متاحف محمود سعيد
ستون عاماً مرت على رحيل الفنان التشكيلي الرائد محمود سعيد (1897 - 1964) صاحب «بنات بحري» و«حفل افتتاح قناة السويس» و«وذات الرداء الأخضر» و«ذات الجدائل الذهبية»، و«ذات العيون العسلية»، و«ذات المنديل الأبيض»، و«الدراويش»، و«الصيد العجيب» و«الإسكندرية في الليل»، و«قبور باكوس»، و«قارئ القرآن» وغيرها من الأعمال الفنية التي خلَّدتها ريشته وألوانُه وخطوطه ورؤيته للفن والحياة.
لقد تجمَّل مركز محمود سعيد للمتاحف في الإسكندرية - برئاسة د. نهى يوسف للاحتفال بهذا الحدث، كما تجمَّل قطاع الفنون التشكيلية الذي يرأسه د. وليد قانوش، وهو أحد قطاعات وزارة الثقافة المصرية المهمة، للاحتفال بمحمود سعيد فنانًا تشكيليًّا رائدًا ومبدعًا، وبلوحاته التي وصلت إلى العالمية، الأمر الذي دعا إلى إصدار ما يعرف بالكتالوج المسبّب للرسام باللغتين الإنجليزية والفرنسية، تحرير فاليري ديير هس ود. حسام رشوان، وصدر عام 2016، ونأمل ترجمته إلى العربية أيضًا.
وُلد الفنان محمود سعيد في الإسكندرية بمنطقة الأنفوشي بالإسكندرية، بالقرب من مسجد المرسي أبوالعباس، في 8 أبريل عام 1897 لأب رأس الوزارة المصرية مرتين، المرة الأولى
(1910 - 1914) والمرة الثانية عام 1919، ولكن ابنه الفنان الذي يسبح دائمًا في الخيال والخطوط والألوان، لم يسلك هذا المسلك، بل ترجَّل عن وظيفته الحكومية الكبيرة، وعن عمله بالقضاء المصري، بعد حصوله على ليسانس الحقوق الفرنسية عام 1919، وتدرجه في سلك القضاء حتى وصل لمنصب مستشار بالاستئناف عام 1939. وكان يُعد ليكون وزيرًا للحقانيّة (العدل) ولكن ترك كل هذا، وهو في سن الخمسين (1947)، ليتفرغ للرسم والسفر والتجوال وزيارة المتاحف العالمية ولقاء الفنانين والرسامين والمشاركة في تأسيس المراسم والجماعات الفنية، ومنها أتيليه الإسكندرية (جماعة الفنانين والكتَّاب) عام 1934 مع الفنانين المصري محمد ناجي والإيطالي جاستون زناييري. كما عين عضوًا بالمجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب (المجلس الأعلى للثقافة حاليًا) وأصبح مقررًا للجنة الفنون التشكيلية عام 1956.
وقد عبَّر الفنان عن تلك اللحظة الفارقة في حياته عندما قرر ترك وظيفته الحكومية قائلًا: ما إن اقتربت شمس الخمسين من عمري، حتى حزمت أمري، وقررت التقاعد، فكان أهم قرار اتخذته في حياتي، ربما أهم من قرار زواجي من سميحة رياض، وسفري للدراسة في باريس.
وفي رواية «الليلة الأخيرة في حياة محمود سعيد» تمثلتُ تلك اللحظة التي يعتزل فيها الفنان عمله الوظيفي ليتفرغ للفن، فقلتُ على لسانه: «كانت أحجار الكورنيش التي أخطو فوقها باردةً تُشعرني بأنني أسير فوق الزبد الناعم، فيبتل جوربي، ولا يبتل حذائي. أشعلت غليوني واتجهت إلى ديليس. لم يكن روَّاد المكان كثيرين في هذا الصباح، وهو ما يساعدني على التركيز في قضيتي؛ قضية التقاعد والتفرغ للرسم والفن، ماذا أقول لعائلتي ولوالدي، ورؤسائي وأصدقائي في القضاء، خاصة بعد أن كان والدي محمد سعيد باشا، يعدُّني لأكون وزيرًا للحقانية مثله، ويتصرف معي على هذا الأساس لكنه في الوقت نفسه يعلم مدى حبي للفن، أتى لي ولأخي حسين بمدرسين وفنانين تعلمتُ منهم الرسم في الإسكندرية، وأثناء عيشنا بعض السنوات في القاهرة، انتظمتُ خلالها بالمدرسة السعيدية، تعلمتُ الرسم على يد مدام كازاناتو الإيطالية، قبل أن انضم في الإسكندرية إلى مرسم الفنان الإيطالي زناييري.
