الشاعر والرحالة العراقي باسم فرات: كثير من كتابات أدب الرحلات لا تعدو أن تكون تحقيقات صحفية

الشاعر والرحالة العراقي  باسم فرات:  كثير من كتابات أدب الرحلات  لا تعدو أن تكون تحقيقات صحفية

   يمضي الشاعر والكاتب العراقي باسم فرات في ترحاله الذي بدأه قبل 30 سنة، مسكونًا بهاجس التعرف على ثقافات الشعوب وعاداتهم ومعتقداتهم، لذلك فقد أمضى حياته متنقلاً بين المدائن في مشارق الأرض ومغاربها، مُتكئًا على تجربة إبداعية تزاوج بين الشعر وأدب الرحلة، واستطاع أن يدون مشاهداته ووجعه في المنافي، باعتباره مثقفًا عربيًا يعيش خارج الوطن، شعرًا ونثرًا. 

 

أسفرت هذه التجربة إلى الآن عن 10 مجموعات شعرية، منها «خريف المآذن»، و«فأسٌ تطعن الصباح»، و«مبكرًا في صبــــاح بعيــد»، و«أمكنـــة تـــلوح للغريب»...، وغيرها. و9 كتب في أدب الرحلة، ترتكز على الاحتفاء بالمهمل والمهمش، ما جعله أحد أهم كتّاب هذا الجنس الأدبي الرفيع. منها «مسافر مقيم- عامان في أعمـــاق الإكوادور»، و«لحلم البوليفاريّ... رحلة كولومبيا الكبرى»، و«لؤلؤة واحدة وألف تَل: رحلات بلاد أعالي النيل»، و«زول في بلاد السماحة... من بابل إلى كوش»، و«نيوزيلندا... رحلات في بلاد الـماوريين»، وغيرها. كما أصدر كتابًا فكريًا بعنوان «اغتيال الـهـوية»، وكتاب «دموع الكتابة» عبارة عن فصول من السيرة الذاتية.
بدأت مسيرته في الترحال عام 1993م عندما غادر العراق إلى الأردن، ومنها إلى نيوزيلندا عام 1997م، بعدما تقدم بطلب للجوء السياسي. بعدها زار مدينة هيروشيما اليابانية، وجمهورية لاوس، والإكوادور، وأستراليا، وتايلند، وكولومبيا، ومصر، والسودان، وغيرها حتى وصل عدد الدول التي وصلها إلى 40 دولة. تميزت رحلاته بالإقامة الطويلة التي تصل إلى عدة سنوات كما كان يفعل الرحالة العرب القدامى الإصطخري، وابن جبير، وابن بطوطة. وقد غادر السودان عام 2020م عائدًا إلى نيوزيلندا مقيمًا ودائمًا ما تكون له وجهات جديدة. 
حصل باسم فرات على عديد من الجوائز الأدبية مثل جائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب، وجائزة ابن بطوطة في الرحلة المعاصرة، وجائزة حلمي سالم في الشعر، وغيرها. وقد تناول تجربته الإبداعية في الشعر والنثر، عشرات الأدباء والنقاد العرب والأجانب، وصدرت عنه العديد من المؤلفات النقدية.. «العربي» التقته في هذا الحوار حول مسيرته الأدبية ورحلاته.  
• شملت رحلاتك 40 بلدًا حول العالم، ما الذي استوقفك فيها... وهل ثمة اختلاف بين ما قرأته واطلعت عليه، وبين الواقع الفعلي؟  
- أودّ توضيح أن عدد البلدان التي زرتها قليل قياسًا بملايين البشر الذين زاروا أكثر من أربعين بلدًا، لكن أجدني من القلة الذين دوّنوا مشاهداتهم، وقضوا آلاف الساعات في البحث والقراءات ومقارنة المعلومات وتحليلها، وأعادوا التأمل في تجاربهم وقراءاتهم ومشاهداتهم، كي لا يقعوا ضحية الخلط وسوء الفهم، والاتكالية في تدوين الخطأ. وأعني بهم مَن سبقوني من كُتّاب أدب الرحلات.

