى قتل «الوحش» الذي يسكن كلّ إنسان، بعد أن يبني نسقه الفكري الخاص الذي يلازمه في وجوده، ويوجه نظام حياته في ظلّ صيرورة دائمة؛ على اعتبار «أنّ النسق الفكري هو شيء نعيش فيه» (سايْمن بلاكبرْن (Simon Blackburn)، تَفَكَّرْ: مدخل أخّاذ إلى الفلسفة، ترجمة: د. نجيب الحصّادي، هيئة البحرين للثقافة والآثار، المنامة، ط2، 2017، ص 22).
يقترن التأكيد على ضرورة القراءة، ضمن رؤية مثالية، بالاستجابة لفعل نموذجي يسهمُ في تطوير الذات معرفيًا، فيتراءى التطوّر بارزًا في أخلاقها وأفكارها ومواقفها في الوجود. كأنّ القراءة، بأثرها المعرفي الخلاق، تبني ذاتًا أخرى؛ ذات لم تكن قبل القراءة، وستبقى ذاتًا مفتوحة على التجدد كلما أقبلت على القراءة. لكن، هل قراءة الأعمال الأدبية تحقق نتائج معرفية، وتسهم في تطور الذات القارئة فكريًا؟ بكلّ تأكيد، إنّ قراءة الأدب تُحقق ذلك. لهذا، فبالرغم من امتلاك الإبداع الأدبي طرقه الخاصة ووسائطه النوعية، ذات بُعد فني جمالي، فإنه يفيد الإنسان القارئ في تحقيق معرفة بالوجود المتنوّع الامتدادات، وإدراك كنهه الخفي، والتعرّف على عمقه المحتجب. بهذا المعنى، فإنّ قراءة الأعمال الأدبية، المختلفة الأنواع، تفضي لتحقيق وعي عميق بالعالم، وبالإنسان داخله. وعي تصحبه متعة ونشاط، ويحقق معرفة وفهمًا؛ لأنّه لمّا نقرأ الرواية، مثلًا، «فنحن فخورون بأنفسنا لأننا اكتسبنا الكثير من المعرفة، العمق، والفهم» (أورهان باموك (Orha,n Pamuk)، الروائي الساذج والحساس، ترجمة: ميادة خليل، منشورات الجمل، بغداد - بيروت، ط1، 2015، ص 27). 
تحقّق القراءة معرفة مركبة بالإنسان، لأنه شكل موضوعًا مركزيًا لكل نمط كتابي. بهذا المعنى، حين تكون القراءة تتحقق المعرفة، والمعرفة قد تفضي إلى التغيير، فيتراءى الإنسان خاضعًا لتوجيهات العقل، ومتحررًا من سلطة الأهواء ونزوع الغرائز. كأنّ القراءة تسعف الإنسانَ في الكشف والاكتشاف، وتعينه على الفهم والإدراك، وتساعده في الحكم والتذوق. إضافة إلى ذلك، إنّ القراءة تمكن الذات القارئة من الاستمتاع المريح، وتساهمُ في إدراك حدود الذات والآخر والعالم، وتفيد في معرفة مقامات الفعل واللافعل، الإقدام والإحجام، الهزل والجد...، كما يتَكشّف في قول نيتشه الآتي: «إن كل أنواع القراءة تعدُّ استراحة، وهي من الأشياء التي تبعدني عن نفسي وتمكنني من التفسح بين علوم وأنفس غريبة عنّي، أيّ في ما لم أعد أخذه بجديّة» (فريدريش نيتشه (F. Nietzsche)، هذا هو الإنسان، ترجمة: علي مصباح، منشورات الجمل، بغداد- بيروت، ط1، 2006، ص 45- 44). 
ليست القراءة، إذًا، تعبًا، بل استمتاعًا بعوالم مختلفة. لذلك، فإنّ سؤال هل نقرأ؟، ينطوي على التفكير في قضية تحقيق راحة وإدراك معرفي عبْر القراءة. لهذا، فإن عمق الأشياء التي تظهر للذات، أو تكتشفها وتكشفها، يعد محصلة قراءات متعدّدة ومتراكمة، لا تشعرُ فيها الذات بالإكراه والقلق، بل تحس بالفرح والرغبة الدائمة في تكرار فعل القراءة. بهذا المعنى، فإن أسئلة القراءة المرتبطة بالفعل (هل نقرأ؟) والكيفية (كيف نقرأ) والآفاق (لماذا نقرأ؟)، تظل متداخلة. لذلك، إذا كان الإنسان يقرأ بطريقة أسّها الفوضى والعشوائية أولًا، وجرّاء ضغط مهنيّ أو استحقاق معيّن (امتحان غالبا) ثانيًا، واستجابة لواجب ملزم (بحث مثلا) ثالثًا، فإنّ القراءة ستتبدّى فعالية متعبة ومقلقة، ولا تتجذر فاعليتها في ذات القارئ أبدًا. من هنا، فإنّ القراءة، في الفعل والكيف، تتحدّد بمدى إيمان القارئ بأفقها المعرفي البناء، وأثرها على الفكر الخلاقة، وعلى دافعيتها لتحويل الذات من مستهلكة (القراءة) إلى ذات منتجة (الكتابة). 
لا تحتاج بداهة الأثر الذي تتركه القراءة إلى تأكيد، بل ما وجب تأكيده: إنّ القراءة خيارٌ معرفي منتج، ويكون مُلزمًا لكلّ باحث وكاتب؛ لأنه يمكن القراءة دون ممارسة الكتابة، لكن يصعب، كثيرًا، الكتابة دون قراءة. بهذا المعنى، فإنّ الأنا الباحثة والكاتبة، والمندمجة في نسق مهني شديد الصّلة بعالم الكتاب، تبقى ملزمة بالقراءة. كأنّ تأسيس معقولية البحث وتميّز الكتابة يظلّ، بالضرورة، رهين قراءات متعدّدة ومتنوعة ومتراكمة، لم تمنع بعض الكتّاب من الافتخار بالقراءة وبأهميتها بوصفها مرغوبة، وليس بالكتابة المؤطّرة باستطاعة الذات، كشأن بورخيس الذي يقول: «إنّ ما قرأته أهم بكثير مما كتبته. فالمرء يقرأ ما يرغب فيه، لكنه لا يكتب ما يرغب فيه، وإنما ما يستطيعه»، (خورخي لويس بورخيس (J. L. Borges)، صنعة الشعر، ترجمة: صالح علماني، منشورات الجمل، بيروت - بغداد، ط1، 2019، ص 141).
يقوّى التّصريح بأهمية القراءة، من لَدُن كُتاب نوعيين، إمكانية الإقدام على فعل القراءة، عَبْر طريقة مشروطة بتحقيق إنتاجية خلاقة. هكذا، تصيرُ القراءة فعالية معرفية تسعف في تأسيس نسق فكري يُوجّه إدراك الذات وفهمها لمكونات الوجود المختلفة، واكتشافها لعوالم الإنسان المتعدّدة، بما فيها عمق الذات القائم في الخفاء. لهذا، فإنّ القراءة تظلُّ محكومة بأفق إنتاجي، لكنه قد لا يتحقّق إلا حين تصيرُ القراءة حاجة ضرورية، فتظهر نتائجها المعرفية في تغيير التفكير الإنساني، لأن ممارستها أطّرها جوهر معرفي بنائي، وليس غاية نفعية لحظية، وطريقة سليمة تشيّد تلك النتائج؛ لأنه يتعذر، منهجيًا ومنطقيًا، علينا أن نصل لأفكار بنَّاءة، بقراءة خاطئة في المنطلقات والرؤية والطريقة ■