روايات الخيال العلمي من الإهمال العربي إلى الاحتفاء عالميًا

روايات الخيال العلمي من الإهمال العربي إلى الاحتفاء عالميًا

تفتقر المكتبة العربية إلى متابعة روايات الخيال العلمي العربي في الأدب العربي ونقدها بشكل منهجي متتابع، بما يُطور  هذا  الفرع  ويدفعه إلى مكانة مقبولة، ولا يمكن التعلل بقلة الأعمال الصادرة في هذا الإطار البديع؛ فلعل استقبال عمل يبحث في الإبداعات المتصلة بالخيال العلمي يمثل طريقًا رائقًا لاجتذاب شباب القراء، بما يناسب اهتماماتهم وتطلعاتهم وسط عالم يفيض بالحديث عن الروبوت والذكاء الاصطناعي ، وتجاوز مراحل شديدة الإبهار، حتى صار غزو الفضاء نوعًا من الموروث القديم، وذلك وسط ثقافة تتخذ موقفا مرتبكًا من بعض النظريات العلمية، وتعتمد حالة من الركود العملي، واستسهال استيراد العلم ونتائجه.

 

وقد خصصت جائزة الدكتور عبد العزيز المنصور للناشر العربي دورتها الرابعة 2022م لرواية الخيال العلمي المؤلفة لا المترجمة، لتدفع الاهتمام بأدب الخيال العلمي، وبخاصة مع فوز رواية «فرانكشتاين في بغداد» بجائزة الرواية العالمية البوكر عام 2014م فظهرت بعض دراسات للخيال العلمي العربي، لتقاوم ما يظنه البعض من عدم النظر باعتبار كبير إلى جدية هذا النوع الأدبي. إننا نعاني آفة كبيرة فيما يخص نكوص المتابعة النقدية واستمرار ذلك لعقود من الزمان، وندرة الكتابات بعد ذلك فقد ترصد كتابًا هنا أو مقالات متناثرة هناك، ولكنها لا تشكل خطًا يعي خصوصية الكتابة حول الخيال العلمي، ومع تقليب صفحات الكتاب يغمرك الأسى على حال النقد العربي وابتعاده عن مجال خصب يلائم المتلقي في العصر التكنولوجي، ويكسب الأدب أرضًا جديدة في مقابل تنازله طوعًا لصالح صراع مفترض بين ثقافتي العلمية والأدبية.
وتقدم الدراسات المقارنة إضاءات مفيدة لجوانب قد تكون خافية على أصحابها فالإضاءة من الخارج أشد كشفًا، ولا يجب أن ننسى أن كثيرا من الاهتمام بألف ليلة وليلة - مثلاً - جاء عقب اهتمام الغرب بها، وهو ما ينطبق على كتاب «الخيال العلمي العربي» الذي صدر عام 2018م عن أستاذ متخصص في دراسات الأدب المقارن، فسارع إلى ترجمته د. أحمد سمير سعد امتدادًا لترجمات سابقة تحوم حول المجال ذاته، وصدر مؤخرًا عن المشروع القومي للترجمة بمصر. ومع بدايات الكتاب يزيد الأسى؛ إذ أن بعض الأعمال المدروسة قد صدرت خلال السبعينيات أي منذ نصف قرن، وتعاني - حتى الآن - ضعف التنظير أو انعدامه، وكيف ظلت أعمال الخيال العلمي تعاني نوعًا من الازدراء والنظر لها بوصفها نوعا من شطحات الحكي البسيط.
2- ويبدو المدخل النقدي مسيطرًا فيمزج الكتاب بين النقد الفني والتفسير الثقافي لظاهرة أدب الخيال العلمي، والتفت إلى المقولات الأساسية في كتاباته العربية، مع أريحية شديدة في تحديد العينة منذ البداية بما سمح بدخول أعمال لا تعتمد غرائبية علمية من نوع ما،  ومن ذلك بناء الأعمال على استعارات مجازية، والانسحاب من حياة المدينة إلى العزلة والتعويل على الرؤى الباطنية بما يحدث لها تداخلاً ما مع الرؤى المعرفية. 