حب المغامرة والاكتشاف
• تذكـــــرني تجـــــربتك فــي السفــــر بالـرحالين القدامى، ابن بطوطة الطنجي، وابن جبير الأندلسي، وياقوت الحموي، وأبي القاسم الإِصْطَخرِي، فقد كانوا يقضون في الرحلة سنوات طويلة. فهل تودّ إعادة تجاربهـــــم فــــي اكتشـــاف الأماكن والثقافات المختلفة للشعوب؟    
- بلا شك، فأنا سليل جميع مَن سبقـــوني، ولكننــي أرفـض استنساخ تجاربهــم، تجــربتـــي لها شيء مــن الخصوصية، حيث طول الإقامة التي تمتد لثلاثة أعوام وأكثر في أكثر من بلد، ففي الأردن أربع سنوات وفي نيوزيلندا أكثر من ثمانية أعوام ثم العودة إليها في منتصف يونيو 2020م وحتى الآن، وفي هيروشيما (اليابان) قضيت ثلاثة أعوام ما بين 2005 - 2008م، وفي جمهورية لاوس وجنوب شرق آسيا ثلاثة أعوام 2008 - 2011م، وفي الإكوادور (أمريكا الجنوبية) ثلاثة أعوام 2011 - 2014م، وفي السودان ستة أعوام 2014 - 2020م، إلى جانب الزيارات التي قد تتكرر مرارًا للبلدان المجاورة لبلد الإقامة، مثل مصر وأستراليا، وتايلند وكولومبيا.
أما ما يجمعني - ليس معهم فقط - مع كل عشاق المعرفة والجمال والدهشة، هو حب الاكتشاف والمغامرة، والشعور العميق في داخلي بالأسى والأسف، أننا لم نواصل سيرة أسلافنا في البحث والتنقيب واكتشاف الشعوب القريبة والبعيدة وثقافاتها ومعتقداتها، على حين كَرَّسَ الغربيون جهودًا جبارة وأموالًا طائلة، لإعادة كتابة العالم وفق تصورهم، حتى ثقافتنا العربية التي تُعدّ صاحبة أكبر تراث تدويني عرفته البشرية، أصبح كثير من أبنائها يتلقون معرفتهم بالعربية وعلومها وتراثها، من خلال كتابات الغربيين، ويتلقّفونها باهتمام ودهشة كبيرين، وهكذا توارت الثقة بكتّابنا. 
لم تكن تجاربي سفرًا من أجل السفر أي سياحة ترفيهية، بل كانت ولا تزال ارتحالًا وغوصًا في أعماق ثقافات شركاء الوطن الكبير وشركاء الإنسانية، واعتقد أنني خرجت بنتائج ورؤى من دون مؤثرات غربية تحركها وتُهَيمن عليها، إنما هذه هي رؤيتي الخاصة الـمتواضعة التي اكتسبتها من خلال قراءاتي ومعايشتي للشعوب والثقافات الأخرى، حيث إنني مارست طقوس ديانات متعددة، وتوغلت في أعماق الشعوب التي عايشتها من أجل كتابة صادقة تلامس روح الشعوب وأماكنها.
● هل يختلف إنتاج الأديب العربي في المنافي عنه داخل الوطن، أقصد هل هناك سمات اكتسبها إبداعك سواء في الشعر أو أدب الرحلة كونه كُتب في بلاد غريبة؟
- إن لم يختلف، فثمة خلل في المبدع، لأن الإبداع لابدّ له من أن يتفاعل بالثقافات الجديدة التي يعيش في كنفها، ربما هذا التفاعل يستغرق سنوات، ولكن لابدّ من ظهوره ولو بعد حين، ومَن يتابع تجربتي الشعرية سيلاحظ هذا التفاعل مع الثقافات الأخرى والاستفادة من إقامتي الطويلة في الـمنافي التي ناهزت الثلاثين سنة.
ليس الـمكان وحده واضحًا في تجربتي الـمتواضعة، بل والتثاقف الإيجابي مع ثقافات الشعوب التي عشت في كنفها كما أعتقد.
● أصدرت 10 مجموعات شعرية، و9 كتب في أدب الرحلة، هل ينهل الشاعر من مشاهداته في الرحلات، أم أن التدوين الأدبي للرحلة يستفيد أكثر من الشعر لغةً وأسلوبًا وصورًا، خاصة مع تردد مفردات المنفى وأساطير الشعوب والأمكنة في شعرك؟
- تصالحتُ مع الأمكنة والثقافات الـمختلفة، ما أن أيقنت أن الشكوى من الـمنافي والحنين للـمكان الأول، يورث الملل في التجربة الشعرية، وأنني لن أتمكن من صياغة تجربتي إن لم أنظر لكل شيء، الـمكان والـمجتمع واللغات الأخرى والعقائد الـمختلفة بوصفها إرثي الخاص، أنا ابنها وسليلها، مثلما أنا ابن العراق مكانًا والعروبة والإسلام هُويّة وثقافة.
