النظارات الطبية في عصر السلاطين المماليك
في العصر العبّاسي، تحديدًا في الحقبة بين القرنين الثامن والعاشر الميلاديين، لم يكتفِ العرب بالانفتاح على الحضارات المختلفة واقتباس العلوم منها، بل عملوا على تطويرها وأضافوا إليها ما توصّلوا إليه من اكتشافات وابتكارات. وظهرت مآثرهم في مجال الطبّ، ومن أشهر الأطباء جبريل ابن بختيشوع (توفي عام 828م)، ويوحنا إبن ماسويه (777-857م)، وحنين ابن إسحق (809-873م)، والرازي (865-925م)، وابن سينا (980-1037م). وعرف طب العيون تطورًا، إذ ساهم تقدم علم التشريح في دراسة العين وعلاج أمراضها. وفي ظل الدولة الفاطمية التي اتخذت القاهرة عاصمةً لها (969-1171م)، برز أبو علي الحسن ابن الهيثم (965-1040م) كبير علماء الطبيعيّات المسلمين ومقدم إسهامات كبيرة في مجال طب العيون وعلم البصريات. وكان أول من ذكر في كتابه «المناظر» أنّ العين ترسل شعاعًا بصريًّا إلى الشيء المرئي، وقارب في أبحاثه مسألة العدسات المكبّرة نظريًا. واشتهر أيضًا في مصر عمّار ابن علي الموصلي (توفيّ عام 1010م) الذي وصف في كتابه «المنتخب في علاج العين» عملية جراحية جديدة لمعالجة الماء الأزرق في العين.
صناعة النظارات الطبية في أوربا
تُرجمت أعمال الأطباء والعلماء العرب في أوربا، وكان لها الأثر الكبير في تطور طب العيون وعلم البصريات في العصور الوسطى. ويربط المؤرّخون بين اختراع النظارات الطبية وانتشار أعمال أبو علي الحسن ابن الهيثم في الغرب. فقد كان كتابه «المناظر» أساس نشوء علم البصريّات في أوربا، والعلماء الأوربيون الذين اهتموا بالبصريات اعتمدوا في مؤلفاتهم على كتاب ابن الهيثم المذكور الذي كان يُعرف باللاتينية باسم Opticae Thesaurus. وإذا استغرق الأمر بضع مئات من السنين حتّى أصبحت نتائج أبحاث ونظريّات ابن الهيثم مقبولة بشكل عام في أوربا، فإن أفكاره في الممارسة العملية دفعت بالعلماء الأوربيين في القرن الثالث عشر الميلادي إلى اختراع النظّارات الطبية. ولكن من الصعب تحديد تاريخ اختراع النظارات الطبية بدقة، كما أنّ المعلومات المتوفرة في المصادر لا تسمح بمعرفة المخترع بشكل واضح.
يعتبر المؤرّخون عمومًا أنّ النظارات الأولى ظهرت في القرن الثالث عشر الميلادي في إيطاليا، ولكنهم اختلفوا في تحديد مخترعها، فالبعض منهم قال إنّه راهب من مدينة بيزا Pisa يُدعى ألسندرو سبيناAlessandro Spina (توفي عام 1313م)، والبعض الآخر ذكر أنه سالفينو ديي أرماتي Salvino degli Armati (توفي عام 1317م) من مدينة فلورنسا صنعها عام 1284م، وأيضًا قال مؤرّخون إنّ رجلًا مجهول الاسم من مدينة البندقية أو بيزا، ابتكرها عام 1286م، ولا يرد اسمه في المصادر لأنه أراد أن يحتفظ بسر اختراعه.
وثمة رأي آخر يقول إن مخترع النظارات هو الراهب الإنكليزي روجر بيكون Roger Bacon (توفي عام 1292م) الذي كان من أشهر علماء وفلاسفة عصره.
على أية حال، لاقت صناعة النظارات الطبية رواجًا في أوربا منذ القرن الرابع عشر الميلادي، وانتشرت بسرعة في معظم بلدانها خلال القرن الخامس عشر الميلادي، في إيطاليا، وفرنسا، وألمانيا، خصوصًا مع اختراع المطبعة عام 1454م، وازدياد الطلب على النظارات من قِبَل الأشخاص المتعلمين الذين يجيدون القراءة.
