الأوريغامي فن طي الورق
لم يعد الأوريغامي، أو فن طي الورق وتحويله إلى مجسمات مفيدة ومبهجة ومدهشة - كنماذج الأشكال الهندسية، والقوارب، والزهور، والطيور، والحيوانات - مجرد فن أو هواية للتسلية، بل بات أداة تربوية آخذة في الانتشار في مدارس العالم من أجل تنمية الطلاب في إطار تعلم تعاوني نشط ومبدع وقائم على مشروعات؛ إضافة إلى كونه علاجًا نفسيًا، ومدخلًا واعدًا لتصميم المنتجات الصناعية، ومصدرًا لإبداع أعمال فنية استثنائية تستحق الحفظ في متاحف عالمية.
أداة تربوية وعلاج نفسي
كشفت العديد من البحوث عن أهمية طي الورق كأداة تربوية ذات أثر إيجابي على تنمية طلاب المدارس. ففي تعليم الرياضيات، كمثال، تساعد أنشطة الأوريغامي على تحسين قدرات القياس والمقارنة وفهم العلاقات والمفاهيم الهندسية. وتعزز التفكير المنطقي وحل المشكلات بصورة غير تقليدية، كما تجذب هذه الأنشطة انتباه الطلاب وتعظم اهتمامهم بدراسة المادة. وتقوي مهاراتهم الحركية، فتنمي التناسق بين الأيدي والعيون، وتصقل مهارات كالكتابة والرسم، وتمكن من أداء المهمات الدقيقة، ومن فوائدها النفسية والعاطفية، الاسترخاء، وخفض مستويات القلق والضغط النفسي؛ وإثراء قدرات وقيم مثل النظام، والانضباط، والصبر والمثابرة، والهدوء، والتعبير عن الذات بصورة مبدعة، وتعزيز الثقة بالنفس، وتنمية الشعور بالرضا والفخر، عندما يبرز الطلاب إمكاناتهم المتعلقة بخلق أشكال معقدة وجميلة، ويتحفزون لتجريب أشياء جديدة، ويستكشفون إبداعاتهم الخاصة.
فقد أكدت دراسات أن أنشطة الأوريغامي قد نجحت بالفعل في تقليل الضغوط النفسية والقلق لدى طلاب أثناء وجودهم في المستشفى، وحسنت من قدرتهم على التأقلم في بيئة مختلفة. وأشارت إلى تحسن السلوك والمهارات الاجتماعية، وزيادة دافعية التعلم، ومن آثار تحسين قدرات الطلاب الإبداعية، ما نتج من طبيعة أنشطة الأوريغامي المتطلبة للخيال والتفكير خارج الصندوق، وبطرق متعددة للوصول إلى أشكال فريدة ومفيدة للحياة اليومية؛ كتعلم طي الأكياس لتخزينها بصورة جميلة وموفرة للمكان، وطي الأوراق لتتحول إلى علب وحوامل للأشياء، وإعداد بطاقات للمناسبات، وغيرها كثير مما تعرضه المواقع الإلكترونية المتخصصة مع خطوات التنفيذ.
وذكرت دراسة مقارنة لأثر الأوريغامي على طلاب المدارس، أن ممارسة الطلاب لهذا الفن تغلب على مشكلات قصور الاهتمام، وانخفاض الدافعية، وضعف التواصل، والعنف اللفظي والجسدي، وإظهار العداء للمعلم، ورغم تحديات صعوبة تنفيذ بعض أعمال الطي سواء بالنسبة للباحثة، أو أطفال المدرسة الريفية المعنية بالدراسة، والشك في تقبلهم الأمر، وقدرتهم على التحلي بالانضباط والصبر، انجذب الطلاب بهذا الفن بعد عرض بعض الأعمال عليهم. وبمجرد اقتناعهم بقبول المحاولة، أصبح الباقي سهلًا. وساعد الطلاب بعضهم، وتدربوا على الطي في بيوتهم بأنفسهم. واكتشفوا ذواتهم بالبحث وتعلم طي نماذج جديدة بصورة مستقلة، وراحوا يعرضونها على زملائهم، مستفيدين من كتب تشرح الأعمال خطوة خطوة، وتلفت الانتباه إلى تاريخ الأوريغامي والتعريف بمواصفات النماذج المنفذة وأهميتها الرمزية. وحصدت التجربة نتائج طيبة، وشجعت التحلي بالانضباط الذاتي وبالقيم الأخلاقية.