هذا التصالح قادني إلى تحول في القراءات، فلم أعد مهووسًا بقراءة ما أنتجه الغرب، إنما رحت أنبش في تاريخي الـمسكوت عنه، مستفيدًا من ممارساتي الحياتية وانغماسي بقراءة تاريخ الشرق، فحملتني إلى ضفاف بل أعماق الديانة الشنتوية والبوذية، وعبادات الأسلاف، ومعايشة الإثنيات الكثيرة التي تُعدّ بالـمئات في جنوب شرق آسيا وجنوب الـمحيط الهادئ وغابات الأمازون وجبال الأنديز (أمريكا الجنوبية) وأفريقيا.
إذن؛ يمكن القول إن قصيدتي نهلت من قراءاتي الـمتنوعة ابتداءً من التراث العربي ومنجزات مبدعي ومثقفي العربية في العصر الحديث، وما تيسر لي من قراءات للمنجز الغربي عبر الترجمات أولًا ثم الاطلاع الـمباشر بعد الاستقرار في نيوزيلندا وتعلم اللغة الإنجليزية، التي كانت عونًا كبيرًا لي بالاطلاع على ثقافات البلدان التي أقمت فيها أو زرتها، لا سيّما أن كتاباتي تتميز بكونها تناولت بلدانًا وأمكنة غير معروفة كثيرًا في الثقافة العربية، وأعني أن لا وجود لكتب ودراسات وبحوث كثيرة عنها، فكم عدد الكتب والدراسات بالعربية عن نيوزيلندا أو جمهورية لاوس، أو الإكوادور، قياسًا بالإنجليزية؟
لغة الشعر تركت هيمنتها على نثري، لا سيّما في مجال أدب الرحلات.
● كان من مكتسبات القصيدة الحديثة اعتمادها على ما يعرف بتداخل الأنواع الأدبية والفنية واستفادتها من تقنيات الرواية والمسرح والسينما، وقد اتضح هذا في بعض قصائدك... هل تسعى إلى كتابة نص مختلف يتجاوز النمطي والتقليدي من الكتابة؟
- أعتقد هذا هوس كل شاعر، فالشاعر الذي لا يسعى للاختلاف والتفرد والتميز، تبقى تجربته عبارة عن استنساخ لتجارب الآخرين. وأزعم أن تجربتي الشعرية لها خصوصية واضحة، ولا تشبه سواي، لأنني أكتب نفسي، وفي الوقت نفسه، أحاول أن أتجاوزها، كي لا أراوح في مكاني، وهو ما وقع فيه عدد كبير من الشعراء والمبدعين، ولا أدري هل نجوتُ؟

المسؤولية الوطنية ليست شعارات
● تنقلت بين بلاد أعالي النيل في أفريقيا، وزرت كولومبيا والإكوادور في أمريكا الجنوبية، وهيروشيما ونيوزيلندا في آسيا... وغيرها. هل ثمة خطوط فاصلة بين الشعوب يمكن التوقف عندها؟
- هناك خطوط تشابه، وخطوط اختلاف، من أهمها أن بعض الشعوب ترى الوطنية تتمثل ليس في الشعارات بل في العمل، واحترام الوقت، والبيئة، والقــــوانين، والاختصـــــاص، ومساعـــدة الحكومة في البناء الوطني، عبر الـمساعدات العينية ومبادرات العمل التطوعي فرديًّا ومجتمعيًّا، بما يصب في مصلحة الوطن والـمواطن؛ في حين بعضها ترى أن على الحكومة أن تقوم بكل شيء وتتحمل مسؤولية كل شيء، أمّا هو فيأخذ ولا يعطي، يتلقى ولا يبادر.