وبعيدًا عن جفاف المصطلحات العلمية وصعوبة الوقوع على كلمة فصل في تحديد مجال أدب الخيال العلمي فإن الكتاب يستعرض بعض أصوله التراثية - بمعنى من المعاني - في كتبنا التراثية كأجواء ألف ليلة وليلة وحي بن يقظان ورسالة الغفران، وقصص البحارة وبساط الريح والسندباد وقصص العجائب، وآلة الزمن وغيرها من أعمال مهدت الأرض لكتابة أدب الخيال العلمي وتمثل أسسًا لكتابته سرديًا.
 ولعل احتفاء تراثنا بالحديث عن الجن والمردة وأبسطة الريح وقصص البحارة والسندباد، مهد لثراء الأدب العربي وتنوعه، فكان استخدام التخييل والفنتازيا ممهدًا لبذور خيال علمي أولي، فضلاً عن نصوص فلسفية تمهد للنسق ذاته، وكذا نصوص القزويني عن رجال برؤوس كلاب ونساء الأمازون الشرسات، ورسالة حي بن يقظان التي اعتبرها البعض أول رواية عربية، ورحلة المعري إلى الجنة في رسالة الغفران ومدينة الفارابي الفاضلة وكتابات ابن طفيل وجبل قاف الأسطوري وقيام ألف ليلة وليلة على العناصر الفانتازية الإعجازية كجبل المغناطيس وأناس يعيشون تحت الماء، بما كان نواة لتقبل تجذره حديثًا، وحرثت التربة لتقبُّل خصائص مؤثرة - لا تزال - في الأعمال الحالية من جهة اللجوء إلى عالم السحر والخيال ولكنها تتصل بواقعنا، وتنأى عن النقد الاجتماعي منصرفة إلى التحليل الثقافي. 
3- ويلتفت الكتاب إلى أن أغلب مبدعي أدب الخيال العلمي كانوا ذوي ثقافة هجينة، وكأنه يريد أن يغمز علو الأثر الغربي على الأصل العربي الذي لفت الانتباه إليه مسبقًا، أو كأن المؤلف يجنح صوب تفسير ما بعد كولونيالي لظهور هذا النوع بعد انقطاع، أو جريانه في المغرب العربي بخاصة، وهو الملمح الذي يحاول دعمه عبر رسم الشخوص مغرمة بالنساء الغربيات، والخمر، وعدم الإشارة إلى شعائر الإسلام، والالتفات إلى تركيز الروايات على برجوازيات المدن، وكذلك قيام الأعمال - في مجملها - على التحذير من البشر، فضلاً عن محاولة التغلب على غربة المجال الجديد وغرابته، فيعول على استثمار الأنواع التقليدية للأدب العربي، وبخاصة من تلك الأنواع وثيقة الصلة بالخبرة الدينية، وتحل الغاية اليوتوبية مكانًا كبيرًا في وعي المبدعين الذين رأوا في الخيال العلمي ملاذا وحلًّا، ويضمرون ازدراء للدور الاجتماعي للأدب، وتعول على جذب الانتباه بعيدًا عن الألعاب اللغوية وتركز ميولها على استجواب التقاليد، وتصدير الإطار التخييلي بديلاً لسواه من المداخل فضلاً عن اعتماده مدخلاً معرفيًا يعيد كتابة التاريخ الإنساني.
ويرى تركيز الخيال العلمي على الإطار الباطني فتتخطى كلمة علم حدود المعلومة إلى نوع من المعرفة، وذلك من خلالى ما يسميه «التغريب المعرفي cognitive estrangement»، جامعًا بين ما توحي به كلمة «المعرفي» من معقولية، وما تتوقعه من جعل المعتاد غريبًا عبر كلمة «التغريب» البريختية.
لا يقوم الكتاب على تتبع تاريخي للأعمال محل التحليل، ولكنه يحاول البحث في القيم الفنية لكل عمل، تقوده دومًا غرابة الفكرة وما بها من بعض المغامرة، ويعتبرها المهاد لتصنيف الرواية تحت الخيال العلمي من عدمه، واكتناز الرواية بنوع من التغريب المعرفي ومن ذلك حماسته لرواية «قاهر الزمان» لقيامها على تخيل أحد العلماء يقوم بعملية يمكن من خلالها حفظ البشر والحيوانات عن طريق التبريد وإعادة إحيائهم مرة أخرى، لكن تلك الحماسة لم تمنعه من مراعاة التحليل السردي للروايات فيزدان الكتاب بمقولات الحبكة والإطار السردي والراوي والاسترجاع والاستباق وغيرها من مقولات النقد السردي، ويحدوه في ذلك الوعي بخصوصية المجال المدروس.
