التلوث الضوئي المخاطر والأضرار

لم تدخل الكهرباء حياة البشر إلا منذ أواخر القرن التاسع عشر، ولم تتح على نطاق واسع في الدول الصناعية إلا منذ القرن العشرين، وقد أدى ظهور الكهرباء واستخدامها في الإنارة إلى إحداث تغيرات كبرى في حياة البشر، إلا أن الإفراط فى استخدام الضوء الاصطناعي وخصوصًا في أوقات الليل أدى إلى بعض التغيرات البيئية والآثار التي انشغل علماء البيئة والباحثون بها بدراستها، وعلى المستوى الأحيائي الجغرافي تعتبر هذه الظاهرة حديثةً جدًا، ولهذا السبب - ونظرًا لتأخر الوعي بهذا المشكل ونقص الميزانيات المستثمرة في هذا المجال - يبقى هذا الخطر بعيدًا عن السيطرة، كما أن آثاره لم تدرسْ بتوسع، إذ لم تشملِ البحوث إلا بعض الأنواع خاصة الطيور.
وكأيّ شكلٍ آخرَ من أشكالِ التلوث فإن التلوث الضوئي يعطل النظم البيئية وله آثارٌ صحية ضارة، ومن هنا بدأ يظهر فى الأبحاث والدراسات ما أطلق عليه «التلوث الضوئي». فما هو التلوث الضوئي؟ وما أبرز مظاهره وأشكاله؟ وما الآثار المترتبة عليه؟ وكيف يمكن مواجهة تلك الظاهرة؟ وهذا ما سيناقشه هذا المقال عبر السطور الآتية.
ما التلوث الضوئي؟
يقصد بالتلوث الضوئي الآثار المترتبة عن الإضاءة الاصطناعية غير الطبيعيّةِ ليلًا وأثرها على الحيوانات، والحشرات، والنباتات، والفطريات، والأنظمة البيئية، وعلي صحة الإنسان. والتي تؤثر سلبًا على قدرة الكائنات الحية والعينين تحديدًا على الاسترخاء والهدوء بسبب تلوث سماء الليل بالضوء، وتؤثر على الرصد الفلكي أيضًا، وتغير من الروتين البيئي للحيوانات، والحشرات، والفطريات.
ويعد مفهوم التلوث الضوئي حديث جدًا، إذ إنه ظهر في الثمانينيات من القرن العشرين، وشهد تطورات منذ ذلك الحين؛ فقد ظهر هذا المفهوم إثر اجتهادات علماء الفلك الأمريكيين الشماليين ثم الأوروبيين والمنظمات التي تمثلهم (مثل الجمعية الفرنسية للفلك بفرنسا ودارسكي في شمال أمريكا)، ثم نشطاء آخرين، قلقين على التدهور السريع للبيئة الليلية مثل علماء البيئة، والمخططين، وتقنيي الطاقة، والأطباء، والجامعيين، والإناريين والوكالات المهتمة بالتنمية المستدامة الذين عملوا على هذا المجال الجديد.
وقد أبرزت دورية «ساينس أدفانسيس» في الأيام القليلة الماضية صدور الأطلس الشامل الجديد الذي يكشف عن تأثير الأضواء الاصطناعية في السماء ليلًا في العالم، والذي أعدته مجموعة من العلماء البارزين بقيادة فابيو فالتشي، الإيطالي الجنسية. ويعد هذا العمل إنجازًا في مجال التلوث الضوئي فقد أشار إلى أن البلد الذي سُجلت فيه أعلى نسبة تلوث ضوئي هي سنغافورة، حيث يعيش سكانها تحت سماء ساطعة للغاية مساءً إلى درجة أن أعينهم لم تعد تستطيع التأقلم كليًا مع الرؤية الليلة عندما يحلّ الظلام».
وأشار باحثون أن بيانات الأقمار الصناعية أظهرت أن درجة سطوع الأضواء الاصطناعية في المناطق المكشوفة والمساحة التي تغطيها هذه الأضواء ليلاً، زادت بنحو اثنين في المئة سنويًا من 2012م حتى 2016م، لتؤكد بذلك المخاوف من الآثار البيئية للتلوث الضوئي على الإنسان والحيوان على حد سواء.
وأوضح الباحثون أن وتيرة الزيادة في البلدان النامية أسرع بكثير منها في الدول الغنية، التي تنتشر فيها الأضواء الساطعة ليلًا وفق دراسة نشرتها دورية (ساينس أدفانسيس/التقدم العلمي) في نوفمبر2017م.