الـمواطن في دول مثل اليابان ونيوزيلندا وأستراليا وبريطانيا وهولندا وغيرها، دافع للضرائب، يتحمل مسؤوليته كاملة، لا يتذمر، يُطبّق القوانين بسلاسة، في حين وجدت في بلدان أخرى، لا سيّما التي ترفع حكوماتها الشعارات أكثر مما تعمل، مواطنها متذمر، كثير الشكوى، يريد من القوانين أن تكون طيعة بين يديه، لا يحترم الوقت، بينه وبين حكومته فجوة عميقة.
● ما الذي تمثله نيوزيلندا بالنسبة لك...ولماذا تركتها ولماذا عدت إليها وقد استقبلتك لاجئًا قبل 27 سنة في بدايات تجربتك مع السف... أم أن مدينة هيروشيما اليابانية كانت أكثر إغراءً؟
- نيوزيلندا بلد توطين، أقمتُ فيها ثماني سنوات وعشرة أسابيع، وحملت جنسيتها، وغادرتها بحثًا عن الـمعرفة واكتشاف العالم، خمسة عشر عامًا، طفت فيها من اليابان شرقًا إلى جنوب شرق آسيا، إلى أمريكا الجنوبية فأفريقيا، عدت في الثالث عشر من يونيو 2020م، بسبب جائحة كورونا.
هذه البلاد تتمتع بطبيعة خلابة، ولكنها في أقصى جنوب شرق الكرة الأرضية، فهي أول بلد يحتفل ويستقبل العام الجديد، الشعور بأنك تعيش في جزيرة وأقرب نقطة يابسة لك على مسافة أَلفَي كيلو متر، وثلاث ساعات طيران، شعور خانق، هذه العزلة الخانقة، حفزتني أن أسعى لتحقيق حلم طفولتي، ألا وهو السفر.
في طفولتي كنتُ أحرص على قراءة سير الشعراء والأدباء، ومصادر ثقافتهم وتجاربهم، وكم جربت أن أقرأ الـمصادر التي غرف منها الشعراء والأدباء الذين أحببتهم، وفي الوقت نفسه، تمنيت أن أشدّ الرحال لبلدان مختلفة، لم أفكر يومًا أن أقلد شاعرًا أو مبدعًا في تنقله، بل كنت وما زلت أؤمن أن على الـمبدع أن يكون متفردًا في إبداعه وتجاربه وقراءاته ومصادره الـمعرفية، وقد حققت هذا، لأن نيوزيلندا وهيروشيما ولاوس والإكوادور، أمكنة لم تشهد إقامة عدد كبير من الشعراء والأدباء، قياسًا بالدول الأوربية، لا سيّما بريطانيا وفرنسا والسويد وهولندا وألمانيا وروسيا وكذلك أستراليا وكندا والولايات المتحدة الأمريكية.
 أما هيروشيما، فهي مدينة مغرية، أثارتني شعريًّا، وأنجزت فيها قصائد أعتـزّ بها، أنهارها الستة، نهوضها من الموت الذي سببته القنبلة الذرية، موقعها الذي يتوسط الجبال والبحر، نظافتها، حيث نهوض الأُسر والعوائل كل يوم في الصباح الباكر، حاملين أدوات التنظيف لكنس الشوارع وتنظيفها وكذلك الأرصفة والحدائق والـمتنزّه الخاص بالحارة التي يقطنونها، ثلاثة أعوام أقمتُ فيها هناك ولم أر كنّاسًا، هيروشيما، انتقالة حقيقية في تجربتي الشعرية.

جوائز في أدب الرحلات
● لماذا تراجع أدب الرحلات في العصر الحديث بعد أن كان يكتب فيه علماء وفلاسفة وجغرافيون وباحثون عرب، تركوا تراثًا ثريًا عن ثقافات وحضارات عديدة؟
- هذا صحيح، ومؤسف للغاية، وأظنه بسبب الوهن الذي أصاب الثقافة العربية، حين تم تدمير قلبها وعقلها على يد المغول، في عام 1258 ميلادية، لأن بغداد لم تكن عاصمة سياسية برمزيتها العالية الـمتمثلة بالخلافة فقط، إنما لأنها كانت العاصمة الثقافية التدوينية الخلّاقة، التي قاد دمارها إلى دمار الجسد كله، لكن ما يمنح الأمل، هو الاهتمام بأدب الرحلات حاليًّا، لا سيما عبر مؤسسة ارتياد الآفاق، وجائزتها الشهيرة والمهمة جائزة ابن بطوطة. وفي العراق جائزة ناجي جواد الساعاتي، إلى جانب جائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب، التي خصصت دورتها لعام 2019م، لأدب الرحلات، وقد فزت فيها، وهذا يدلّ على اهتمام واضح الآن بأدب الرحلات.