4- في إطار سعيه لدراسة أدب الخيال العلمي من كل جوانبه كان لزامًا عليه أن يعرض لنشأته في العصر الحديث وتطوره، فيشير إلى «أهل السفينة 1935م للمغربي محمد بن عبد الله بن المؤقت المراكشي، وتعرّض لتوفيق الحكيم في «رحلة إلى الغد»، ومشيرًا إلى بعض قصصه القصيرة في ذلك الإطار، مع بعض مسرحياته من مثل «مسرح المجتمع»، وأعمال مصطفى محمود مثل رجل تحت الصفر وصبري موسى «رجل من حقل السبانخ»، ويختلف نهاد شريف لكونه أول أديب يكرس قلمه لأدب الخيال العلمي.
ويخصص الكتاب فصوله من الخامس للعاشر (حوالي ثلاثة أرباع الكتاب) لتحليل النصوص محل العينة ويبدأ مع سنة 1965-1992م وعلى مدى ربع قرن تقريبًا وهي الأعمال التي تلت ترجمات عدة دخلت إلى ساحة العرب، ويحمل الكتاب توقيرًا لجهد من مهدوا الطريق، وتثمينًا لإضافات من كتبوا مؤخرًا بعدما أصبح تلقي الخيال العلمي مختلفًا ومعتادًا.
وتحلل في أغلب الكتاب عينتها المختارة بدقة واتساع، لتشمل نصوصًا من سورية ومصر والمغرب والكويت لمبدعين مختلفي المشارب والأزمنة لعل أبرزهم نهاد شريف ومصطفى محمود وصبري موسى وأحمد عبد السلام البقالي وطالب عمران، وتختم بالكويتية طيبة أحمد الإبراهيم، والتي يراها الكاتبة الوحيدة المعروفة عربيًا في مجال الخيال العلمي، كما أنها الوحيدة التي كتبت أعمالاً متعددة تقع أحداثها في العالم نفسه، وتخرج عن التغريب المزدوج إلى التغريب المتعدد، ويقف تفصيلاً مع رواياتها الثلاث الإنسان الباهت 1986م، الإنسان التعدد 1990م وانقراض الرجل 1992م، وكل ذلك في رؤيا رأسية تحلل كل نص على حدة.
ويعرض لروايات مصطفى محمود خلال العنكبوت 1965م وتصور صراعًا ضد الزمن، ورواية رجل تحت الصفر 1966م وتدور أحداثها سنة 2067م، وعلى الرغم من قيام أعماله على تطوير فكرة علمية ولكنها تجنح صوب الفانتازيا أكثر من انتمائها للخيال العلمي، ويلتفت إلى دور العوامل السياسية في قراءة هذا النص أو ذاك. وفي «السيد من حقل السبانخ» لصبري موسى وهي الوحيدة له التي تنتمي إلى الخيال العلمي جاء النص طويلاً في لغة سهلة، وأحداثها في القرن الثالث والعشرين، وينتخب للسوري طالب عمران روايته «خلف حاجز الزمن» 1985م يختارها بين رواياته العديدة المنتمية إلى المجال ذاته.
ويركز في كل رواية على ملمح بعينه ومثلاً، فقد يراهن على أن الخيال العلمي العربي غير مستقى من النماذج الغربية، وإنما يتصل بموروث الفانتازيا العربية، ويفرق بين قيامه على حقائق علمية ثابتة منضبطة تمتد وتستكمل عن طريق الخيال القائم على فرضيات مدروسة يمكن تحقيقها وقد يعالج ما يغلب على الروايات - كما في الطوفان الأزرق - من التركيز على أجواء معملية سواء عبر شخصيات الرواية أو أجوائها العامة.
يلفت الكتاب - الصادر عن أستاذ غربي - نظرنا إلى الإهمال الذي يعانيه أدب الخيال العلمي العربي، ويدق ناقوس الاهتمام به، لننتظر قيام نقادنا العرب بواجب متابعة الإبداع، والتنظير له دون أن نظل بحاجة إلى من يكشف لنا أمر حضارتنا، فلا يكتفي النقد بالمتابعة للأصوات الشهيرة دون تأسيس وعي نقدي جديد أو دخول لأراضٍ غير مأهولة بالدراسات ■