أعيش لحظة متوترة أضع فيها كل مستقبلي ومستقبل فني ولوحاتي وألواني ومستقبل عائلتي أمام عيني.
أحضر الجرسون حسن قهوتي المفضلة، وانصرف عندما رآني مشغولًا أو مهمومًا، أو محدقًا في الفراغ، لم أشكره ككل مرة على إحضار الفنجان الخاص بي، فقد كنتُ في واد آخر غير ذي لون.
أخذتُ أحصر ممتلكاتي ونصيبي في أموال العائلة ومعاشي من التقاعد وغيرها من المصادر المالية، فوجدتُ خيرًا حمدتُ الله عليه، أسهم في اتخاذ قرار الاستقالة بأريحية مطلقة».
انتقلتْ أسرة محمود سعيد في فترة مبكرة من الأنفوشي حيث مسقط رأس الفنان، للسكن في منطقة جناكليس شرق الإسكندرية، في فيلا جميلة تحولت بعد وفاة الفنان عام 1964 إلى مركز يحمل عنوان «مركز متاحف محمود سعيد» التابع لوزارة الثقافة، ويضم ثلاثة متاحف هي: متحف محمود سعيد، ومتحف سيف وأدهم وانلي، ومتحف الفن المصري الحديث. وقد تم افتتاح المركز - بعد إعادة هيكلة الفيلا وتجهيزها لتكون مكانًا فنيًّا حضاريًّا - في يوم الاثنين 17 أبريل عام 2000.
متحف محمود سعيد
يضم متحف محمود سعيد 7 قاعات لبعض أعماله تحتوي على 53 لوحة، جميعها بالزيت عدا واحدة فقط بالجواش، و5 اسكتشات، و3 صور فوتوغرافية خاصة بالفنان وعائلته، و20 ميدالية ونياشين، ووشاحين للقضاء (بحكم عمله الرسمي) وشهادة الدولة التقديرية للفنون عام 1959، ووسام الاستحقاق من الطبقة الأولى، تسلمه من الزعيم جمال عبدالناصر عام 1960، فضلاً عن مكتبة فنية تضم كتبًا ومجلات خاصة بالفنان، وهي غير معروضة للجمهور. بالإضافة إلى مرسم خاص للفنان ومقتنياته الشخصية من نظارة طبية وفرشه وأنابيب ألوانه، وباليتة الألوان، وحامل اللوحات، وغيرها.
ويضم متحف محمود سعيد أيضًا طاقم أرابيسك خاصًّا به مكونًا من (2 كنبة و2 كرسي وفوتيل ومنضدة) وهو مصنوع من الخشب البني المطعَّم بالصدف على الطراز الإسلامي، وتمثالًا نصفيًا للفنان من عمل الفنان محمد مصطفى 1970.
أول لوحة تواجه الداخل إلى متحف محمود سعيد من ناحية اليمين هي لوحة «حفل افتتاح قناة السويس» والتي أُنجزت من خلال ما يشبه التصميم المسرحي الساحر، وهي تعد واحدة من أكبر اللوحات التي رسمها الفنان (223 × 400 سم، زيت على توال، ومن الخلف سوليتكس). ويبدو أن الفنان كُلف برسم اللوحة لأنها أخذتْ منه وقتًا طويلًا لتنفيذها، وهو بطبعه لم يكن يحب التكليف، ويترك نفسه على هواها لرسم ما يشغله أو ما يهتم به وجدانه. يقول الفنان: «نقل لي أحد الوزراء من أصدقاء والدي رغبة الملك فؤاد في إنجازها. فكنت أعمل فيها بين الحين والآخر ولا تريد أن تنتهي. أرادوها من الحجم الكبير الذي لا أحبذه في لوحاتي. وتكرر الطلب من القصر الملكي بعد أن اعتلى عرشه الملك فاروق، فكان لا بد من الانتهاء منها.
