التبريزي... صيَّاد الأحلام
الحُلْم ماء الحياة، وسر تجاوز ملل الدنيا، فبالحُلْم تعيش في خيالك حياة أفضل، وتحصل داخل حُلْمك على ما تتمناه وما تبتغيه، الحُلْم يخرجك من الواقع الأليم ويضعك داخل زورق نجاة من صنع خيالك، والذي يحلم يعيش مسرورًا في انتظار تحقيق الحُلْم، يعيش بأمل حي داخل عروقه، والذي لا يحلم يموت في الواقع، الحُلْم يرطب روح الأمل، ويدفع القلب للنبض من أجل أشياء ستتحقَّق في نهاية الطريق، في الحُلْم يمكنك أن تحصل على كل ما تتمناه، المال والجاه والعيش الهانئ، وبدون الحُلْم يصيبك الواقع بالركود والحسرة والرغبة في الخلاص.
عند مطالعتنا لمسرحية «علي جناح التبريزي وتابعه قُفَّه» لألفريد فرج، نجد الحُلْم عمادها، والرغبة في اصطياد الأحلام قابعة في أعماق شخصيتها الرئيسية علي جناح التبريزي، وأول ما يطالعنا في المسرحية اختيار المكان والزمان، فاختيار مكان المسرحية ألف ليلة يأتي متلاحمًا تمامًا مع الشغف بالحُلْم، والرغبة في الحياة داخله، فالمسرحية تبحث عن الحُلم والخيال، وبالتالي ليس لها زمان، فاختار الكاتب زمانها ذات ليلة، وبالتأكيد يعني ليلة من ألف ليلة وليلة التي تعيش فيها المسرحية.
رؤية الحُلْم
المفتتح في المسرحية منظر بستان، يُحيط قصرًا منيفًا وأشجارًا باسقة، والبستان بداية الحُلم ومطمح الروح لأن تهفو لنسمة طرية ولرائحة ورد، البستان مكان لاستراحة القلب من تعب الحياة، وهو منتهى الطلب للنفوس المتعبة، وكان هذا موفقًا كمنظر لمسرحية تضرب على الأحلام.
مع بداية الحوار تبدو شخصية علي جناح التبريزي متفائلة تنظر للأمام، يرى الحُلْم ويشاهد الأمل في عيون الآخرين، وكما يقول المؤلف: «شخصية التبريزي نُسجَتْ على هذا النحو: مغامر، صعلوك، مترف، ذكي، جسور، مرح، متلاف، حاذق، ممثل، خيالي، شارد، محب، عادل» فحين قال له الخادم صواب: «لم يبق لك في هذا القصر إلا ساعة زمن ويأتي مالكه الجديد ليتسلَّمه» قال التبريزي ناظراً للأمر نظرة مغايرة، مكررًا الجملة بشكل مختلف: «الصحيح بقيتْ لي في القصر ساعة زمن». ص19.
يرى التبريزي الأمور بطريقة مختلفة بها كثير من حب الحياة، قال: «قصدتُ أن أبيِّن لك سروري من أنه بقيت لي ساعة وأنا سيد هذا القصر» ص20، فالتبريزي يرى نصف الكوب الممتلئ، ولا يشعر باليأس، على الرغم من أنه سيترك قصره وحياته المريحة، لكنه مُصرّ على الاستمتاع بساعة واحدة بقيت له كسيد لهذا القصر، ويردف لخادمه صواب: «لا خيال عندك يا صواب، ليس عندك أحلام» ص20، وهنا تنكشف لنا قوة التبريزي، إنها الأحلام التي يراها حقيقة ولا يراها غيره، بل إنه يرى أن من لا يرى الحُلم يرى الأشياء على غير حقيقتها، فبدون الحُلم ورؤية الحُلْم لا يكون الأمر مستقيمًا عند التبريزي، قائلًا: «عيبك يا صواب أنك دائمًا ترى الأشياء على وجهها المعكوس» ص20. التبريزي يرى أن الحُلم عكس الواقع، وأن الحُلم هو الواقع الذي ينبغي أن نعيشه.
الحُلْم كأنه واقع
حين يخبر الخادم التبريزي أنهم باعوا كل شيء في القصر المواقد، والأواني، الملاعق، والأطباق، والأكواب، يحدّث التبريزي نفسه بأن الخادم عاودته الحالة، وكأن ذكر الخادم لواقع الأمر حالة مرضيَّة، وكأن خروج الخادم صواب عن الحُلم حالة مستعصية، لكن الخادم يمتثل لأمر التبريزي ويعيش حالة الحُلم، حين يطلب التبريزي الطعام، يهرع صواب ويخرج، ثم يعود كأنه يحمل صواني الطعام، مع أنه يحمل الفراغ، يحضر الخادم الحُلم الطعام الخيال، والتبريزي يتلذَّذ بطعم حُلم الطعام، وينكر على خادمه صواب وضعه في الواقع المحروم، يأكل الحُلم والخيال بلذة، والخادم يهرب من منظر سيّده خوفًا على عقله من هذا الذي يتلذَّذ بأكل الحُلْم.