لم تكن النظارات الأولى تشبه على الإطلاق تلك التي نرتديها اليوم. فقد كانت عبارة عن عدستين مستديرتين محدبتين، مصنوعتين من الكريستال الصخري، مرتبطتين ببعضهما بمسمار ليسهل تثبيتهما على الأنف. وكان إطار العدستين معدني، أو خشبي، أو جلدي، أو عاجي، ليتكيّف مع وجه واضعها. وكانت النظارات تستخدم فقط لمعالجة ضعف النظر عن قرب.
انتشار استخدام النظارات الطبية في السلطنة المملوكية
شهد القرن الرابع عشر الميلادي أحداثًا مهمة غيرت في الخريطة التجارية للحوض الشرقي للبحر المتوسّط. فنتيجة الاضطرابات التي عرفتها الإمبراطورية المغولية وتفكك الإيلخانات إبتداءً من عام 1338م، أصيب التجار الأوربيون، تحديدًا الإيطاليون، المقيمون في المدن المطلة على بحر أزوفAzov والبحر الأسود، بخسائر فادحة بعد أن هاجمهم المغول عام 1343م في مدينة كافا Caffa على ضفاف بحر أزوف، وقتلوا عددًا منهم. بسبب هذه الظروف الصعبة، وجه التجار الأوربيون تجارتهم إلى بلاد الشام ومصر، وطلبوا من البابا كليمنضوس السادس رفع الحظر التجاري المفروض على السلطنة المملوكية والسماح للسفن التجارية الأوربية بمعاودة نقل البضائع والسلع والمنتجات المختلفة إلى بلاد الشام ومصر.
عام 1370م، عقدت السلطنة المملوكية معاهدة صلح مع القوى الأوربية (البنادقة والجنويون، والقبارصة، والكتالونيون) مدتها عشرون سنة تتضمن مجموعة من الشروط من بينها إعادة كل ما تم نهبه من الإسكندريّة عام 1365م في حملة ملك قبرص بيار الأوّل Pierre I على مدينة الإسكندرية التي تمكن خلالها من احتلال المدينة لثلاثة أيام ونهبها. ساهمت هذه المعاهدة بإعطاء دفع جديد للعلاقات التجارية بين السلطنة المملوكية والمدن الأوربية.
وسقطت مملكة أرمينيا بأيدي المماليك عام 1374م، فانقطعت طرق التجارة التي كانت تربط تبريز وسمرقند بميناء أيّاس، ميناء مملكة أرمينيا، المطل على البحر المتوسط. نتيجة ذلك، إنقطعت الطرق التجارية المباشرة بين أوربا والشرق الأقصى، وازدادت أهمية موانئ السلطنة المملوكية بعد أن أصبح الأوربيون ملزمين بالتوجه إلى أسواق بلاد الشام ومصر حيث تتوافر السلع الشرقية التي كانت الأسواق الأوربية تفتقر إليها.
ونتيجة هذه التطوّرات السياسية والعسكرية والاقتصادية، ومنذ العقدين الأخيرين من القرن الرابع عشر وطيلة القرن الخامس عشر الميلادي، ازداد عدد السفن الأوربية التي ترتاد موانئ السلطنة المملوكية، وأقام التجار الأوربيون في كبرى المدن الشامية والمصرية.
ضمت الصادرات الأوربية إلى السلطنة المملوكية أنواعًا مختلفة من السلع والمنتجات والبضائع، ودخلت النظارات الطبية إلى أسواق الشام ومصر، وتعرف الناس عليها، وبدأ استخدامها يلقى رواجًا بطيئًا في القرن الرابع عشر الميلادي، ولكنها انتشرت بشكل واسع إبان القرن الخامس عشر الميلادي. وعلى غرار أوربا، كانت النظارات في السلطنة المملوكية تستخدم فقط لمعالجة ضعف النظر عن قرب.