كنت متلكِئًا في إنجازها، وكنت أخشى أن يكون حملها كاذبًا، فلا تلد فنًا، أو تلد جنينًا مشوهًا، تتراكم عليه الخطوط والألوان بلا هدف أو لمعان أو معان، فأخجل منه ومن انتسابه إليّ. كنت أخشى من فراغ اللوحة وأن تندثر في هذا الفراغ روح الفنان. كلما رسمتُ وجهًا سارعتُ بمحوه وشطبه، وكانت فرشاتي أجهل من ذبيحة تسير باتجاه المسلخ، فلا بصر ولا استبصار. كلما رسمتُ ماءً يجيء عصفور ينقره فيجرحه فتسيل الدماء بدلًا من الماء، وتتحول القناة إلى بئر من الخيانة. وأشعر أنني أسير في جنازة الذين حفروا القناة وماتوا أسفلها، دون أن نعرف أسماءهم وقراهم التي أتوا منها مُجبرين أو متطوعين أو مضحين بأرواحهم من أجل أسرهم، فكانوا نسيًا منسيًا. لذا كنت أعيش تأجيلًا وراء تأجيل، وإرجاء دائمًا لتلك اللوحة، وفي الوقت نفسه لا أستطيع رفض رسمها، أو الإعلان عن ذلك، خاصة بعد أن تزوج الملك فاروق من تلميذتي وابنة شقيقتي صافي ناز ذو الفقار التي لقبت بالملكة فريدة، فأصبحتُ محسوبًا على العائلة الحاكمة بطريقة أو بأخرى، لقد أصبحتُ خال ملكة مصر».
ومن اللوحات الأخرى في متحف محمود سعيد لوحة في المرقص، ونادية بالرداء الأبيض (وهي ابنة الفنان الوحيدة ورسمها في أكثر من مرحلة عمرية)، ولوحة مدام رياض، ولوحة زوجة الفنان بالقبّعة، ولوحة مدام يوسف ذو الفقار، ولوحة أمومة وبشارة، ولوحة نبوية بالرداء المشجَّر، وذات الحلق اللولي، ولوحة ابنة شقيقته (صافي ناز ذو الفقار التي تزوجها الملك فاروق عام 1938 فكان لا بد لاسمها أن يبدأ بحرف الفاء مثله، فاختارت اسم فريدة، وأصبحت الملكة فريدة، ولكن وقع الانفصال بينهما عام 1948 بعد أن أنجبت له ثلاث فتيات: فريال وفوزية وفادية) ولوحة ذات الأساور الزرقاء، ولوحات لأصدقائه من القضاة والمستشارين، وسيدات المجتمع الأرستقراطي اللواتي يطلبن ذلك، فلا يستطيع الاعتذار، رغم انحيازه للطبقات الشعبية و«بنات بحري». هذا بالإضافة إلى لوحات عن الريف المصري والطبيعة التي رسمها الفنان، وخاصة في لبنان، مثل سهل البقاع، وميناء بيروت، وغيرها، فضلًا عن البورتريهات الكثيرة التي رسمها لنفسه في مراحل مختلفة، وهو في هذا يذكرنا بالفنان العالمي فان جوخ.
وقد اهتمت الأوساط الفنية العربية والعالمية بمحمود سعيد ولوحاته، فكان أحد أبرز محاور مزاد كريستيز للأعمال الفنية الشرق أوسطية الحديثة والمعاصرة بدبي، في شهر مارس 2017، حيث شمل المزاد ست لوحات استثنائية لمحمود سعيد، إلى جانب إطلاق كتاب شامل مقرون بشروحات مفصّلة عنه، كأول دليل من نوعه عن فنان تشكيلي بمنطقة الشرق الأوسط، وأيضًا تنظيم معرض استعادي لأعماله.