يدخل قُفَّه في وقت حاسم من حوار المسرحية بين التبريزي وخادمه صواب، كانا في حوار بين الحُلم والواقع، التبريزي يعيش الحُلم، والخادم ينفذ له الحُلم كأنه واقع، فظن قُفَّه أن ما يحدث واقع لا محالة، ويكون قُفَّه جائعًا، والتبريزي والخادم يتحدثان عن الطعام، هذا الجوع والحوار الذي سمعه قُفَّه جعله مهيَّأ تمامًا للوقوع في الحُلْم الذي نسجه التبريزي، ويطلق التبريزي جملة اصطياد حُلْم قُفَّه الجائع وقد لمحه من بعيد، يقول لخادمه صواب «اذهب لشغلك إذاً، عسى أن يأتينا ضيف لنكرمه» ص24، وعلى الفور يقع قُفَّه الجائع في فخ حُلْم التبريزي المليء بالطعام الشهي، طعام أمير في قصر منيف تحيطه الأشجار.
حين يشرح قُفَّه للتبريزي حاله «أنا يا سيدي قُفَّه، اسمي قُفَّه، وصناعتي إسكافي، دائخ في الشوارع، أبيع النعال ولا أحد يشتري مني، حتى بهرت الشمس عيني، وأخشى أن أكون عميت من الضعف والجوع» ص25. يكشف قُفَّه استعداده النفسي الواضح للوقوع في حُلْم التبريزي فيصطاده التبريزي على الفور من حُلْم الشبع الذي نبت في بطنه، يبدأ التبريزي في الضرب بقوة على تأكيد حُلْم الشبع لدى قُفَّه فيقول له التبريزي: «لا تحمل همّاً بعد اليوم، كن أخي وصاحبي وسترى الخير في حياتك» ص27.
يدخل قُفَّه واقعه الأليم حين لا يرى الطعام، ويرى الفراغ الذي يُحضره الخادم، لكن الأمل في تحقيق الحُلْم يجعله يستمر في مجاراة التبريزي: «(جانبًا) إن كان مجنونًا وخالفته فربما يحصل لي منه ضرر، أجاريه لعل بعد ذلك يأتي الطعام» ص28. ويبدو أن قُفَّه على حافة الوقوع في الحُلْم وتصديق التبريزي، حتى إنه يأخذ الفراغ من يد التبريزي وهو يقول: «أحلف لك يا سيدي عمري ما رأيت أحسن من بياض هذا الخبز (كأنه يقطع ويأكل) ولا ألذ من طعمه» ص29.
طعام الحُلْم
وقع قُفَّه في الحُلْم بإرادته وهو يدرك تمامًا أن ما يحدث حُلمًا وليس حقيقة، لكنه أراد أن يعيش الحُلْم حتى لو كان خيالًا واضحًا، ويبدأ قُفَّه في التعمُّق في الحُلْم والاندماج ويستمتع ويعيش الحُلْم، لكن الواقع كان يغزو قلب قُفَّه في لحظات، ويعلن عن حيرته وأنه متعلِّق بما يحُلم به التبريزي، يقول قُفَّه: «أسال لعابي وأوجع معدتي لعنة الله عليه، غير أني أتعلَّق بالأمل» ص30. والتبريزي يزيد من الإيغال في الحُلم، ويدفع قُفَّه نحو الأمل: «كُل هذه القطايف (يقدم له قطيفة) بحياتي خذ هذه القطيفة قبل أن ينسكب منها العسل» ص30. وينغمس قُفَّه في الحُلْم: «(كأنه يتناول بفمه، يمضغ بتلذذ) ما أكثر المسك الذي في القطيفة، وكيف بالله تطبخونها بكل هذا المسك» ص31.
من كثرة اندماج قُفَّه في الحُلم يصفع التبريزي بعد أن شرب الخمر الفراغ، ثم يعتذر: «سكران والله يا صاحبي ما أدري ما أقول ولا ما أفعل، سكران طينة» ص33.
المشهد بين قُفَّه والتبريزي مشهد بارع في العلاقة بين الحُلْم والواقع، بين الخيال والحقيقة، وكيف أن الحُلْم قوي حتى إنه يتحول إلى حقيقة واقعة، ويصبح الحُلم واقعًا حتى أن التبريزي يجلد قُفَّه بالفراغ، وقُفَّه يتأوه من الألم.
