جغرافيا الذات وتاريخ الوطن في الشعر الفلسطيني ابتسام أبو سعدة نموذجًا
حينما تجرؤ الذات الشاعرة على محاسبة الزمن، فهي تتحلل من كينونتها الآدمية، لتصير جنيّة تختطف الكحل من أعين الصبايا العاشقات. هنا، تملك الـ «هي» قدرة استثنائية على أن تتلبس فضيحة الصباح، وتسترد دمًا مهدرًا في الأرجاء، وتقرأ الحبر السري على الصفحات البيضاء. هذه شاعرة؛ ترى أن معجزتها الخارقة، وعصاها التي تتوكأ عليها في الآن ذاته، هي الأنوثة، بمعانيها المتوالدة، التي تتسع للمرأة والأرض والوطن وعروس البحر والأسطورة وعناصر الحياة بأسرها. الكائنات والموجودات محكومة بدورها بقوانين ومعطيات أنثوية، قادرة على قراءة إحداثيات الأمكنة في مداراتها المختلفة، وتحرير التاريخ من قبضة السكون، فالأنوثة أمومة ومخاض وميلاد وتجدد، وفيوضات وتحولات، وتكوين من بعده تكوين.
في ديوانها «أنوثة مؤجلة»، الصادر عن دار «ليان» للنشر بالقاهرة، ربما تؤجل الشاعرة الفلسطينية ابتسام أبو سعدة أمورًا وعلاقات تخضع للتأجيل، ليس منها الأنوثة بطبيعة الحال، التي تتجلى كمحور مركزي للنصوص، وكأيقونة فاعلة للتعاطي مع الأحداث الجارية، وحكايا التراث، ومدخلات «المستقبل»، الذي ترتاده الشاعرة أيضًا بوصفها أنثى هاربة من اغتصاب الحزن الأزلي، لكنها واثقة بقدرتها على صياغة البديل الموازي، وإنبات العشق الزاهي، الذي قد يستمر ولو سويعات قليلة. تقول: «منذ تاريخ الأحلام... وأنا أبوابي كلها خضراء... ينبُت العشق على زَهْوِ ألوانها... فيغريه الأسود الفتّان... يلقي ترانيمه الصباحية... فيسقط آخر أقنعة الجماد».
الحروف أيضًا، والقصائد، هي بذور نباتات قادرة على أن تثمر بين الصخور، بل قادرة على تخصيب الدماء المنسية والمهدورة بين ثنايا التاريخ، كي تلد ثورات إحيائية، تعيد الاتزان للواقع وللطبيعة، وتصحح الأوضاع: «ستثمر من يدي ورقة... سيزهر من بنفسجي ياسمين أبيض... ستلد الدماء المنسيّة ثورة... وما بين الياسمين والثورة: تُنجبني ورقة، وقصيدة».
ثمة نافذة أخرى أيضًا، تقود إلى اخضرار، عنوانها ما تحفل به الذاكرة، وما يستدعيه الماضي، حيث كانت هناك ذات لها جغرافيا وتاريخ، وكانت هناك أرض، وكانت أوطان. الذات الأنثوية هنا تستعصر رحيق الأيام من ذاكرتها الخضراء، لتصنع مجدها الخاص. هذا الارتداد إلى الوراء، يصل إلى منتهاه بتلك النزعة إلى بلوغ حالة الجنين، وهنا تلتقي الذات التائهة وجهًا من وجوه أنوثتها المبددة في ذلك النبع الحنون، نبع الأمومة الذي نهلت منه طويلًا، فصارت الجبال سهولًا، وتحول السراب إلى ارتواء. تقول ابتسام في الإهداء مخاطبة أمها: «إلى بهيّة الطلّة، مليحة الحُسن، أنيسة الروح في الغربة، إلى أول صوت يقتحم خلوتي في الأحشاء، فيبتسم ثغري آملا في لقاء قريب، وضمّة بحجم الكون، إلى من لا تفيها الحروف كلها حقها، أمي».
ومن أنثى الإهداء الأول (الأم)، إلى أنثى الإهداء الثاني في الديوان ذاته (أنوثة المكان). ويتسع المكان بدوره لدلالات شتى من بينها الوطن، والأرض بمعناها الكوني. وتستدعي الشاعرة في هذا السياق ثلاث أمهات أو ثلاثة أوطان تنتمي إليها جميعًا، بوصفها فلسطينية الأب والجنسية، ومصرية الأم والإقامة الراهنة، وجزائرية الطفولة والصبا، حيث كانت تقيم في صغرها. تقول في الإهداء الثاني: «ثلاثية الأوطان أنا، ولثلاثـتها أنتمي. فلسطين الأب، الدّم، العشق الأزلي، الحلم باللقاء والعودة، يسكنني ولا أسكنه، وطني الحاضر الغائب. مصر الأم واللّبنة الأولى ومهدٌ احتواني، منه الخطوة الأولى وإليه، وطني الطيب الساحر. الجزائر، الصرخة الأولى والميلاد والطفولة، والعشق والتمرد والثورة والحياة، أول اللغة وأول الطموح، وطني الساكن روحي وحلمي».