وأصدر كريستيز دبي بيانًا، ذكر فيه تفاصيل اللوحات الست المشاركة في المزاد المقام (من 15 - 19 مارس)، وذكر أنها مأخوذة من المقتنيات الخاصة لأفراد من عائلة محمود سعيد وهم: محمد سعيد ذو الفقار (ابن أخت محمود سعيد وهو أحد أشقاء صافي ناز ذو الفقار الشهيرة باسم الملكة فريدة) وإسماعيل مظلوم (ابن خالة محمود سعيد) ود. حسن الخادم، وابنته نادية محمود سعيد. وتمثل هذه اللوحات الست ما يربو على أربعة عقود من مسيرة الفنان مع الرسم، بدءًا من لوحة «عيد الأضحى» (1917 تقريبًا)، ثم «قبور باكوس، الإسكندرية» (رسمة أولية، 1927 تقريبًا)، ثم «بورتريه والد الفنان محمد باشا سعيد»
(أواخر عشرينيات القرن العشرين)، ثم «تأمُّل النفس» (1930)، ثم اللوحة الكبيرة «أسوان - جُزر وكثبان» المعروضة في المزاد مع رسمتها الأولية التحضيرية وتعودان معًا إلى عام 1949.
ولمحمود سعيد مقتنيات رسمية في وزارة الثقافة، ومتحف الحضارة المصرية بالقاهرة، والمتحف الزراعي بالدقي، ورئاسة الجمهورية، ومؤسسة الأهرام، والمتحف العربي للفن الحديث بقطر، ومتحف شيكاغو، وأيضا هناك مقتنيات لدى بعض الأفراد، إما عن طريق الإهداء أو الشراء.
متحف سيف وأدهم وانلي
يضم متحف سيف وأدهم وانلي، 8 قاعات (7 عرض دائم، وقاعة واحدة عرض متغير) وتبلغ مساحته 322 مترًا مربعًا تقريبًا، بالإضافة إلى
28 مترًا مربعًا مساحة الشرفة. وهو يقع أعلى متحف محمود سعيد (الدور الثاني).
ويوجد بالمتحف 90 لوحة، بالإضافة إلى لوحتين مستعارتين من متحف الفنون الجميلة (متحف حسين صبحي بحي محرم بك بالإسكندرية) و33 اسكتشًا. من بين هذه اللوحات 72 لوحة للفنان سيف وانلي الذي عاش بعد رحيل أخيه أدهم عشرين عامًا فكان أغزر منه إنتاجًا، بينما بلغ عدد لوحات أدهم وانلي الذي رحل عام 1959، 20 لوحة. أما عدد الميداليات التي يضمها المتحف فهي 28 ميدالية، وأربع شهادات ودرعين بالإضافة إلى مفتاح الإسكندرية.
كما سنجد بعض المتعلقات الشخصية الخاصة بسيف وانلي، مثل البايب والنظارة وماكينة الحلاقة وسكين المعجون والفُرش وباليتات الألوان والمكتبة الموسيقية.
وقبل أن نتعرف على لوحات الأخوين وانلي، نذكر أن محمد سيف الدين إسماعيل محمد وانلي ولد في الإسكندرية في 31 مارس عام 1906 لعائلة أرستقراطية من أصول تركية من جانب والده، ومن أصول قوقازية من جانب والدته عصمت هانم الداغستاني.
درس سيف في مدرسة «حسن كامل» عام 1929 والتي سُميت فيما بعد بالجمعية الأهلية للفنون الجميلة بالإسكندرية. ونال الدكتوراه الفخرية في الفنون من أكاديمية الفنون بالهرم عام 1976. وعمل أستاذًا لفن التصوير الزيتي في كلية الفنون الجميلة بالإسكندرية عند إنشائها عام 1957 ومستشارًا فنيًّا بقصور الثقافة بالإسكندرية. ونال جائزة الدولة التقديرية في الفنون عام 1973، وحصل على وسام العلوم والفنون والميدالية الذهبية عام 1974، وأهدته مدينة الإسكندرية مفتاحها عام 1959، وتزوج - متأخرًا - من الفنانة التشكيلية إحسان مختار.