أنواع التلوث الضوئي
تشمل أنواع التلوث الضوئي كلًا من:
1- التوهج أو تأثير سماء المدينة
وهي ظاهرة تحدث نتيجة للإضاءة المنعكسة عن السطوح المختلفة في داخل المدينة المضاءة بالإضافة للإضاءة ذات الزاوية الكبيرة لحد يجعل أشعتها تتجه للأعلى، كل هذا الضوء يتناثر بواسطة الغلاف الجوي ليشكل هالة كبيرة حول المدينة تصل لأميالٍ، ويشكل هذا النوع من الإضاءة مشكلة ليس فقط للسكان الهاوين مراقبة النجوم، بل أيضًا لعلماء الفلك ومراقبي الأجرام السماوية.
2- التعدي
والذي يجعل الضوء شيئًا متطفلًا حين يصل لحدود خاصة بالغير، كإنارة الشوارع وإنارة الحراسة حين تصل لنوافذ المنازل أو داخل البيوت لتخترق خصوصيتها وتؤذي قاطنيها، وقد بدأت العديد من الدول في سن التشريعات و القوانين للحد من هذه الظاهرة، بما ينظم استخدام الضوء والدرجات المسموح بها لشدة الإضاءة، وأنواع المصابيح المستخدمة.
3- الإبهار
ويعني زيادة شدة الإضاءة لحد مزعج للأعين، كأن تكون إنارة السيارات أو إنارة الطريق عالية لدرجة تؤذي أعين الآخرين وقد تسبب خطورة وخصوصًا عند كبار السن.
4- الفوضى
وهنا يتركز الحديث عن الجانب الجمالي، ففي الوقت الذي توضع فيه قطع الإضاءة بشكل عشوائي غير مدروس تظهـــر تركيبة مزعجة من الأشعة الضوئية المتداخلة وغير المتناسقة، وغالبًا ما يرى هذا النـــوع من التلوث الضوئي فـــي الأســـواق، إذ يحاول كل متجر لفت الانتباه إليه والتفــوق على منافسيــــه بزيادة كمية الإضاءة على واجهاته.
الآثار المترتبة على التلوث الضوئي
يشكل «التلوث الضوئي» تهديدًا خطيرًا - على وجه الخصوص - للحياة البرية الليلية، وله آثار سلبية على فيزيولوجيا النبات والحيوان، فهو يمكن أن يشوش تنقل الحيوانات، ويغير التفاعلات التنافسية، ويغير علاقات «المفترس- الفريسة»، ويسبب ضررًا فيزيولوجيًا على تنظيم إيقاع الحياةِ من خلال الأنماطِ اليوميةِ الطبيعيةِ للضوء والعتمة، لذلك فإن اضطراب هذه الأنماطِ اليومية يؤثر على الديناميات البيئية.
فيمكن أن تؤدي الأضواء على الهياكل العالية إلى إرباك اتجاهات الطيور المهاجرة. تقديرات «خدمة الأسماك والحياة البرية الأمريكية» لعدد الطيور النافقة بعد انجذابها إلى الأبراج الشاهقة تتراوح ما بين أربعة إلى خمسة ملايين في السنة إلى ترتيبٍ أكبر من حيث الحجم.وبحسب إحصاءات جمعية شيكاغو للطيور فإن نحو 100 مليون إلى 1 مليار من الطيور يموت كل سنة بسبب الاصطدام بالأبنيةِ الشامخة.
ويؤكد فرانس هولكر، من معهد «لايبنيتس» لإيكولوجيا المياه العذبة ومصايد الأسماك الداخلية إن هناك عواقب بيئية للتلوث الضوئي، حيث تشتت الأضواء الاصطناعية الطبيعية المتوفرة في الليلية. وأضاف أن زيادة الوهج في السماء قد يؤثر في نوم الإنسان، إضافة لما يسببه الضوء الاصطناعي من تهديد لثلاثين بالمئة من الفقاريات الليلية وأكثر من 60 بالمئة من اللافقاريات، فإنه يؤثر أيضًا في النباتات الدقيقة... ويهدد التنوع الحيوي بتغيير العادات الليلية مثل التكاثر أو أنماط الهجرة لكثير من الكائنات المختلفة». (دويتش فيللا، 2017م).
كما قد تشوش الأضواء صغار الطيور البحرية عندما تغادر أعشاشها وتطير في البحر، تتأثر البرمائيات والزواحف أيضًا بـ «التلوث الضوئي». يمكن أن تؤدي مصادر الضوء المقدمة خلال الأوقات المظلمة -عادةً- إلى تعطيل مستويات إنتاج «الميلاتونين». إن «الميلاتونين» هرمون ينظم الفيزيولوجيا والسلوك الدوري الضوئي. تستخدم بعض أنواع الضفادع والسمندل «بوصلة» تعتمد على الضوء لتوجيه سلوك هجرتها إلى مواقع التكاثر. يمكن أن يتسبب الضوء المقدم كذلك في حدوث اضطراباتٍ في النمو، مثل تلف الشبكية، وانخفاض نمو الأحداث، والتحول المبكر، وانخفاض إنتاج الحيوانات المنوية، والطفرة الجينية.
