اللفظ للمعنى قضيَّة العصور نحو خطَّة بناء النَّص

اللفظ للمعنى قضيَّة العصور  نحو خطَّة بناء النَّص

اللفظ والمعنى رُكنان أساسيّان في بناء اللغة ودراستها، ويتعلقان بتشكيل وفهم التراكيب، وفي أبسط تصوّرٍ لهما يتعلق اللفظ بالأصوات والنغمات والتلفظ، ويتمثل في الوحدات الصوتية التي تُشكّل الكلمات والعبارات. أمَّا المعنى، فيشير إلى الدلالة أو الفهم للكلمات أو النصوص، ويتعلق بالمفهوم أو الفكرة التي ترتبط بالكلمة، ويتغير المعنى حسب السياق والاستخدام.

 

في اللغة العادية، يتمثل التواصل في تبادل الرموز اللفظية (الكلمات)؛ لتحمل معاني معينة، فمثلًا عندما يتفق أهل بلدة أو حرفة على فهم اللفظ بطريقة مشتركة؛ يتحقق التواصل الفعّال، ويكون للسياق في كل الأحوال دورٌ مهم في فهم المعاني الدقيقة للكلمات. 
وفي اللغة الإبداعية، يُشكل اللفظ والمعنى جوهرها، لا سيما الشعر وأي نص أدبي آخر. فاللفظ يُمثل الشكل الخارجي للكلمات والجمل والعبارات، بينما المعنى يتعلق بالمحتوى والمغزى الذي يحمله النص. ويجتمع اللفظ والمعنى لتشكيل الوحدات اللغوية التي تُساعد على بناء النص وفهمه، وتركب صوره الفنية، ما يُؤدي إلى تفاعل المتلقي معه، وبالتالي يكون لهما نفس الأهمية في بناء الخطاب والتواصل الفعّال مع المتلقي.
فاللفظ والمعنى بنيتان أساسيّتان في بناء النصِّ وتكوين الخطاب والتواصل؛ حيث يجتمعان لتشكيل الوحدات اللغوية التي تُفهم وتُنتَج. ولا يُعتد بقيام النص - زعمًا - بالاعتماد على أحدهما دون الآخر؛ فلا ينفع نصًا سيلُ معانيه كما لا تُغنيه ألفاظُه عن المعاني؛ فاللفظ للمعنى والمعنى للفظ قضيةُ العصور ورُكْنا النّصِ.
وقد شغلت قضية اللفظ والمعنى مساحة كبيرة من نتاج كثيرين من اللغويين والبلاغيين، قديمًا وحديثًا. وعلى مر العصور انتصر اللفظ والمعنى على التعصب والخلاف - إن كان ثمة تعصب وخلاف حقيقي - لصالح اكتمال الصورة التي لا تتم إلّا بهما. ولم يكن للكاتب قديمًا وحديثًا أو مستقبلًا خيار الاستغناء عن أي من اللفظ والمعنى في بناء نصه على نحو يستقيم فيه لفظه ومعناه. وعلى أثر كل منهما من الفصاحة والبلاغة عُقدت أو تُعْقَد المفاضلة بين نص ونص، من هذا المنطلق جاء فكر البلاغيين واللغويين بعيدًا كل البعد عن تعصب أو خلاف، وإن بدا غير ذلك؛ فلا يعدو عملية تنظيمية، مناطها التشارك بين اللفظ والمعنى في بناء الخطاب الأدبي.
ولعل الجاحظ (159-255هـ) كان صاحب الفضل الأول في تحريك القرائح نحو تحري إِجادة النص، حين قال قولته الشهيرة: (المعاني مطروحةٌ في الطريق)، من قوله: «وذهبَ الشيخُ إلى استحسانِ المعني، والمعاني مطروحة في الطريقِ يَعرفها العجمي والعربيُّ، والبدوي والقَرويُّ، (والمدنيُّ)، وإنما الشأن في إقامةِ الوزنِ، وتَخيّر اللفظِ، وسهولَة المَخْرج، (وكَثْرةِ الماءِ)، وفي صحَّةِ الطَّبْعِ، وجودةِ السَّبْك، فإنّما الشِّعرُ صياغةٌ، وضربٌ من النَّسج، وجنس من التصوير».