كان مولعًا بفنون الأداء، ورسم مشاهد من السيرك والباليه والأوبرا والحفلات الموسيقية وقتال الثيران، كما صوَّر كل أنواع الألعاب الرياضية بما فيها سباقات الخيل. وقاده شغفه بفنون الأداء إلى ابتكار عدد من التصاميم للإنتاج المسرحي والأوبرا في مصر، كما رسم مناظر كثيرة من القرى النوبية التقليدية حيث كلفته وزارة الثقافة المصرية - مع فنانين آخرين منهم أخوه أدهم - بتوثيق الإرث المعماري النوبي قبل أن تغمرها المياه بسبب السد العالي في أسوان.
كما رسم بورتريهات لشخصيات كثيرة منها الرئيس جمال عبدالناصر والشاعر محمد إقبال والشاعر بدر شاكر السياب والشاعر جميل صدقي الزهاوي، كما رسم جنازة ملك إيطاليا غير مرة.
وقد توفي الفنان في العاصمة السويدية ستوكهولم في 15 فبراير 1979 وقت أن كان يحضِّرَ معرضًا للوحاته من المناظر الطبيعية الإسكندنافية.
أما شقيقه الفنان إبراهيم أدهم وانلي فقد ولد في الإسكندرية في 25 فبراير 1908 وكان ينتظم مع أخيه سيف في مرسم الفنان أتورينو بيكي الذي افتتحه في 9 أكتوبر عام 1930، وبعد رحيل بيكي افتتح الأخوان وانلي مرسمًا خاصًّا لتعليم الرسم في 18 يونيو عام 1935. وعمل مديرًا لمخزن الكتب بالمنطقة التعليمية بالإسكندرية، وعضوًا بهيئة التدريس بكلية الفنون الجميلة بالإسكندرية عند إنشائها عام 1957 وحتى وفاته.
اشتهر أدهم بتسجيل حياة المسرح والسيرك، وخاصة الباليه والأوبرا، فسجل في هذه اللوحات أضواء المسرح وحركات اللاعبين معبرًا عن الخفّة والرشاقة، بالإضافة إلى موهبته في رسم الكاريكاتير. وقد عرض أعماله ضمن خمسة فنانين في مصر وأوروبا عام 1949 وله مقتنيات رسمية في وزارة الثقافة ووزارة الخارجية، وله مجموعة في مدرسة باريس رولان بيتيه.
خرج أدهم إلى الشوارع والحياة العامة لتسجيل الحياة اليومية في الإسكندرية كالبحر ومراكب الصيادين والشوارع والميادين، وتوفي في 20 ديسمبر 1959.
إن شهرة الأخوين وانلي وصلت آفاق الفن التشكيلي في مصر والوطن العربي والعالم، وأصبحا من العلامات الفارقة في إبداعات مدرسة الإسكندرية في الفنون الحديثة، وأصبح متحفهما يمثل منارة للفن والإبداع تتلألأ في ساحة مركز محمود سعيد للمتاحف، وكان محمود سعيد يعتبرهما بمثابة ابنين له، وقد رسم سيف بورتريهًا لأستاذه محمود سعيد قبيل رحيلة بوقت قصير جدا عام 1964.