كما أن للتلوث الضوئي آثارًا سلبية على صحة الإنسان، إذ يؤكد (2009م) البروفيسور «ستيفن لوكلي» من كلية الطب بجامعة هارڤارد في كتاب CfDS «أعمى بالضوء؟» أنه من المحتمل أن يكون للضوء - حتى لو كان خافتًا - آثارٌ قابلة للقياس على اضطراب النوم وقمع الميلاتونين حتى لو كانت هذه التأثيرات صغيرة نسبيًا من الليل إلى الليل، فقد ينطوي على استمرارها على الساعة البيولوجية المزمنة اضطرابات النوم وما يؤدي إليه من مخاطر صحية على المدى الطويل». كما أشارت أكاديمية نيويورك للعلوم اجتماعًا في عام 2009م حول الاضطرابات اليومية والسرطان إلى أن الضوء الأحمر تقليل إفراز هرمون الميلاتونين على أقل تقدير.
وتشير دراسة حديثة عام 2021 نُشرت في مجلة «Southern Economic Journal» إلى أن «التلوث الضوئي» قبل 23 أسبوعًا من الحمل قد يزيد بنسبة 13 بالمئة الولادات المبكرة.
وقد أثيرت شكوك مؤخرًا حول العلاقة بين اضطرابات الساعة البيولوجية وبعض الأمراض الخطيرة مثل الأرق والسمنة ومرض السكر وبعض الأنواع من الأورام السرطانية والاضطرابات المزاجية. وتعد الإضاءة الكهربائية في الأوقات غير الملائمة، ولا سيما في المساء، أقوى المؤثرات البيئية التي قد يؤدي التعرض لها إلى اضطراب الساعة البيولوجية للإنسان.
مواجهة التلوث الضوئي
إن أفضل طريقة للحد من «التلوث الضوئي» تعتمد على ماهية المشكلة بالضبط وفي أي حالة معينة، وتشمل الحلول الممكنة ما يلي:
• إن أول الحلول المطروحة دومًا هو إنارة ما يحتاج إليه الشخص فقط داخل المنزل وخارجه من أماكن ومساحات، فلا ضرورة لجعل الليل نهارًا آخر.
• استخدام مصادر الضوء ذات الحد الأدنى من الشدة اللازمة لتحقيق الغرض من الضوء.
• إطفاء الأنوار باستخدام مؤقت أو مستشعر إشغال أو يدويًا عند عدم الحاجة.
• تحسين تركيبات الإضاءة، بحيث يوجه الضوء بشكل أكثر دقة نحو المكان المطلوب، وبآثار جانبية أقل.
• تعديل نوع الأضواء المستخدمة بحيث تكون الموجات الضوئية المنبعثة هي تلك التي تقل احتمالية تسببها في مشاكل تلوث ضوئي شديدة.
وقد لجأت عديد من دول العالم إلى الاعتماد على تقييم شدة الإضاءة المنبعثة من المصابيح باختلاف أنواعها، ويستعان بهذه المعلومات حاليا لإنتاج مصادر ضوء مناسبة لأوقات معينة من اليوم. فمن الأفضل استخدام ضوء ساطع ذي محتوى مرتفع من الضوء الأزرق، مثل المصباح الفلورسنت المدمج في الصباح، وضوء خافت ذي محتوى منخفض من الضوء الأزرق، مثل المصباح المتوهج ذو الجهد الكهربائي المنخفض، بداية من وقت الغسق، على أن تُغلق جميع شاشات أجهزة الكمبيوتر اللوحي والهواتف الذكية ذات الضوء الأزرق الساطع، ويستعاض عنها بالكتب الورقية في وقت المساء. وسيكون من بين النتائج العديدة لهذا العمل تصميم نظام إنارة الشوارع. إذ يخضع في الوقت الحالي تغيير أنظمة إنارة الشوارع في مجتمعات بأكملها، مثل لوس أنجليس ونيويورك، إلى مصابيح «إل إي دي» (ليد)، للبحث والتحقيق، لأن هذا النوع من الإضاءة ينتج أطوال موجات خاصة بالضوء الأزرق، وهي الأكثر ضررًا على العمليات الفسيولوجية التي تحدث أثناء المساء وعلى سلامة الإيقاع اليومي ■