● ما حدود النص الأدبي المعني بالرحلة، خاصة أن هناك من يضمنه الحوار، والوثيقة، والشعر، والأرقام الإحصائية؟
- مع الأسف، كثير من الذين يظنون أنهم يكتبون أدب رحلات، لا تعدو كتاباتهم أن تكون تحقيقات صحفية في أحسن الحالات، والسبب عدم الاكتراث بطبيعة هذا الجنس الأدبي؛ فهو يعتمد على رؤيــــة الكــاتب للمكــان، واهتمامه بالتفاصيل، وما يراه سواه هامشيًّا، يراه هو مهمًّا ويثري كتابته. دقة الـملاحظة عند كاتب أدب الرحلات في غاية الأهمية، ومنها ثقافته التي تلقي بظلالها على نصه الرحليّ، والاستفادة من كل شيء جائز بل يمنح النص الرحليّ رحابة معرفية وفنية، أعني الاستفادة من الشعر والسرد والـمشهدية والوثيقة الأكاديمية، بل حتى الصحف والمجلات، والانغماس بالمجتمع وإجراء لقاءات وحوارات مع طبقات الـمجتمع مثل الكسبة والحرفيين والمثقفين وحتى الزوار وغيرهم.
على أن هذه الاستفادة، لا تنتقص من النص الأدبي، وتحوله إلى وثيقة علمية صارمة، أو تقرير صحفي، أو إنشاء مُـمِـل. في أدب الرحلات، خيط رفيع يجمع الفنون والعلوم والآداب معًا، خيط رفيع لا يجيد تحريكه والسيطرة عليه سوى صاحب الـموهبة الحقيقة.

العمارة تعبير لحضارة المكان
● تعتبر العمارة من أكثر الشواهد التي تلفت الرحالة، ماذا تعبر العمارة والبنيان بالنسبة لك... وما الذي استرعى انتباهك في ذلك على مدى أسفارك الطويلة؟
- أكثر ما لفتَ انتباهي، أن دولًا كثيرة، تحتفي بعمارتها، وتصون تراثها، ولو أن هذه الحفاوة والصيانة متأخرة في كثير من بلدان العالم، فالعمارة مع التدوين يشكلان الدليل القطعي على حضارة مجتمع ما، وعلاقته التاريخية بالـمكان، لا سيّما في أمكنة تعدد وتنوع الصراع عليها مثل منطقتنا العربية، بسبب تاريخها الكتابي العريق، ولأن بدايات العمران البشري فيها. الاهتمام بالعمارة، هو اهتمام بذاكرة المجتمع الـمدينية، وهذا ما نفتقد إليه في العراق حتى الآن، في حين أرى أن الأمر أفضل منه في مصر وسورية ومناطق أخرى. إذا كانت الكتابة هي التاريخ الناطق للمجتمعات، فإن العمارة هي تاريخها الـمتجسّد.
● إلى أي مدى تحقق الرحلات فكرة التواصل الثقافي والحضاري بين أبناء المناطق المختلفة؟
- لقد أدّى الرحالة الأجانب كثيرًا من الخدمات للثقافة، ولكن كانت كتابات بعضهم مراجع استفادت منها جيوش الغرب لاحتلال العالم، وشكّلت صورة استعمارية غربية عن شعوب المنطقة والعالم، وفي الوقت نفسه، فإننا لا يمكننا نكران أن التواصل الثقافي مع شعوب تقترب أو تختلف عنا في اللغة والتاريخ والعقيدة، تمنحنا قدرة على فهمها واحترامها، وشخصيًّا، أوصلتني هذه الرحلات، إلى حق الإنسان بأن يختلف عني في كل شيء، وأدافع عن حقه هذا في الاختلاف، لدرجة أنني أتألم وكأن الإساءة التي تُوَجّه للآخر موجهة لي تمامًا.