وبدءًا لم يكن الجاحظ - بناءً على ما جاء في كلامه - منحازًا إِلى اللفظ على حساب المعنى، وإِنَّما الأَمرُ على العكس من ذلك، ويُوضِّحهُ ما جاء في قول إِحسان عباس: بأَنَّ الجاحظ « لم يتجاوز بما يعنيه (المادة الأَوَّلية) التي تتولاها (الروية) بالصياغة»؛ ذلك أنّ المعاني في مادتها الأولية (الخام) قبل صياغتها لا تخضع للمفاضلة فإِذا ما صِيغت فلا يُنظر إليها ولا إلى الألفاظ إلا من خلال وحدة كاملة. 
وقد اشتمل كلام الجاحظ على عدة عناصر من شأنها متى تحققت أن تؤثر في جودة الشعر وصحته، وما كان لهذه العناصر أن تتكون بعيدة عن المعاني مثل صحة الطبع وكثرة الماء وجودة السبك، لا سيما أنّ الشعر هو عملية صياغة وتشكيل للأفكار والمشاعر وتصوير، ويُعد التصوير جزءًا أساسيًا من هوية الشعر وجودته، فما أمكن لتلك العناصر أن تُؤتي أكلها من دون الاتكاء على المعاني والأفكار
ومِمَّا ورد عن الجاحظ فيما يَدلُّ على أَنَّ عنايته بالمعنى لا تقل أَهميةً عن عنايته باللفظ ما جاء في تعليقه على قول الإِمام علي رضي الله عنه: (قيمة كل امرئ ما يحسن)، إِذ قال الجاحظ: «فلو لم نقف من هذا الكتاب إلّا على هذه الكلمة لوجدناها شافية كافية، ومجزئة مغنية، بل لوجدناها فاضلة عن الكفاية، وغير مقصِّرة عن الغاية. وأحسن الكلام ما كان قليله يُغنيك عن كثيره، ومعناه في ظاهر لفظه، وكان الله عز وجل قد ألبسه من الجلالة، وغشّاه من نور الحكمة على حسب نية صاحبه وتقوى قائله. فإذا كان المعنى شريفًا واللفظ بليغًا، وكان صحيح الطبع، بعيدًا من الاستكراه، ومنزهًا عن الاختلال مصونًا عن التكلف، صنع في القلوب صنيع الغيث في التربة الكريمة. ومتى فصلت الكلمة على هذه الشريطة، ونفذت من قائلها على هذه الصفة، أصحبها الله من التوفيق ومنحها من التأييد، ما لا يمتنع معه من تعظيمها صدورُ الجبابرة، ولا يذهل عن فهمها معه عقولُ الجهلة». 
كذلك لم يكن الجرجاني متحاملًا على اللفظ من أجل المعنى، ولم يتجاوز كلامه حد الاعتدال والتوازن. وقد رأى الجرجاني (400-471 هـ) أَنَّ «الاعتبارَ يَنبغي أن يكونَ بحالِ الواضعِ للكلامِ والمؤلِّف له، والواجِبُ أن يَنظرَ إِلى حالِ المعاني معه لا مع السامِع، وإِذا نظَرْنا عَلمْنا ضرورةً أنّه مُحالٌ أنْ يكونَ الترتُّبُ فيها تِبعًا لترتُّب الألفاظِ ومكُتَسبًا عنه، لأنَّ ذلك يقتضي أنْ تكونَ الألفاظُ سابقةً للمعاني، وأن تَقَع في نفْسِ الإِنسان أولًا، ثمَّ تقعُ المعاني مِنْ بَعْدها وتاليةً لها، بالعكْسِ ممَّا يَعْلَمُه كلُّ عاقلٍ إِذا هو لم يُؤخذ عن نَفْسه، ولم يُضْرَبْ حِجابٌ بينه وبينَ عَقْلِه. وليتَ شعري، هل كانتِ الألفاظُ إلاَّ مِن أجْل المعاني؟ وهل هي إلاَّ خَدمٌ لها، ومُصرَّفَةٌ على حكمها، أوَ ليستْ هي سمات لها، وأوضاعًا قد وضعت لتدلَّ عليها، فكيفَ يُتصوَّرُ أن تَسْبِقَ المعانيَ وأن تتقَدَّمَها في تَصَوُّرِ النفسِ، إنْ جازَ ذلك، جازَ أن تكون أسامي الأشياءِ قد وُضِعَتْ قبْل أن عُرفتْ الأشياءُ، وقبلَ أنْ كانتْ. وما أدري ما أقولُ في شيءٍ يجرُّ الذاهبينَ إليه إِلى أشباهِ هذا من فنونِ المُحال، وردئ الأقوال». 