شعرية الأنوثة
هي شعرية الأنوثة بامتياز؛ أنوثة الذات، وأنوثة المكان السائل دائمًا من أجل إطلاق سراح التاريخ، ذلك المكان الذي إن لم يكن مؤنثًا فلا يُعوّل عليه، وفق المتصوف ابن عربي، إذ لن يكون ممكنًا تصور دفئه وخصوبته وإثماره وتوالد مفرداته الطازجة. هكذا قصائد «أنوثة مؤجلة»، إذا لم تكن مؤنثة، فلا تعويل عليها، فمفردات الأنوثة هي ألغام التفجير الشعري، وهي عناصر الشعر الخام، الكائنة بذاتها، والمخبوءة في قرار الذات، مثلما تستقر منابع الطاقة الحيوية في أعماق التربة الثرية.
تتقصى الشاعرة في قصائد «أنوثة مؤجلة» جذور المشاعر الإنسانية، منذ عهود سحيقة شهدت براءة الإنسان البدائي، وصولًا إلى صعود الروح إلى عاشر سماء. لولا قرابين الرحمة، لم يكن أحد يتحمل ملوحة البحر، وأوجاع الحياة.
تتبدد الخرائط، وتتجدد، والذات الشاعرة منهمكة في قراءة مؤشر الألم، بوصفه مؤشرًا لدقات قلب الإنسان، فقرائن الموروث دائمًا مؤلمة، والآتي مجهول: «يتغلغل الملح، بين أوصال الوجع، ﻻ يستكين الألم، بعد دهرٍ وأكثر، كأن يموت ببطء تام، ويستقر في قبر الوهن، وارفةٌ ظلال فستاني المخملي، تصعد السماء، بيدٍ... تدعو الرجاء، وفي سمائي العاشرة، يستقر الجفن، وتتحرر الأنامل، تستقبل قبلةً، فيُقبل الدعاء/ ويتقبل الرّب، قربان الرحمة، فقط هناك... في السماء العاشرة».
وعلى الجانب الآخر من الأمومة، في نصوص «أنوثة مؤجلة»، يأتي المخاض ليمثل تشعب الذات وتعددها داخل ذوات أخرى تتوالد حاملة خرائط المستقبل. هذه الولادة، ربما تصفها الذات في لحظات يأسها وهوانها بأنها «وﻻدة عاقر»، فالمرأة المحملة بالأعباء وبذكرى القهر وتاريخ الأرض المسلوبة يتمخّض عنها حبل سُّري مكلوم، يربطها بأوجاع مقيمة. وفي هذا المشهد الدامي، تغتسل المرأة الفلسطينية بالأسى، مبتغية الطهر المقدس: «مُهترئة المشاعر، تنأى بالوجع طُهرًا مُقدسًا، يَهوِي بذنوبها الكبيرة، في سلة النّفايات».
وقود التمرد وكيمياء الحرية
وفي كهف الظلم، والظلمة، يعبر أحد تجليات الأنوثة عن أمل مستحيل في الانفلات من القيود المطبقة، بالرغم من تلك الخيوط التي شرنقت الروح، وأسرت البدن، وأسقطت الأرض في براثن الاحتلال. وهكذا تبحر الأنوثة بشراع التمرد، نحو ضفاف التحرر من قبضة الواقع القاسي، ولو على سبيل الحلم، أو التخيل أو التمني. الشعر هو مرادف الأنوثة دائمًا، والأنوثة هنا هي وقود التمرد وكيمياء الحرية، وتسعى القصائد إلى بلورة فعل التحرر على كل الأصعدة، بهدف تخطي السائد، وإعادة تشكيل الوجود، واستحضار الآخر الذي يحمل نسائم الربيع، وكتابة التاريخ على نحو مغاير: «مُغريات الربيع تلوّح لي، بفستانٍ تتفتح وروده، كلما رأتك، رقراقٌ وجه الصباح، يختلي بك وحدك، في ذاكرتي، ذات حلم، ليصحو من غفوته، على نغمات ملائكية صوتك، فيحتل الروح، بترنيمة مسالمة، تفصل بين هول الجنون، وعظمة السكون».
وتتيح الأنوثة للذات الشاعرة مجالًا لكي ترتب قلبها جيدًا، وتنتهي من الغبار المُغيّبِ للفؤاد، من أجل عودة لبراءة الصبا، اشتياقًا للدمية القماشية، وتراتيل الصلاة المؤجلة، منذ طفولةٍ وأكثر. هذه المنطقة التي تشغلها الطفولة، تتسع للبحر لكي يقطنها، وربما يبيت فيها ليلة، لكنه في الصباح «يترك ملحه ويرحل»، وتبحر الطفلة بقارب أنوثتها القائدة هاربة بين السنين: «طفلةٌ كبيرةٌ أنا، تغافل زهوة العمر، وتهرب بين السنين، ركضًا إلى أعلى، فتصل السبعين».
ومثلما تتخلى الأنوثة أحيانًا عن تجريدها، متطابقة مع صورة «المرأة الفلسطينية»، فإن القصيدة قد تتحول أحيانًا إلى رفرفة علم أو نشيد وطني أو زغرودة أمٍّ أو تحية للشهداء في غزة، وهنا يتصل التاريخي بالآني، والموت بالحياة، وتستمد الشمس نصاعتها من وضاءة روح الشهيد: «وأنا أقبل كفني، في خزانة ملابسي، أشم رائحته في كل صباح، أشتهي التمرغ بين جنباته، زغردي يا أمي، أنا الشهيد... الحي، أمنح الشمس روحي، فتضيء بدواخلي زبرجدًا، يخبئ حياة أخرى، في جيب كل كفن، أهب الأطفال سماءً، فيرسلون ضحكاتهم، عبر أثير الدعاء، المتصاعد ثقلًا إلى السماء، فتبتهج الشمس» ■