فن ياباني قديم
يعد فن طي الورق أحد أشهر الأنشطة بين الأطفال، وجزء أساسي من منهج مرحلة الطفولة. فمن الممتع للصغار تناول قطع مسطحة من الورق واستخدامها في خلق أشياء ثلاثية الأبعاد، كالطيور والزهور. وتاريخيًا يعد الأوريغامي جانبًا مهمًا من الفن الياباني والثقافة اليابانية، ويقال إنه جاء من الصين في القرن السابع الميلادي. ولكن ما شهدته سبعينيات القرن التاسع عشر في هذا الصدد، كان تحولًا دراماتيكيًا، ليصبح هذا الفن أداة تعليمية في رياض الأطفال باليابان،
ولا سيما بعد التطوير الذي أحدثه العالم التربوي الألماني فريدريك فروبل، حيث ولد فن طي جديد من انصهار ثقافات الأوريغامي الغربي الألماني والشرقي الياباني.
لقد قام نظام فروبل التعليمي على اللعب الموجه من جانب المعلم ومن جانب المتعلم ذاته، فأسس حركة رياض الأطفال، وخلق ما عرف بنظام الهدايا - أشياء يمكن أن يلعب بها الأطفال - ونظام «المهن» التي يقوم بها التلاميذ، والتي من بينها الاستكشاف من خلال التعامل مع الصلصال، والأعمال الخشبية، والطبخ، وأعمال الكولاج - التلصيق - والخياطة، والحياكة، والرسم، واستكشاف الأشكال المجسمة، والخطوط والنقاط لتنمية خيال الطلاب وبناء قدراتهم الجسدية، وربطهم بالحياة اليومية وبالطبيعية، وتعميق معارفهم وفهمهم المجرد كأساس لدراسة الرياضيات والقراءة والكتابة، وغيرها، وكانت «مهنة» طي الورق من هذه «المهن». ومع انتشار فن الأوريغامي، أدمج في مناهج عديد من الدول، فأصبح جزءًا من مناهج المدارس التركية، وبات يدرس في مؤسسات التعليم العالي، ضمن مقررات اختيارية، تمهيدًا لتغيير مقصود في منظور المعلم في تركيا. فكثيرًا ما يستخدم طي الورق في تدريس مواد كالرياضيات، والهندسة، والعمارة، وتصميم الأثاث، والتصميم الداخلي، والأزياء، وسواها. وأشارت دراسة تركية إلى ترجمة القصص إلى أوريغامي لأطفال مرحلتي ما قبل المدرسة والابتدائي. وبينت دراسات فعالية أنشطة طي الورق في ابتداع الحكايات، وسردها في التعليم، ودورها في تقوية الذاكرة، وتعزيز عمل فصي الدماغ. وتنمية الوعي البيئي من خلال استخدام أوراق الصحف والمجلات كنوع من إعادة التدوير.
ولا سيما وأنها طريقة فنية بلا مخلفات، حيث يمكن إعادة طي الورقة مرة تلو الأخرى.
وتبنت بلدان أخرى كلا من الأوريغامي- الذي يعتمد على طي قطع الورق دون استخدام القص أو اللصق - والكيريغامي - الذي يسمح بالقص واللصق - في مواد الفنون والتربية الفنية. واعتبار أنشطته أشغالًا يدوية، وفنونًا إبداعية، كما هي الحال في الصين وماليزيا؛ حيث أثبتت بحوث امتياز هذه الأنشطة بالطبيعة العملية المشجعة على إشراك الطلاب في عملية التعلم وتركيز انتباههم، واستخدام مهاراتهم اليدوية في مواد العلوم، والهندسة، والأحياء، والفيزياء، والفن. وهناك أدلة واضحة على تحسن المهارات الإدراكية، في مجال التفكير الفراغي الذي يعني القدرة على تخيل الأشياء، والتعامل المجرد. وتعزيز العمل الجماعي والتواصل والتعاطف، عبر العمل على أهداف مشروعات مشتركة تتطلب العمل على هدف واحد بصبر ومثابرة وتفكير، وبصورة يعبر فيها الطلاب عن ذواتهم وينعمون بالسلام النفسي. من خلال الأوريغامي، يتعلم الطلاب تصور الأشياء المجسمة ويفهمون خصائها. ويتعلمون متابعة تسلسل الخطوات بترتيب معين، وهو ما يعين على تنمية مهارات التفكير المنطقي، وتوضيح مفاهيم كالكسور، عندما يقسم الطالب الورقة إلى نصفين أو أربعة أرباع أو ثمانية أجزاء لخلق شكل معين، كما يمكن أن يجسد الزوايا أثناء تشكيل المثلثات، والمربعات، والمضلعات الأخرى. ويساعد نشاط طي الأوراق وفتحها على تنمية الإحساس الحدسي بالتماثل الذي له أهمية خاصة في الهندسة والفن. كما يكتسب الطلاب خبرات فراغية تأتي من خلق الأشكال الهندسية والتعامل معها، ويتعلمون كيفية تنفيذ الأشكال المختلفة من خلال قياس جوانبها وزواياها بدقة. وفهم كيفية التلاعب الهندسي بصور بسيطة كاللف والطي، والقلب الذي يولد أشكالاً مختلفة.
