العبور الرمادي التعالق الأجناسي بين القصة القصيرة جدًا وقصيدة النثر
تعتبر المؤلفة أن القصة القصيرة جدًا وقصيدة النثر تمثلان المعالم الأدبية لما بعد الحداثة في تمردهما البنائي على الأنماط النوعية التي تنتميان إليها، وهذا الكتاب يقف على منطقة التعالق بينهما منطلقة من مستويين متداخلين، مستوى نظري يمثل النظرية الأجناسية التي حددت الفروق النوعية والحدود الأدبية بين الأجناس، ومستوى تطبيقي على نماذج عربية مختارة.
لقد مرت نظرية الأجناس الأدبية بمرحلتين أساسيتين: مرحلة كلاسيكية قديمة دعت فيها إلى فصل الأجناس الأدبية بعضها عن بعض دون التراسل فيما بينها، ومرحلة وصفية تعاقبت فيها الدراسات النقدية بعد المرحلة الكلاسيكية وتكثفت في مسألة التجنيس، فظهرت ردود أفعال إزاء النظرية التصنيفية القديمة، وقد شكل قصور نظرية التقسيم الأجناسي عن شمول جميع الأنواع الأدبية، وصرامتها الحادة في الفصل بين الأجناس، مهادًا خصبًا لنشوء نظريات ومقاربات أخرى، إما ترفضها كلية مثل الشكلانيين الروس، أو تؤيدها مثل تودروف، أو تطورها وتقاربها إبداعيًا مثل جيرار جينيت الذي اقترح خمسة أنواع من علاقات التفاعل النصي الذي يحدث بين النصوص من التداخل النصي أو التعالق النصي، وهو ما يجعل النص يرتبط بعلاقة ظاهرة أو ضمنية مع غيره من النصوص.
ترى المؤلفة أن تطور الأجناس الأدبية ينشأ من التفاعل بينها من خلال استعارة بعض المكونات أو الخصائص أو السمات التي تتميز بها الأجناس بعضها عن بعض، استعارة دون مسخ للجنس الأصلي بكامله. كما ترى أن القصة القصيرة جدًا وقصيدة النثر نموذجان للتلاقح بين الفنون الأدبية وتعالقها، وأنهما هجين أدبي بين الشعر والنثر.
قصيدة النثر في ميزان النقد
كانت حادة الحضور على مستوى قبول الشعراء والمتلقين، فانقسموا بين مؤيد ومعارض، أو واقف حيالها بالحياد، ولا يزال الاختلاف قائمًا متمثلاً في: إشكالية المصطلح وترجع إلى أسباب بعضها ثقافية أدبية، وبعضها منهجية إجرائية، وبعضها جمالية فنية. وإشكالية البناء بانتهاكها لشكل القصيدة العروضية، من وزن وقافية، وخروجها عن إطار النثر. وإشكالية الانتماء الأجناسي إذ يراها البعض كتابة نثرية تحمل خصائص الشعر، والبعض يراها إيقاعًا شعريًا يحمل سردية النثر، والبعض يراها شكلاً متطورًا عن الشعر.
القصة القصيرة جدًا في ميزان النقد
من أهم أسباب اختلاف النقاد في المصطلح هو ما يعودون إليه في تحديد مفهومها، فمنهم من يحدده من خلال الكم والحجم وعدد الكلمات، ومنهم من يحدده من خلال خصائصها وتقنياتها من تكثيف وإيحاء واختزال وانزياح ومفارقة. ولا يزال الجدل قائمًا حول استقلاليتها بين من يعتبرها شكلاً من أشكال القصة القصيرة، ومن يعدها نوعًا سرديًا مستقلاً، ومن يعتبرها جنسًا أدبيًا مستقلاً.
العبور وحدود التعالق
إن المتأمل في هاتين الظاهرتين النصيتين الجديدتين يجد أنهما حالة جمالية للنص القصير. كما أن التكثيف والإيماض والإيقاع والمفارقة مسارات تتكئ عليها الكتابة القصيرة جدًا عمومًا.
ترى المؤلفة أن القصة القصيرة جدًا فن نثري يقع في الجهة المقابلة من قصيدة النثر، الفن الذي يقترب من كونه منتميًا لفصيلة الشعر.
فلسفة النص الفنية
1 - الشعرية:
ظلت مفهومًا غامضًا متعددًا بتعدد الباحثين في شأنها واختلاف توجهاتهم، وذلك لأسباب تاريخية ومعجمية وأسباب في الترجمة. فالشعرية عند تودروف لا تختص بالنوع، ولكن بأدبية هذا النوع، فلكل فن أدبي شعريته الخاصة. أما جان كوهين فقد بنى شعريته على الانزياح، إلا أنه ربطها بالشعر دون غيره من الفنون الأدبية، فالنص الشعري هو انزياح عن قانون اللغة المعياري، مميزًا في نظريته بين الشعر والنثر وفق الأصل والانحراف، فالنثر أصل والشعر انحراف عنه.