أشخاص وردت اسماؤهم في المصادر العربية استخدموا النظارات الطبية
يعود أول ذكر لنظارات طبية في السلطنة المملوكية إلى منتصف القرن الرابع عشر الميلادي. فقد أورد صلاح الدين الصفدي (توفي عام 1363م) في مؤلفه «أعيان العصر في أعوان النصر»، في حديثه عن محمد بن بادي بن أبي بكر (توفي عام 1355م)، أنه كان يزوره في دمشق، وكان هذا الأخير يضع «العيون الزجاج التي يعانيها من ضعف بصره لرؤية الخط الدقيق، ويضعها على أنفه»، وقد أنشد محمد بن بادي بن أبي بكر بيتين من الشعر يصف فيهما حالته عندما يضع نظاراته قائلًا:
لهفي على دولة التّصابي
وحُقَّ لي أن يزيد لهفي
كانت عيوني من فوق خدّي
فاليوم أمست من فوق أنفي
مثل آخر عن استخدام النظارات الطبية ذكره المؤرخ المصري ابن داود الصيرفي (توفي عام 1495م) في كتابه « إنباء الهصر بأبناء العصر»، فأفاد أنه في مستهل شهر ذي الحجة من عام 876 (الموافق 10 مايو 1472م)، توجه مع قاضي القضاة محب الدين ابن الشحنة الحنفي ومشايخ الإسلام لتهنئة السلطان الأشرف قايتباي في مقره في القاهرة، فطلب قاضي القضاة محب الدين ابن الشحنة من السلطان «عيونًا شُغل الفرنج التي يُنظَر بها للكتابة» إذ علم أنّه تم احضار عدد منها إلى السلطان. فأجابه هذا الأخير: «هذا الذي طلبته مفضضًا، وأنت ما يجوز لك استعمال ذلك». فسكت قاضي القضاة.
من خلال ما ذكرته المصادر العربية، نستنتج أنّ النظارات الطبية كانت رائجة بين كافة طبقات الشعب في السلطنة المملوكية إبان القرن الخامس عشر الميلادي، وكانت تُعرف باسم «عيون» أو «عيون زجاج». ولكن إطار العدستين الزجاجيّتين المستديرتين كان يختلف وفقًا لمرتبة ومنصب الشخص الذي يستخدمها. فالنظارات التي يكون إطارها من الفضة كانت مخصصة فقط لكبار رجال الدولة والمقربين من السلطان، ولهذا السبب رفض السلطان الأشرف قايتباي أن يعطي نظارات فضية لقاضي القضاة محب الدين ابن الشحنة.
أما الأشخاص الذين يتولون وظائف إدارية وقضائية ودينية، أو حتى أشخاص يجيدون القراءة والكتابة، كالتجار مثلًا، فقد كانوا يستخدمون نظارات إطارها معدني أو خشبي بسيط. فمحمد بن بادي بن أبي بكر كان «معلّم كتّاب» بدمشق، وتنقل بين طرابلس وحلب، واستقر في بيروت حيث «كان يقرأ فيها الحديث بالجامع»، وعمل بدمشق في تجارة الحرير.
اللافت في النصّ الذي ورد عند صلاح الدين الصفدي أنه لم يذكر مصدر نظارات محمد بن بادي بن أبي بكر، ولكن الأكيد أنّها صناعة أوربيّة. ففي منتصف القرن الرابع عشر الميلادي، عرفت النظّارات الطبيّة انتشارًا واسعًا في أوربا لدرجة أنّها صارت جزءًا من الصادرات إلى السلطنة المملوكيّة. ولكن على الأرجح أنّ كمية النظارات، التي كان يحضرها التجّار الأوربيّون إلى أسواق الشام ومصر في القرن الرابع عشر الميلادي، كانت محدودة، وشراؤها محصور فقط ببعض الأشخاص الميسورين والذين يحتاجونها في عملهم لصعوبة القراءة والكتابة من دونها.
استيراد النظارات الطبية من مدينتي برشلونة والبندقيّة
منذ مطلع القرن الخامس عشر الميلادي، صار التجار الأوربيون يحضرون النظارات الطبية بكميات كبيرة إلى أسواق بلاد الشام ومصر، فصناعة النظارات في أوربا قطعت شوطًا متقدمًا. لذلك، انتشرت في أوساط السلطة الحاكمة وجميع طبقات الشعب، وصار الناس في السلطنة المملوكية عند حديثهم عن النظارات يحددون أنها «شُغل الفرنج» تستورد من أوربا.
وبالاستناد إلى المصادر الأوربية، كان تجار مدينة برشلونة يصدرون النظّارات إلى السلطنة المملوكية. فصناعة النظارات عرفت ازدهارًا كبيرًا في مدينة برشلونة في بداية القرن الخامس عشر الميلادي، وازدادت تطوّرًا وتقدمًا لارتباطها بالشهرة التي حظي بها أطباء العيون في برشلونة الذين كانوا يعالجون الملك خوان الثاني (1458-1479م) Juan II من الماء الأزرق في عينيه. وتفيدنا المصادر أنه في عام 1403م، أرسل تجار مدينة برشلونة، على متن سفينة متوجهة إلى مينائي الإسكندرية وبيروت، المينائين الرئيسيين في السلطنة المملوكية، خمسة عشر صندوقًا كبيرًا تضمّ 2160 نظّارة. وعام 1408م، أرسلوا أيضًا إلى الإسكندرية وبيروت صندوقين صغيرين مليئين بالنظارات.