أدب الرحلات، حين يتصدى له، عاشق للتنوع، مؤمن أن العالم عبارة عن مُتحف للغات والعقائد والعادات والتقاليد والعمارة والسلوكيات، فسوف يدافع عن هذا المتحف للحفاظ عليه، وبفضل الرحلات، تعلمت أن كثيرًا من الأساسيات تجمع البشرية، فالياباني لا يختلف في كل شيء عن العربي، بل هناك وشائج كثيرة تجمعنا معهم، مثلما تجمعنا مع شعوب أمريكا الجنوبية وجزر جنوب المحيط الهادئ، واعتقد أن كتبي في أدب الرحلات، تبرز هذا التنوع وتحتفي به وتدافع عنه، إيمانًا مني أن التواصل الثقافي، يمنح المعرفة التي بدورها تمنع الكراهية والبغضاء، وتنشر المحبة والسلام بين شعوب العالم.

القصيدة بين الحياتي والمعرفي 
● تمثل كتابة أدب الرحلة، بشكل أو بآخر، هامشًا من سيرة الكاتب، فما الذي أضافه كتابك «دموع الكتابة» الذي دونت فيه سيرتك الذاتية في مراحل مختلفة من حياتك؟ 
- «دموع الكتابة»، تدوين لما هو شخصي على أمل التوسع مستقبلًا، فصول تتناول طفولتي وبداياتي مع الشعر والكتاب، وهوسي بهما ثم اهتمامي بالتاريخ الثقافي والاجتماعي للجماعات اللغوية والعقائدية، ودور الـمرأة في حياتي متمثلة بجدتي لأبي ولأمي، ورؤيتي للكتابة والشعر وعن دور الـمعرفة والترحال في تجربتي الشعرية، وأزعم أن تجربتي الشعرية نهلت من ثقافات شتى بعضها ليس لها حضور وهيمنة في الثقافة العربية، وهو ما جعل بعض الأكاديميين والـمتلقين على السواء، أن يحسبوا أن قصيدتي تنهل من الحياتيّ فقط، ولا تنهل من الـمعرفيّ، ربما يعود ذلك إلى أن الـمعرفيّ لديهم هو التراث العربي والـمنجز الغَـرْبي فقط.
● تناولت في  كتابك «اغتيال الهوية» العديد من القضايا الشائكة مثل القومية والعرق، البداوة المنبسطة والبداوة الوعرة، الإرهاب المعلن والإرهاب الكامن، وغيرها.. هل هناك فروق جوهرية وددت توضيحها في هذا الكتاب؟
- كما تفضلتَ حضرتك، هي قضايا شائكة، والناس تفتي بها بغير علم، وعبر ربع قَرن من القراءات والبحث والترحال المعرفي - الجغرافي، وجدتني أميّز بدقة نسبيًّا، خصوصية العرق والإثنية والقومية والأمة، والمراحل الكثيرة والمعقدة التي تـمرّ بها الجماعة اللغوية من مرحلة العرق - أي مرحلة النقاء - إلى مرحلة الإثنية وهي مرحلة الاختلاط والتزاوج والتفاعل مع الجماعات اللغوية الأخرى عبر الحروب والتجارة والهجرات، وحين تصل إلى مرحلة التدوين، ثم إنجاز تراث تدويني لها في الـمدن التي تسكنها، تراث يمتد لأجيال وأجيال، حينها تلج مرحلة القومية. أما الإرهاب المعلن فهو ما نعرفه جميعًا، لكن الإرهاب الكامن، هو ما تتضمنه السرديات كافة، لأنها تخلو من ذكر الإيجابيات للآخر، الآخر في السرديات أما مقصي ومُغَيّب، أو عدوّ تسبب بكل الخراب الذي تعاني منه الجماعة لغوية كانت أو عقائدية. وأما الفرق بين الكتابة والتدوين، فالكتابة مرحلة سابقة للتدوين، والجماعة اللغوية لا تصل لمرحلة التدوين، من دون مدن تسود فيها لغتها ثقافيًا واجتماعيًا، مع عشرات وعشرات الأدباء والباحثين والـمؤرخين والنحويين والـمؤلفين بصورة عامة، تكون مدونة سيرهم ومحل ولاداتهم وتاريخها ووفياتهم وكتبهم وموسوعاتهم.