ومن ينظر في رأي الشيخ الإمام عبد القاهر فيما سبق لا يجد أنَّ هناك مفاضلة ترفع من شأن أحدهما (المعنى واللفظ) على حساب الآخر، وإن كان قد جعل المقام الأول للمعنى (فهو مقام ترتيبي تنظيمي) ومنطقي، وهو مُدرَك ومحَسٌّ في تكوين الخطاب والنص؛ باعتبار أَنَّ المعنى هو الأساس في اختيار الأَلفاظ وصناعة التراكيب، وإن وجَّه لمن سبقه النقد في الاحتفال باللفظ؛ فإنّما ليُبيِّن أَنَّ الفكر هو الذي يفضل اختيار لفظة على لفظة أُخرى، وبهذا يكون لها ميزة عن غيرها.
فإِنَّه لم ينتصر للمعنى على حساب اللفظ - فهو كما خطَّأ التحيُّز للفظ فقد خطَّأ التحيُّز للمعنى - لكنَّه أَراد ألا تُكْتَب للفظ الغلبة في ترتيب اللغة وتكوين الخطاب، فقال: «واعلم أنا لا نأبى أَنْ تكونَ مذاقةُ الحروفِ وسلامتُها مما يَثْقُل على اللِّسانِ/ داخِلًا فيما يُوجِبُ الفضيلةَ، وأنْ تكونَ مما يُؤكِّدُ أمرَ الإِعجازِ، وإِنّما الذي نُنْكِرُه ونُفَيِّلُ رأيَ مَنْ يَذْهَبُ إِليه، أن يَجْعَلَه معجِزًا به وَحْدَه، ويَجعلَه الأصْلَ والعُمْدةَ».
فليس ثمة إشارة في كلام الشيخ إلى إنكار أهمية جمالية اللفظ، ولا للاستهانة بقوة تأثيره في المتلقي وتحقيق الغاية منه. ولكن لا يكفي لجعله معجزة في حد ذاته مجرد جماليته وسلامته، وإنما تكمن أهميته ويكون إعجازه بما يحمله من معانٍ عميقة وفضائل تنمّ عنه، وهذا يتطلب التوازن في تلك الثنائية، والتي يكمن توازنها في عمق المعنى وصدق التعبير بالإضافة إلى جمالية اللفظ وسلامته.
وهكذا ليس لنص قيام بأحد الطرفين فحسب، ولا فائدة هناك من الاحتفاء بأحدهما على حساب الآخر، وإنما يتقاصر النص بتقاصر أحدهما أو كلاهما. فهما معًا مناط الحكم ومؤشر التفاضل ومعيار الجودة. وإليهما احتكم ابن قتيبة (213-276هـ) في تقسيمه للشعر، كما جاء من قوله: تدبّرت الشعر فوجدته أربعة أضرب، ضرب منه حسن لفظه وجاد معناه، وضرب منه حسن لفظه وحلا، فإذا أنت فتّشته لم تجد هناك فائدة فى المعنى، وضرب منه جاد معناه وقصرت ألفاظه، وضرب منه تأخّر معناه وتأخّر لفظه.
وقد حمل منهج ابن قتيبة ملامح التجديد - في زمانه - من خلال النظر إلى النصِّ في أي زمان ومكان، والبعد عن المفاضلة بالتقدم أو التأخر، كما أَنه رسم خطة للشعراء في كيفية الكتابة، ووضع مستويات للبحث عنها، منها ما يخص البناء الفني ومنها ما يخص الدلالة، كما انتبه إِلى أهمية القيمة التربويَّة في النصِّ الشعري.
وقد ورد عن الجاحظ أيضًا - من كتابه الحيوان - في تناسب الألفاظ مع الأغراض قوله: «ولكلّ ضرب من الحديث ضرب من اللفظ، ولكلّ نوع من المعاني نوع من الأسماء: فالسّخيف للسخيف، والخفيف للخفيف، والجزل للجزل، والإفصاح في موضع الإفصاح، والكناية في موضع الكناية، والاسترسال في موضع الاسترسال. وإذا كان موضع الحديث على أنّه مُضحكٌ ومُلهٍ، وداخل في باب المزاح والطّيب، فاستعملت فيه الإعراب، انقلب عن جهته. وإن كان في لفظه سُخْف وأبدلت السَّخافة بالجزالة، صار الحديث الذي وضع على أن يسُرَّ النّفوس يُكْربُها، ويأخذ بأكظامها».
