جبران خليل جبران بين الشرق والغرب

جبران خليل جبران بين الشرق والغرب

جبران خليل جبران (1931-1983م ) كاتب وشاعر ورسّام لبناني من روّاد عصر النهضة. سافر منذ صباه إلى أمريكا وتنقل بينها وبين فرنسا ولبنان، ولكنه ما لبث وأن استقر في أمريكا، حيث لمع نجمه فيها ونال تشجيعًا وتقديرًا لمواهبه وعطاءاته، فصار رئيسًا للرابطة القلمية في نيويورك، كما ذاع صيته على ألسنة الناس، بعد أن قرأوا له كتاب (النبي) صلى الله عليه وسلم الذي تُرجم إلى العديد من اللغات، والذي وصل إلى مستوى العالمية.  كان جبران واسع الثقافة متمردًا على العادات والتقاليد المتوارثة، وكان لديه رؤية خاصة في مفهوم تطور الأمة ومفهوم العلاقة الثقافية بين الشرق والغرب.

 

مفهوم تطور الأمة لدى جبران 
رأى جبران أن كل أمة تمر بمراحل عديدة تشبه مراحل تكوين الإنسان البيولوجية، كما اعتقد أن الكيان المعنوي للأمة «يتغير ولكنه لا ولن يضمحل... فذات الأمة تنام ولكن نوم الأزاهر بعد أن تلقي بذورها في تربة الأرض، أما عطرها فيتصاعد إلى عالم الخلود، وأن العطر في الأمة أو في الزهرة هو الحقيقة المجردة وهو الجوهر المطلق... والناس أفرادًا وجماعات ورثة كل الذوات العامة التي وجدت على سطح الأرض». إن ربط الكاتب بين الذات العامة والتاريخ يدل على إيمانه بأن أي أمة من الأمم تستطيع أن تجدد نفسها وتعمل على تطوير ذاتها؛ لأنه كان يؤمن بالتقمص وتناسخ الأرواح. والتقمص هو انبعاث وارتقاء بعد الموت. وإن أي أمة من الأمم تستطيع أن تنهض وأن تعمل على تطوير نفسها، من خلال بعث فكر جديد بين أبنائها، وهذا ما يدعو إلى عدم الاستسلام في المفهوم الجبراني وإلى خلق رؤية تفاؤلية تعمل على التجدد والتطور والانفتاح... لذلك نراه في كتاباته يخاطب الأمة العربية من خلال سورية، فيقول لها: «إن ما تدعينه انحطاطًا يا سورية أدعوه نومًا واجبًا يعقبه النشاط والعمل. فالزهرة لا تعود إلى الحياة إلا بالموت، والمحبة لا تصير عظيمة إلا بعد الفراق». إن الرؤية التفاؤلية التي بنى جبران أفكاره عليها مبنية على زرع روح الأمل في الإنسان، والتي تسعى إلى التجدد والتطـور والتقـدم والارتقـاء والعطـاء، وتطلق العنان للفكر الإنسـاني كي لا يبقى مكبلًا بالقيود والعادات والتقاليد الموروثة، فيعمل على تطوير ذاته ويستطيع المواجهة والمنافسة والتحدي وبناء ذاته المستقلة والبعيدة عن تأثير الاستعمار الغربي بها.