أما السمة الشعرية للقصة القصيرة جدًا من وجهة نظر المؤلفة فتعود إلى لغتها الموحية والمركزة حول الدلالة المطلوبة، وتكمن في العلاقات اللغوية الجمالية للبنية الداخلية الموحية، في زمن دلالي مكثف، بطابع من التخييل والدهشة، ناتجة عن الذاتية الشاعرة؛ فالنزوع إلى الذاتية يجعلها أقرب إلى الشعر. وقد رأت المؤلفة أن هذه الشعريات تؤكد تقارب القصة القصيرة جدًا مع قصيدة النثر؛ فالشعرية انحراف أولا باللغة من كلام عادي إلى نص إبداعي. ومن أمثلة الشعرية قصة «اختناق» للسعودي مفرج المجفل (أشعلتها نار الغيرة/ فذهب كالدخان، وبقيت كالرماد).
2 - الإيقاع:
من أهم العناصر التي تميز النص الأدبي عن غيره، ويوجد في النثر كما يوجد في الشعر، ولكن بأدوات خاصة كالذي نجده في السجع والطباق والجناس والتكرار والتقابل، والإيقاع باختصار هو تناغم في صورتيه: الشكلي والدلالي، وهو عنصر شعري يقارب القصة القصيرة جدا مع قصيدة النثر. ومعظم الأمثلة التي عرضتها المؤلفة للإيقاع يطغى فيها التناغم الشكلي على الدلالي.
3 - الصورة الفنية:
هي التسمية الجديدة لمصطلح علم البيان في البلاغة العربية، وقد ارتكزت على التشبيه والاستعارة والكناية والمجاز. وهي تتكئ على التخييل الذي يعتبر صورة حديثة لمحاكاة أرسطو. وفي القصة القصيرة جدًا تشمل ثلاثة أنماط: الصورة الوصفية، والصورة المشهدية والصورة البيانية. وهذه الأنماط تحضر في القصة القصيرة جدًا متمازجة متشابكة في صورة متجانسة تزيد من فنية النص؛ فهي صورة وصفية للمشهد داخل النص بأسلوب بياني. ومثال عليها قصة «البداية» للسوري زكريا تامر (نفخ الشرطي في صفارته، فبزغت توًا شمس الصباح، وأضاءت شوارع المدينة بنور أصفر كخشب مشنقة عجوز. عندئذ أفاق الناس من نومهم آسفين عابسي الوجوه).
4 - التكثيف والاختزال:
قد يكون التكثيف لغويًا بنائيًا يقوم على الحذف والإضمار والإيجاز والاختزال والترقيم والتنقيط والبياض والاستغناء عن بعض ألفاظ النص معتمدًا على سياقه، أو دلاليًا يعتمد على كثافة الجملة واقتصادها لغويًا مع اتساع مضمونها من دون حذف أي يعتمد على جعل النص مفتوحًا يحتمل تأويلات عدة.
والتكثيف في القصة القصيرة جدا متعلق بالاقتصار في عدد الشخصيات، والتركيز في الحوار بحيث ينتقل في إيصاله للحدث من المستوى العادي إلى الشعري، والاستعاضة بالألفاظ الموجزة عن المحمولات المتسعة، مع اختزال التراخي الزمني في سطر قصصي.