ومن جهة ثانية، كان التجار البنادقة يرسلون سنويًا على متن سفنهم التي كانت تقصد مينائي الإسكندرية وبيروت صناديق كبيرة مليئة بالزجاج والبلور تضم مرايا، وعدسات النظارات، وكؤوس للشرب، وأواني زجاجية مختلفة يكثر الطلب عليها من كبار الأمراء المماليك وطبقة الأعيان.
لا تذكر المصادر العربية أنّ الحرفيين في دمشق والقاهرة كانوا يصنعون النظارات إبان القرن الخامس عشر الميلادي، خصوصًا أن كميات النظارات والعدسات والزجاجيات المختلفة كانت كبيرة، ومتوفرة بكثرة في الأسواق. ولكن لا نستبعد أن يكون الحرفيون في بلاد الشام ومصر قد صنعوا النظارات، العدسات والإطار المعدني أو الخشبي، ولكنهم لم يتمكنوا من تأمين حاجات السوق المحلي ومنافسة الصناعة الأوربية، فظل استيراد النظارات أساسيًا لا يمكن الاستغناء عنه. فوفقًا للمعلومات التي تزوّدنا بها المصادر العربية، كان عدد الحرفيين العاملين في صناعة الزجاج في الشام ومصر قليلًا، ما يدلّ على أنّ هذا القطاع لم يشهد تطوّرًا كبيرًا. فالزجاجيّات على اختلاف أنواعها، والنظّارات تحديدًا، لم يكن ثمنها رخيصًا فبقيت بمعظمها محصورة بالطبقة الغنيّة.
إعادة تصدير النظارت إلى خارج السلطنة المملوكية
في القرن الخامس عشر الميلادي، كانت النظارات الأوربية التي تصل إلى أسواق بلاد الشام ومصر، وبسبب رواجها وزيادة الطلب عليها، يُعاد تصدير قسم منها إلى خارج السلطنة المملوكية، إلى بلاد فارس والعراق، وحتى وصولًا إلى الشرق الأقصى والصين. فالشاعر والكاتب الفارسي نور الدين عبد الرحمن جامي (توفي عام 1492م) يشكو في أحد أشعاره من ضعف الشيخوخة، فيقول إنّ عينيه الإثنتين أصبحتا الآن عديمتي الفائدة «إلّا أنه باستخدام النظّارات الفرنجية صارت أربع».
ومنذ مطلع القرن الخامس عشر الميلادي، صار التجار من الشام ومصر يحضرون معهم إلى الشرق الأقصى، من ضمن بضائعهم المختلفة، النظارات الطبية. فوفقًا للمؤرخ الصيني كيمينغ شيو Kaiming Chiu، الذي وضع دراسةً عن دخول النظارت إلى الصين، كانت النظّارات في اللغة الصينية القديمة تعرَف باسم ai-na المشتق من كلمة «عين» أو «عوينات» العربيّة. وكانت النظّارات تدخل إلى الصين عن طريق التجّار العرب الذين كانوا يقصدون بكثرة ميناء مالاكا Malacca (في ماليزيا) ولا يمكن استبعاد هذا الطرح لأنّ النظّارات في السلطنة المملوكيّة كان يُطلَق عليها اسم «عين» أو «عيون».
خاتمة
استمرّت النظارات تشهد تطورًا في الحقبات اللاحقة، وصار لديها شريط مربوط من خلف الرأس لتكون أكثر ثباتًا على الوجه. ثم في عام 1752م، اخترع أخصائي بصريات إنجليزي يُدعى إدوارد سكارليت Edward Scarlett الذراعين كما نعرفهما اليوم. وصارت تُعرف باسم «نظارات الصدغين»، لأنّ الذراعين قصيرين جدًا، لا يصلان إلى الأذنين، بل يتوقفان عند الصدغين بسبب عادة ارتداء الرجال في أوربا الشعر المستعار في القرن الثامن عشر الميلادي. ولم تصبح النظارات في متناول الجميع، تُستخدم لتصحيح الرؤية ومعالجة ضعف النظر عن قرب وعن بُعد، ومكونة من عدستين زجاجيتين مثبتتين في إطار فوق الأنف، ولها ذراعان مفصليان يوضعان فوق الأذنين، كالشكل الذي نعرفه اليوم، إلّا في القرن التاسع عشر الميلادي ■