رحلة البحث عن حُلْم
حين يدخل مالك القصر نرتدّ للواقع مرة أخرى، بجفافه وقسوته، لقد انتقلنا من الواقع للحُلم في بداية المسرحية، ثم عدنا للواقع مرة أخرى، يحاول التبريزي إزاحة الواقع والدخول للحُلم بقوة وإصرار، فهو يترك الواقع المتمثل في القصر الذي يطلبه المالك الجديد، يترك له القصر بكل يُسْر، ويدخل خياله مرة أخرى حين يخبر المالك أنه مسافر هو وتابعه كافور إلى جبل قاف.
نقلة مستقبلية للحُلْم من قلب الواقع، قفزة من واقع الدين والعوز والحاجة لحُلْم جبل قاف الذي لا يوجد إلا في الحكايات، وحين غيَّر التبريزي اسم الاسكافي قُفَّه ودعاه كافور، الاسم المستخرج من ألف ليلة، فتح باب الحلم على مصراعيه للوصول لجبل قاف، وهنا قبل أن نبدأ الرحلة الحُلْمية بين قُفَّه والتبريزي يكشف قفة عن حقيقة علاقته بالتبريزي يقول «رميت الشبكة طلع فيها صعلوك أمير، وإلا هو رمى شبكته طلع فيها صعلوك فقير إلا أنني أحببته، كأني كنت أبحث عنه طول عمري، سحرني بمجونه وغرابته، بجنونه وعقله، إنه مثلي، كما لو كنت أنا» ص37. لقد وقع قُفَّه في الحُلْم لأنه التقى بصنوه، ووقع على ما يشبه روحه، وهذا سيتضح في صلب المسرحية حين تستمر العلاقة بين التبريزي وقُفَّه، وقبل أن يتركا بغداد يسأل التبريزي «ألك أمل في أزقتها؟» فيجيب قفة: «أملي في يدي» ص38. وتبدأ رحلة الخيال والبحث عن الحُلْم.
رحلة داخل أحلام الناس
تنقسم المسرحية لفصول يحمل كل فصل عنوانًا متوافقًا مع الحالة التي تسير بها المسرحية، كل عنوان يحمل حالة الفصل الذي داخله، وكأنها فصول روائية بعلامات استرشاديه ضرورية، تضيء مداخل الفصول، وهذا التقسيم أقرب لحكايات ألف ليلة وليلة.
مع الفصل الثاني (سوق المدينة) ندخل للواقع مرة أخرى، والمشاهد يريد أن يستكشف كيف سيتعامل التبريزي مع حُلْمه في السوق، والسوق هو المعبِّر الحقيقي عن الواقع بكل مادياته ومتطلباته الحياتية الآنية، ويكشف التبريزي ما دفع قُفَّه لهذه الرحلة: «أملك مشَّاك لحدود الصين» ص42، ونعرف أن شخصية قُفَّه ذات قناعة عالية بالخيال والإيهام، والرغبة في دخول الحُلْم، حتى إنه كان يعمل في الطب كأحد الحواة، ويعرف أن كلمات الايهام تُقنع الآخرين بقوة الداء، يقول قُفَّه: «لا أفاعي ولا شيء، السلال فيها خرق وحجر، ولكن الإيهام بوجودها يساعد على إشاعة الرهبة والثقة في الدواء» ص46.
حين يكتشف التبريزي الواقع المر في سوق المدينة وأن أهلها فقراء في حاجة للمال يصرخ قفة: «راحت السَّكْرة وجاءت الفكرة» لكن التبريزي يدخل الحُلْم مرة أخرى ويجذب معه قُفَّه، يقول التبريزي: «أنا علي جناح التبريزي أَغْنَى أغنياء بغداد والأرض الممتدة من الصين حتى الأندلس، وأنت تابعي وخادمي كافور» ص48.
وحُلْم فقراء المدينة الغِنَى، ولقاء رجل غَنِي، وتبدأ رحلة حُلْم جديدة داخل المدينة، ويخبر التبريزي قُفَّه بأن السبيل الوحيد لإقناع الآخرين بأن التبريزي من كبار الأغنياء أن يطلق قُفَّه لنفسه عنان الخيال ويعيش حُلْم الغنى: «أطلق لخيالك العنان؛ تجدني عند آخر حد يبلغه تصورك، واعلم أن أحلام الناس ستساعدك، وهي أقوى أجنحة من أحلامك مهما فعلت» ص51. وتبدأ رحلة جديدة داخل أحلام الناس وآمالهم.