وكل ما تقدم، وسبق من قول ورأي فيما يخصُّ اللفظ والمعنى ليس محاولةً للوقوف على تباين أو خلاف أو تعصب لقول أو رأي، وإِنَّما هو مقاربة للمقصد والخلفيات؛ ولعلنا ندرك أَنَّ كلا اللفظ والمعنى أَساس عملية الكتابة، (ولا يخضعان للمزايدة المُنقصة)، وبالاتكاء عليهما معًا يتم تكوين التراكيب، وترتيبها ومناسبتها، ووضعها في سياقاتها؛ وعلى الكاتب والشاعر أَن يضعاهما معًا في اعتبار المفاضلة؛ فلن يستقيم الخطاب إِلَّا بهما، ومدى تحقق غاية كُل منهما.
كما أنّه على الكاتب والشاعر أَن ينظرا في الأَلفاظ التي يريانها مناسبة لمعانيها، فإِذا تحقَّقا من ذلك، وأَصابا الاختيار والتوليف؛ فقد أدركا نتيجة ما ذهب إليه الأوائل من الحض على الروية والتخير والتناسب. وللقلْقشندي (756-821هـ) منهج في كتابه (صبح الأعشى)، في كيفية تصرف الكاتب في الألفاظ اللُّغويّة، وتصريفها في وجوه الكتابة، إِذ يقول: «لا خفاء أنه إذا أكثر من حفظ الألفاظ اللغوية، وعرف الألفاظ المترادفة على المعنى الواحد والمتقاربة المعاني، تمكّن من التعبير عن المعاني التي يُضطّر إلى الكتابة فيها بالعبارات المختلفة، والألفاظ المتباينة، وسَهُل عليه التعبيرُ عن مقصوده، وهان عليه إنشاءُ الكلام وترتيبُه».
فإذا اعتبرنا أنَّ تلك كانت دعوات السابقين إلى تسنَّم صهوة الإِبداع في الكتابة في زمان أحبارها الأقحاح؛ فما أحوج زماننا إليها الآن... الآن، في ظل تطور الكتابة واتساع الدلالة وتشظيها؛ إذ لم تعد المعاجم وحدها بما تحمله من مفردات نهاية المطاف للكاتب والشاعر أو المعوَّل عليه في سبر أغوار الكتابة، لكن وعلى الرغم من ذلك؛ فليس ثمة كتابة الاَّ في إِطار الكلمات والتراكيب؛ ذلك أنّ الشاعر أو الناثر، حسب محمد عبد المطلب «مبدع تراكيب قبل أَن يكون مبدع فن أدبي معين، وكلّ عبقريته إِنَّما تتمثل في قدرته الخاصة على تركيب مفرداته على نحو معين ينتهي بها الأمر إلى أَنْ تصير رمزًا كليًّا يشير إِلى تركيب ذهني كلي أيضًا». 
وقد بات سعي الكاتب نحو الاختيار والتوليف عملية مهمة وحساسة - لا سيَّما في وقت تتزاحم فيه الأصوات التي تفتقد الخطة والمنهج. ويتوقف اختيار الألفاظ وتركيبها على عدة عوامل، منها: المتلقي؛ حيث يعتمد اختيار الألفاظ على الشريحة التي يستهدفها الكاتب، كما يجب عليه مراعاة السياق والغرض؛ إِذ يتأثر اختيار الألفاظ وتركيبها بالسياق والموضوع.
في هذا الزمان الذي نحياه بكل مستحدثاته ومستجداته ومفاجآته نحن في حاجة إلى خطة للكتابة الإبداعية نستدرج فيها الجمهور إلى حيث مواصلة القراءة وأن تتحقق (أدبية التواصل)؛ فما أحوج المتلقي والكتابة إلى (مراعاة مقتضى الحال)، فهو مبدأ جوهري في البلاغة العربية، يُتيح للشاعر أو الكاتب التعبير بفاعليَّة وجمال، مع ملاءمة الأسلوب والمضمون للسياق والموقف الذي يُعالجه، بالإضافة إلى مراعاة الحساسية الثقافية والخلفيات المختلفة للمتلقي، ويبقى هذا المبدأ أداة قوية لتوصيل الأفكار والمشاعر بشكل مؤثر ومناسب، وبما يضمن تعزيز القراءة وصدق تأوّلاتها ■