أندية الأوريغامي
طالبت دراسة رومانية بدمج الأوريغامي في التدريس والترويج لتطبيقاته، لقدرته على خلق أجواء من السرور والتواصل والمنافسة داخل الفصل وخارجه، وفهم حاجات الطلاب، وتنمية ثقتهم بذواتهم، وأكدت تحول الطلاب للهدوء، وتعلمهم الصبر وتوجيه طاقتهم نحو هدف جيد. كما زادت قدراتهم المنطقية نتيجة للعمل على أشكال تستدعي التفكير أثناء البناء أو التجميع، وتعمقت معارفهم الرياضية. واتضحت أمامهم مفاهيم الأشكال والزوايا لتعلمهم في سياق مرح وذا معنى، كما نمى حسهم الفني والجمالي لارتباط الأوريغامي بالأشكال والألوان. وتحسن تعاملهم مع الوقت وقدروا قيمة الفن، وحجم العمل المطلوب للإبداع، والتعلم من الحياة.
لمزيد من نشر فن الأوريغامي، يوصي المهتمون بتأسيس أندية في المدارس، يعمل فيها الأعضاء على مشروعات مشتركة. ويمكن الاستفادة من المواقع إلكترونية العديدة - مثل Origami Resource Centre، Origami-fun.com ،Origamiplayer.com - التي تساعد في توفير المصادر، وتقديم الأفكار والمقترحات والدعم. ولعل من الجيد أن هذه الأنشطة لا تحتاج إلى أوراق غالية الثمن أو أجهزة، حيث تفي مربعات الأوراق القديمة بالغرض. ويمكن اختيار ألوان مشرقة ومربعات ذات مقاسات مختلفة بحيث يبدأ أعضاء النادي بطيها فورا. وربما يتطلب الأمر بضعة كتب -جديدة أو مستعملة- تستخدم كمصادر لتنفيذ الأشكال المختلفة. وقد يحتاج بعض الأعضاء ممن لا يستطيعون العمل بمفردهم إلى مرشد من الأعضاء ذوي الخبرة. ولهذا ينصح بتنظيم جلسات طي بسيط وحر، وأخرى لطي مخطط مسبقًا، وطي متقدم، وتناول أفكار متخصصة، كالطيور والزهور ومشروعات طي للمناسبات.
مؤتمرات وتطبيقات
لدعم هذا الفن وأنشطته القيمة والجالبة للسرور والفوائد المنعكسة على جودة التعليم والتعلم والصحة النفسية، تأسست منظمات ومواقع إلكترونية مثل أوريغامي أمريكا، ومجتمع أوريغامي البريطاني التي تعمل على نشر الوعي المجتمعي بأهميته وإمكانياته في مختلف المجالات. كما نظمت مؤتمرات دولية منذ التسعينيات الماضية حول تعليم الأوريغامي ودوره العلاجي. وحفلت مؤتمرات الاوريغامي في العلوم والرياضيات والتعليم التي تعقد منذ أواخر الثمانينيات الفائتة بأوراق بحثية مهمة. والدعوة قائمة لمزيد من البحوث الكاشفة لإمكانيات الأوريغامي.
وقدم متخصصون العديد من الكتب، كتلك التي ألفها روبرت لانغ الأستاذ الأشهر في هذا الفن الذي استطاع من خلالها الربط بين الفيزياء والرياضيات والأوريغامي وتفرغ مؤخرًا لهذا الفن وعمل على وضع برمجيات تمكن من التطبيق على صناعات مختلفة كطي وسادة الأمان في السيارات، وطي خلايا الطاقة الشمسية، وتطبيقات أخرى لأنشطة فضائية. ومن إنجازاته برنامج حاسوب «صانع الشجرة» -Treemaker- يساعد على الطي والتجميع المعقد بنجاح وبصورة ملتزمة بمبادئ رياضية، وأنماط هندسية معينة. فالأوريغامي لدى لانغ خليط مدهش من الفن والعلم. لأن في فك رموز المخطط الكثير من المنطق والكثير من المبادئ الرياضية في إنشاء النموذج وطيه. ويشبهه بالموسيقى لأنه يسمح بالتأليف، والأداء، كنوع من التعبير الفني. ويصفه بالفن النحتي الفريد، الذي يتطلب طيًا فرديًا خاصًا لكل نموذج من النماذج ليتكسب التفرد؛ مع الوضع في الاعتبار إضافة اللمسات واختيار الورق وتركيبة الألوان التي تنمي الإحساس بالفن والجمال ■