العلاقة الثقافية بالغرب
شعر جبران كغيره من الأدباء بتأثير الاستعمار الغربي في الشرق، وحاول إيجاد حلول للخروج من هذه المشكلة، مناديًا بالاستقلال الكامل للشرقيين، والابتعاد عن التبعية والاستعباد، والاهتمام بأصول الثقافة العربية دون فروعها، وبالثورة من أجل تحقيق السيادة والريادة في كل المجالات العلمية والعملية، لينبثق فجر جديد يرسّخ لعلاقة متكافئة بين الشرق والغرب.
إن الكاتب يريد خلق توازن استراتيجي، ويدعو إلى عدم الرضوخ للثقافة الغربية أو التماهي بها، كي لا يبقى الشرقيون تبعيين ومرتهنين لأفكارها وأهدافها، لذلك رأى أن الغرب «صديق إذا تمكنا منه وعدو إذا وهبنا له قلوبنا، صديق إذا أخذنا منه ما يوافقنا وعدو إذا وضعنا نفوسنا في الحالة التي توافقه». إن جبران يسعى إلى تنوير العقل العربي ووضع خارطة لهواجسه، ولعل أهم أهدافها عدم ذوبان الذات الشرقية بالذات الغربية، والعمل على الإفادة من علوم الغرب، والحرص على الوعي في التعامل مع الثقافة الغربية؛ لأن لها أهدافًا قومية استعمارية قد لا تصب في مصلحة العرب والوحدة العربية. ولهذا رأى أن العلوم الآتية من الغرب لها تأثيرات إيجابية وسلبية، فالإيجابية أن الغرب «أيقظ جميع مداركنا ونبّه عقولنا قليلاً»، والسلبية أنه «أماتنا لأنه فرّق كلمتنا وأضعف وحدتنا وقطع روابطنا وأبعد ما بين طوائفنا حتى أصبحت بلادنا مجموعة مستعمرات صغيرة مختلفة الأذواق متضاربة المشارب، كل مستعمرة منها تشد في حبل إحدى الأمم الغربية وترفع لواءها وتترنم بمحاسنها وأمجادها». إنه وضع يده على الجرح، وكشف حقيقة الغرب الاستعمارية التي عملت على تطبيق سياسة فرّق تسد، تلك السياسة التي وجدت أرضًا خصبة في بلاد مهبط الرسالات السماوية، فاستغلتها من أجل إيقاظ النعرات الطائفية والمذهبية والعمل على تفعيل الأحقاد والفتن بين الناس، فنجحت في هدفها وصار هذا الهدف من أسلحتها التي تستعملها ضد الشرق بين الفينة والأخرى، والتي شتّت بين الطوائف والمذاهب وجعلت الشرقيين خاضعين لهيمنة الغرب السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية التي فرضتها عليهم، والتي خلّفت في الوقت نفسه جـوًا من القلق والتوتر والتـرهل والتخلّف والانحطــاط، عاشه الشرقيون ودفعوا ثمنه حتى يومنا هذا. 
ولقد أدرك جبران خطر دخول الثقافة الأجنبية الشرق متذرّعة بالترويج للمدارس الأجنبية والجمعيات الخيرية والبعثات الدينية، فشعر بالخوف على مستقبل اللغة العربية التي تعمل على شدّ أواصر أبناء الأمة وتصوّب أهدافهم، بعيدًا عمّا ستؤول إليه نتائج الثقافة الأجنبية التي عملت على بث روح الفكر الغربي الحداثي وزرع بذور الأحقاد بين الأديان التي أوصلت الناس إلى التلهّي بتوافه الأمور وتفرقتهم وعدم إجماعهم على النهوض بالفكر الذي يناسب المرحلة، فجعلتهم  في موقع التبعي والمستهلك، ومرتهنين للتسلط الغربي فكريًا واقتصاديًا وسياسيًا... ولذلك رأى أن الإبداع الفكري مرتبط باللغة العربية، وأن مستقبل «اللغة العربية يتوقف على مستقبل الفكر المبدع الكائن - أو غير الكائن - في مجموع الأمم التي تتكلم اللغة العربية»، والحقّ أن اللغة على العموم هي وعاء للفكر والثقافة، وهي التي تحرس الذاكرة والتاريخ، فتكون أداة للتواصل بين الأفراد، وتعزز احترام الشعوب لذاتها وثقافتها وموروثها الفكري، هذا بالإضافة إلى أنها تساعد الإنسان أن يتكيّف مع اللغات الأخرى، كما تساعده على اكتساب ثقافات عديدة؛ ولذلك فإن اتقان اللغة الأم هو المفتاح الأساسي للمرء كي يتعرف إلى