البداوة الوعرة لم تنجب لنا مدنًا ثقافية تدوينية عمرها يزيد على ألف سنة قبل الحرب العالمية الأولى، أمّا البداوة الـمنبسطة فقد أنجبت لنا عشرات الـمدن التدوينية قبل القرن العاشر الـميلادية، مثل البصرة والكوفة وواسط والقيروان والفسطاط وبغداد والقاهرة، وكذلك الرها وحران ودمشق وحلب وعشرات الـمدن ذات التدوين باللغة السريانية أو العربية.
 كتاب «اغتيال الهوية» محاولة لوضع قواعد لوقف سيل أوهام السرديات القاتلة، وأكذوبة التاريخ القومي الذي يمتد لآلاف السنين، والـمظلومية التي تجعل الآخر ظالـمًا على طول الخط، سرديات لا تعترف بأنوار التعايش السلمي في مجتمعنا الذي لولاه لما استمر التنوع اللغوي والعقائدي في وطننا الكبير.
«اغتيال الهُوية» وضعت فيه المنهج التدويني الذي يعري أوهام الجميع، فالأراضي الواقعة بين أعالي سفوح جبال زاغروس وأعالي سفوح جبال طوروس والبحر المتوسط وشرق دلتا النيل، هي منطقة الحضارات الكتابية والتدوينية والأبجديات، وهي خليط من شعوب شتى وجماعات لغوية مختلفة، لكن هُويتها الكبرى هي السامية - وأَهمّ اللغات فيها هي اللغة العربية، وعقيدتها الكبرى هي الإسلام. وما ذلك إلّا لأنّ مئات الآلاف من الكتب دوّنت بالعربية قبل القرن الثالث عشر الـميلادي، وهو ما لم يتهيَّأ لأي لغة من اللغات في العالم، ولو اجتمعت مدونات لغات العالم لم تضاه مؤلفاتها ذلك التدوين الـمتفرد بالعربية.
 مزاعم وجود التاريخ البشري (القومي) العريق الذي يمتد لآلاف السنين قبل الميلاد، تاريخًا سبق الجميع، هو مجرد أوهام ولكن هذه الأوهام تكون خطيرة، لأنها احتلالية إرهابية عنصرية إلغائية إقصائية، لصوصية، حين لا يسندها وجود آلاف الشعراء والأدباء والكُتّاب الذين يُفترض أنهم عاشوا فيها قبل عصر الطباعة، وهذا الـمعيار ينطبق على أصحاب الإمبراطوريات مثل العرب والفرس والأتراك، وقبل القَرن العشرين لمن سواهم.

الدعوة إلى السلام
● أراك مطلعًا على الحضارات القديمة والمنجز الفكري الإنساني... كيف ترى تطور الحضارات في صعودها وهبوطها، وما تأثير المنجز الإنساني عليها، وماذا تتوقع لمستقبل الحضارات في حواراتها أو صراعاتها؟
- أنا ابن الحضارات كلها، لا أؤمن بالطفرة الحضارية، بل بالتراكم الحضاري، لهذا انتمائي للحضارة العراقية القديمة، مثلما هو للحضارة المصرية القديمة والسورية واليونانية ولكل ما أنتجه العقل البشري، والحضارات قاطبة مرت بمرحلة صعود وعاشت عصرها الذهبي، ثم سلّمت الراية لحضارة أخرى، كما هو حال الحضارة العربية الإسلامية التي سلمت الراية للحضارة الأوربية التي تمثل أعلى مراحل الحضارة البشرية، بكل إيجابياتها التي نغرف من معينها، ونقع في الوقت نفسه تحت وطأةِ سلبياتها التي زادت الهوة بين الإنسان وعصره، أعني حالة الاغتراب التي يعانيها إنسان الحضارة الـمعاصرة. الصراعات ستبقى، لأن محركها التدافع الاقتصادي، وهنا يبرز دور الـمثقف، في أن يبذل جهدًا كبيرًا من أجل تقليل الخسائر. وهو ما حاولته في كتبي في أدب الرحلات، الدعوة إلى السلام، والنظر إلى اللغات والعقائد والثقافات والعادات والتقاليد في العالم، بوصفها إرثًا إنسانيًّا، احترامه والحفاظ عليه غاية الغايات كلها، وهي الطريقة الـمثلى للوقوف بوجه العولمة التي تريد فرض اللغة الإنجليزية والثقافة الاستهلاكية، ونشر الحرية الفردية ومناهضة العائلة وتحجيمها وسلب حميميتها ■