ويعد التكثيف من أهم مقاربات القصة القصيرة جدًا مع قصيدة النثر. ومن أمثلة التكثيف الحواري قصة «ابتسامة» لمصطفى لغتيري (أنت دائمًا متفوق في دراستك/ قال صديقي، ثم أضاف:/ ما السر في ذلك؟/ ابتسمت ورددت عليه:/ أمي... فكلما تفوقت اتسعت ابتسامتها أكثر)
فلسفة النص الدلالية
1 - الرمز:
لقد تطورت دلالة الرمز عن مراحلها الأولى، فلم تعد قريبة سهلة الإدراك تصل إلى المتلقي مباشرة، بل أصبحت مكثفة يعتمد فيها على تأويل المتلقي وتأمله، وقد يصل وقد لا يصل. وقد اختلف في تصنيف الرمز إلى أنماط تتبع طبيعته أو مصدره، لكن مستويات التعامل مع الأنماط هي ما يشكل فاعلية الرمز الفنية؛ فهناك المستوى التراكمي حيث يستخدم الكاتب الرمز في ذاته وليس بوصفه إضافة لنصه، وهناك المستوى الاستعاري حيث يكون مضمون الرمز أهم من الرمز، إذ يكون ذا إيحاء يدفع بالكاتب إلى استعارته بوصفه مشبها به، وهناك المستوى الإشاري المفهومي الذي يؤدي بالرمز إلى الانحراف عن الحقل الجمالي إلى حقول أخرى، فلسفية وسياسية، وهذه الرموز ابتذلت، وهناك المستوى المحوري، وهو كما يرى سعد الدين كليب الوحيد الذي ينطبق عليه مصطلح الرمز الفني؛ فالكاتب يختار الرمز ثم يخرجه من منظوره التقليدي إلى منظور آخر يستوعب حالة النص الأدبية. وقد غلب هذا المستوى على القصة القصيرة جدًا. وقد يستخدم الرمز في أكثر من صورة دالة على معنى مختلف. وربما يستخدم الكاتب القصص التقليدية رمزا لقصته الجديدة، فيجعل الرمز في ذاته قصة كي يزيد فيه وينقص بصورة تغير مجرى تاريخه القديم إلى آخر فيخرج به من دلالته المبتذلة إلى دلالته الجديدة كما في قصة «ذات الرداء الأحمر» لليمنية إيمان المزيجي (صارت تمشي في الغابة مطمئنة... الذئاب مشغولة بمشاهدة البشر وهم يلطخون قمصانهم بدم صدق).
2 - الانزياح:
هو المجاز في الدراسات البلاغية القديمة وقد تناوله عبد القاهر الجرجاني باسم معنى المعنى. فمن خلاله تتم حالة الهدم للنسق اللغوي المألوف ليحل محله آخر غير مألوف. وهو نوعان: لغوي حيث تعطى المفردات والتراكيب مدلولات جديدة، ويبعث فيها الحياة بعد أن تكون قد استهلكت وفق تعبيراتها المعتادة.
أما الانزياح غير اللغوي أو الفكري والموضوعاتي ففيه ينحرف النص من مستواه العادي إلى مستواه الأدبي، دون أن يخرج عن اللفظ، بل يتعدى اللفظ إلى معنى مشترك. قد يستخدم النص دالاً في غير حقله الذي عرف به، وقد يستخدم كلمات الحقل نفسه، ولكن بصورة متداخلة؛ كما في قصة «غروب» لمفرج المجفل (كلما نظر إلى البحر... غرقت عيناه).
3 - المفارقة:
تعتمد على إدهاش المتلقي من خلال تفريغ الذروة وخرق المتوقع، فهي حالة من المقارنة بالتقابل أو التضاد بين المرجعية المشتركة والرؤية الخاصة للمبدع الذي قد يستخدم مستويين في إيصال معناه: سطحي ظاهري من خلال التلميحات والإشارات التي تساعد المتلقي على اكتشاف المعنى الباطن، ومستوى كامن وخفي مرتبط بالسياق المحيط بالنص سواء كان لغويًا أو اجتماعيًا أو تاريخيًا.
إن أنماط المفارقة في القصة القصيرة جدًا تعتمد على المفارقة الدلالية بين العنوان والنص السردي، والمفارقة التشكيلية والدلالية بين بداية النص وخاتمته بما يخالف أفق توقعات القارئ ويصدم رتابة تلقيه. كما في قصة «ذبيح» للمصري منير عتيبة (عندما رأى أبي في المنام أنه يذبحني، قتلت أخي المفضل لديه، واستوليت على الميراث وحدي).
على المستوى التطبيقي قصرت المؤلفة نماذجها على خمسة قصاصين وردت أسماؤهم سابقا، وبمعدل كتاب قصصي لكل واحد منهم، مع الإشارة إلى أن كل واحد منهم قد جنس كتابه كقصص قصيرة جدا باستثناء زكريا تامر الذي جنس كتابه كقصص كما هو دأبه في كل تجربته القصصية. كما أنها قد كررت بعض النماذج في أكثر من مبحث بالكتاب، (وليس ذلك لقلة النماذج) ص180. وإنما لأن النموذج التطبيقي الواحد قد يضيء أكثر من جانب نظري.
إن عنوان الكتاب ومقدمته قد يفهم منهما أنه دراسة باتجاهين: من القصة القصيرة جدًا إلى قصيدة النثر، وبالعكس. ولكنها فعليا هي باتجاه واحد: ما الذي يجعل بعض القصص القصيرة جدًا أقرب إلى أن تكون قصائد نثر؟ وهذا ما قد يشجع على البحث بالاتجاه الآخر: ما الذي يجعل بعض قصائد النثر أقرب إلى أن تكون قصص قصيرة جدًا؟ ■