نكتشف في رحلة حُلْم المدينة أن المدينة مليئة بالجشع، وأن التاجر يريد تعطيل الشهبندر عن فتح دكانه، ويدفع من أجل ذلك نقودًا، والشهبندر يعطي شحاذًا آخر نقودًا؛ كي يضايق التاجر، وبذلك تكشف المدينة نفسها عن فقر متأصِّل وجشع أغنياء واضح.
يدلف التبريزي من مدخل الجشع لحُلم المدينة، ومن بوابة الفقر يَعْبُر التبريزي لحُلم الفقراء، فيتعامل مع الأموال باستهتار، حتى يعجب به التجَّار، ويثقون في غناه، وتدخل الأميرة بعد أن سيطر التبريزي على أحلام الفقراء والتجار ببعثرة أموال حصل عليها من قُفَّه، ثم يدخل حُلم الأميرة حين يرفع من قدر أنوثتها ويمزِّق القماش الغالي بحجة أنه رخيص وأن الأميرة تستحق الحرير الطبيعى، وما يزال قُفَّه مندمجًا يدعوه وسط الجميع بأنه أغنى الأغنياء، وسيكون لدخوله حُلْم الأميرة مردود مهم حين تُقْنع والدها الملك بأن التبريزي غني وليس كاذبًا، ونرى قُفَّه قد عاش الحُلْم وأدخل الناس معه بإيحاء من التبريزي، ويدخل التجَّار الحُلْم حين يعلمون أن نقود التبريزي قد نفدت وأن له قافلة محمَّلة بالخيرات، وهي قادمة في الطريق، ويستقر حُلْم التبريزي في عمق المدينة، لقد اصطاد حُلْم المدينة بفقرائها وتجارها الأغنياء.
الحُلْم لا يموت
في الفصل الثالث نذهب لقاعة الملك، حيث يشكو التاجر والشهبندر ما فعله التبريزي، لأنهم منحوه أموالهم من تأثير سحره، ولم يستردوا منه أي شيء، فيقول الملك «لا تقلقا، أنا سأمتحنه لكما، وأعرف هل هو نصَّاب أم صادق؟ وهل هو تربية نعمة أم لا؟» ص74. وهنا يأتي دور الأميرة فتحكى عن صدق التبريزي وما فعله في السوق، ويختبره الملك عن طريق الجوهرة، يريد أن يعرف ثمنها، وتأتي مفاجأة التبريزي أنه يحطِّم جوهرة الملك وجواهر الوزير والشهبندر والتاجر، ويقول إنها حجارة، ويدخل التبريزي حُلْم الملك من بوابة الطمع في الحصول على جواهر غالية وثمينة، ويقع الملك فريسة حُلْمه، ويصطاد التبريزي حُلْم الملك، ويحصل على الأموال الموجودة في خزانة الملك، ويبعثرها على الفقراء، وزوَّجه الملك من ابنته الأميرة؛ كي يحصل على كل الجواهر في القافلة.
يعيش الملك والمدينة في انتظار حُلم القافلة التي ستعوضهم عن الأموال التي أخذها التبريزي، وفي لحظة سُكْر قُفَّه يكشف الحقيقة، ويتم القبض على التبريزي، يقول قُفَّه متذكرًا ما حدث في بداية علاقته بالتبريزي «حُلْم مخيف، وأنا تبعته كالنائم من بغداد للصين! أين شطار وفتيان العراق ومهرة العجم، إذا كان قد نوم الملك نفسه، والوزير والشهبندر، ألا ينوِّم قُفَّه» ص131.
ولكن الأمل في تحقيق الحُلْم لم يمت في نفوس التجار، يقول الشهبندر: «أترى أن الأحسن لنا أن نقطع خيط أملنا الضعيف في استرداد نقودنا بقتل هذا الرجل، سيضيع أملي بعد أن ضاعت نقودي» ص141.
بعد أن أفاق قُفَّه من سكره، لبس عباءة والتحى بلحية ووضع على رأسه عمامة كبيرة جدًا، وأعلن أنه أتي ليبشِّر بقدوم قافلة التبريزي، لقد أراد أن ينقذ قُفَّه صاحبه التبريزي، ولم يجد وسيلة للإنقاذ سوى أن يزرع الحُلْم في المدينة مرة أخرى، فالحُلْم لا يموت، والناس لا ترغب أن تنتهي الأحلام، وتنتهي المسرحية بمشهد ثابت لرحيل التبريزي والأميرة وقُفَّه؛ لإحضار القافلة الحُلْم، والجميع في انتظار قدوم الحُلْم وكلهم أمل أن يتحقَّق حُلمهم ■