لغات العالم وحضارات، وبما أن أي لغة من اللغات تفرض نفسها بنمو حضارتها الفكرية والثقافية، وبما أن حضارة العرب تعيش منذ عصر الانحطاط في سبات عميق، فاللغة العربية تأثرت بواقع الإحباط السائد؛ لأن العربي لم يستطع بعد أن يفرض نفسه على الساحة العالمية، وأن يصنع المصنوعات التي تجعله يكتفي بنفسه ويستغني عن استيرادها واستهلاكها، ولعل هذا ما جعله يرضخ لترويج تسميتها وتداولها بلغتها الأجنبية التي ألزمته عدم تسميتها بلغته العربية، لأنه ليس بصانعها! فازداد إحباطًا، واستسلم وفتح ذراعيه لاستقبال المصنوعات التي صنعها الغربيون وفرضوا اسمها على الشرق العربي، حتى صارت جزءًا من حضارة العرب وثقافتهم، وجعلتهم في موقع المتخلفين والعاجزين والمدهوشين أمام هول هذه التحديات التي فرضت عليهم البحث عن الفكر العربي المبدع الذي يأملون من خلاله تحقيق المواجهة والتحدي والمنافسة. 
وهنا، يطرح السؤال نفسه: هل استطاع الفكر العربي الشرقي الوقوف أو التصدّي أو كشف أهداف الغرب ببساطة؟ وهل الغرب الذي سبق وأن تطور أشواطًا في المجالات الفكرية والصناعية والفلسفية يريد أن يستغل ضعف وجهل الشرقيين فأبهرهم بابتكاراته وإنجازاته العلمية وحاول استمالتهم إليه؟ وهل كان من أهدافه إيجاد سوق استهلاكية لترويج وبيع بضاعته في الشرق؟ وهل تستطيع اللغة العربية في ظل هذه الأجواء أن تواكب التطور الفكري العالمي الغربي؟ في الواقع سلط جبران الأضواء على الاستعمار الفكري الذي اعتمده الغربيون مستغلين عواطف الطوائف ومحاولين السيطرة على قلوب وعقول الشرقيين بالتسويق للغتهم الأجنبية وما أفرزته من إبداع حضاري وثقافي... وهذا ما فتح لهم بابًا واسعًا لتحقيق أهدافهم التي جذبت الكثيرين من الشرقيين في بداياتها، وذلك من أجل تثبيت موطئ قدم لهم يستطيعون من خلاله التحكم والسيطرة على خيرات الشرقيين. 
ولذلك ارتأى الكاتب أن النهوض باللغة العربية والخروج من واقع الإحباط والتخـلف الذي يعيشه الشــــرقيون يحتاج إلى أن «نستبدل خبز الصدقة بخبز معجون في بيتنا». ولعل هــذا ما يحتاج إلى فكــر شــرقي عربي مبدع،  ولكن هل يســـمح الغربيون بأن يولد الفكر المبدع في الشرق؟ وهل طبيعة الشرقيين المتمسكين بالعادات والتقاليد الموروثة تسمح لهم بالتمرّد وكسر حواجز الخوف من الأحكام الدينية والاجتماعية المفروضة عليهم منذ مئات القرون فيتماهون مع الأفكار الفلسفية الغربية الجديدة؟  
أخيرًا، يمكن القول إن أفكار جبران من مسألة العلاقة بين الشرق والغرب كانت إنسانية على العموم وبعيدة عن التشنجات والتوترات العصبية والطائفية، وتدعو إلى تطور الأمم وارتقائها والسمو بالحياة الإنسانية والنهوض من أجل مواجهة الظلم والاستبداد، وتحقيق الصمود وإثبات الذات الشرقية والسير في ركب التطور العلمي الذي يخدم البشرية، ويجعل الشرق العربي مصدرًا مهمًا للفكر الإنساني المبدع، الذي يخلق علاقة متكافئة مع الغرب ويعزز مبادئ العدل والمساواة والديمقراطية بين الناس. ولكن، يبقى السؤال يطرح نفسه: هل استطاع الفكر العربي منذ عصر الكاتب وحتى عصرنا هذا وفي ظل هذا التطور العلمي التكنولوجي الغربي السريع أن ينهض ويحقق المواجهة والمنافسة والتحدي؟ إن الاستقلال السياسي العربي المرتبط بالاستقلال الحضاري والثقافي والصناعي والتجاري لم يولد بعد، ولذلك يبقى الأمل معقودًا على تحقيق وحدة العرب في المستقبل القريب، والتي تكون النافذة الوحيدة التي يشرق من خلالها قبس الأمل بنهوض جديد لفكر عربي يعيد للعرب أمجادهم كما كانوا من قبل ■