من اللوحات التي يضمها هذا المتحف لسيف وانلي: السيرك في الصباح، والشباك المغلق، ويا امه القمر ع الباب (وهو اسم الأغنية الشهيرة للمطربة فايزة أحمد) والعودة إلى النهر، وقراءة الصحف في النوبة، وعارية في الحديقة، والشتاء في وارسو، وسيدة في الخميلة، وزوجة الصياد، وموسيقى القِرَب، وجَدّ الفنان، وسيد درويش، وزوربا، وبحيرة في يوغسلافيا، والفنان والجيتار، والموسيقار باخ، وبيتهوفن، وموسيقى فاجنر، وموسيقى تشايكوفسكي، وعجلة رمسيس، والطفل والبحر، وجحيم دانتي، وماكينة الخياطة، وبيوت في سوريا، وضوء القمر، والفضاء، وظل امرأة في حديقة، وغيرها.
أما لوحات أدهم وانلي فمنها: سيدنا إبراهيم، والجوع، وراقصة باليه، ومصارعة الثيران، والثور في الحلبة، وسنمضي سويًّا إلى المعركة، والحصان المسحور، والسلام، والسيرك في الصباح، وغيرها.
وقد قام سيف وانلي برسم لوحات رواية «المرايا» لنجيب محفوظ عندما نُشرت مسلسلة في مجلة الإذاعة والتلفزيون عام 1971، وقد ظهرت ملوَّنة على عكس لوحات «أولاد حارتنا» التي رسمها الحسين فوزي وظهرت بالأبيض والأسود في جريدة الأهرام. يقول محفوظ عن لوحات «المرايا»: «المتأمل في لوحات سيف وانلي يرى أنه استطاع بالفعل أن يترجم ويبدع على طريقة مغايرة لجمال قطب أو الحسين فوزي، فهو مدرسة أخرى تناسب الترميز أو التشوّه الذي عليه شخصيات «المرايا»، واتضح هذا أكثر عندما صدرت الرواية في غلاف مقوى وجاكت ورقي يحمل بورتريهات وانلي بحجم طابع البريد في عام 1999 عن الجامعة الأمريكية في القاهرة، وزيتونة برس. وهنا تتعانق الكتابة مع اللوحة عناقًا حميميًّا. لقد اختار وانلي - الذي لم ألتق به (رحل عام 1979) - ألوانًا تعبر عن دواخل الشخصية بتقلبها حينًا، وتناقضها حينا آخر، وانفتاحها على التجدد أحيانًا أخرى».
ويضيف محفوظ: «لقد قرأ سيف وانلي شخصياتي ولكنه رسم كائنات تجمع بين عالم الكاتب وفضاء الرسام، وكأنه كان يستمد الإلهام من نبعين، أحدهما مزدحم جارف مثل حارة القاهرة، وثانيهما صاف وخلاب كبحر الإسكندرية في الصيف».
متحف الفن المصري الحديث
يضم متحف الفن المصري الحديث 8 قاعات للعرض، منها قاعتان مخصصتان لجيل الرواد من أمثال: محمد ناجي، وعفت ناجي، وعبدالهادي الجزار، وأحمد صبري، وأحمد عثمان، وكامل مصطفى، وراغب عياد، وحسني البناني، ومرجريت نخلة، وسعد الخادم، ونظير خليل وهبة، وإنجي أفلاطون، ورباب نمر، وجاذبية سري، وفاطمة العرارجي، وغيرهم. وبقية القاعات تحتوي على أعمال الفنانين المعاصرين من أمثال: فاروق حسني وصلاح طاهر وفؤاد تاج الدين، وحامد عويس، وحامد ندا، ونعيمة الشيشيني، ورمسيس يونان، وفؤاد كامل، وشاكر المعداوي ومريم عبدالعليم، وتحية حليم، وعدلي رزق الله، ومصطفى الرزاز، وحلمي التوني، وعصمت داوستاشي، وعبدالسلام عيد، ومحمد شاكر، وأحمد نوَّار، وسعيد العدوي، ورأفت صبري، وصبري منصور، ومحمد سالم، ومصطفى عبدالمعطي، وفاروق شحاتة، ومنير كنعان، وثروت البحر، ومصطفى عبدالوهاب، وصدقي الجباخنجي، ومحمد عبلة، وغيرهم. وتضم هذه القاعات الست 216 لوحة فنية تتنوع بين تصوير زيتي على خامات مختلفة وبين تصميم مطبوع بأنواع الطباعة المختلفة، و75 عملاً نحتيًّا لأشهر النحاتين المصريين من أمثال: أحمد عثمان، ومحمود موسى، وعبدالهادي الوشاحي، ومحمد هجرس. وبذلك يُعد متحف الفن المصري الحديث أكثر المتاحف تنوعًا وتجديدًا بين المتاحف الثلاثة.
المدينة وروح المكان
وقد احتفل قطاع الفنون التشكيلية بوزارة الثقافة بمرور 60 عاماً على رحيل الفنان محمود سعيد، بعرضٍ من وحي عالم الفنان الرائد الذي تأثر بعروس البحر وأبدع العديد من الأعمال التي وثَّقت العادات والمظاهر الشعبية والطابع المعماري وغيرها من أشكال الحياة في تلك الحقبة الزمنية التي عاشها. على حد تعبير د. وليد قانوش الذي قال عن هذا العرض: إنه يعد معرضًا مشوقًا وثريًّا يضم نخبة من الفنانين الذين شغفوا في أعمالهم بتجسيد روح المكان وفضاءاته.
وعقبت الفنانة د. نهى يوسف مدير مركز محمود سعيد للمتاحف قائلة: عندما أبدع محمود سعيد عمله الأشهر «المدينة» كان قد تجاوز به حدود المكان، فلم يكن العمل تسجيلاً لمشهد وصفي في أحد شوارع الإسكندرية، لكنه عمل يحاكي ويحكي روح المدينة، ويعبر عن قلبها النابض بالحيوية في تلك الفترة العظيمة من تاريخها العريق.
وتؤكد نهى يوسف أن الإسكندرية أثَّرت في وجدان محمود سعيد بالغ الأثر، وأسرته بجمالها الساحر آنذاك، فجاء العمل بتفاصيله وكأنه ملحمة تعبر عن شكل المدينة ومضمونها. لقد أخذ الفنان على عاتقه تمصير التصوير وإخراجه من قالبه شبه الغربي في بادئ الأمر، وكان هذا بفضل معايشته للمكان بشكل كبير.
وعلى نهج محمود سعيد نجد مجموعة من الفنانين المصريين المعاصرين من أجيال مختلفة، تعايشوا مع المكان وعاشوه وامتزجوا معه، لتصبح أعمالهم بمثابة تعبير صادق عن روح المكان الذي اتحدوا معه فأصبح جزءًا من كيانهم.
وترى الفنانة د. أمل نصر أن كل عنصر في لوحة «المدينة» يؤدي دوره بشكل مثالي يتناص أدبيًّا مع مشاهد نجيب محفوظ في روائعه: خان الخليلي وزقاق المدق والثلاثية (بين القصرين، قصر الشوق، السكرية). وهنا آخذُ الخيطَ من أمل نصر لأقول إن نجيب محفوظ اعترف بتأثير فن محمود سعيد عليه عندما قال: «إن حميدة (بطلة زقاق المدق) بملامحها ولون بشرتها وسحر عينيها تكاد تطل من لوحات محمود سعيد، تلقاها عنده بكل أوصافها».
لقد صوَّر محمود سعيد الحياة المصرية لتلك الحقبة والتي انتهت معظم معالمها الآن، فباتت أعمال الفنان في جانب منها وكأنها توثيق بصري فني لها.
وتشير أمل نصر إلى أن البحث المكاني في فضاء المدينة هو أحد الهواجس والانشغالات الفنية المهمة في تجربة محمود سعيد.
وقد شارك بعض الفنانين المصريين المعاصرين في احتفالية المكان من وحي مدينة محمود سعيد، وعرضوا أعمالهم في مركز محمود سعيد للمتاحف منهم: أحمد عبدالكريم، وإيمان عزت، وبانسيه أحمد، وبكري محمد بكري، وعبدالوهاب عبدالمحسن، ومحمد عرابي، ومرفت شاذلي هلالي، وكلهم من تلاميذ الرائد التشكيلي محمود سعيد وأحفاده ■