في أهمية القصص العائلية
فيما يتعلق بتربية الأطفال، غالبًا ما يتم التركيز على أهمية قراءة القصص على الأطفال منذ الصغر، ما يعتبر أمرًا من شأنه أن يوسع آفاقهم ويعزز مخيلتهم ويخلق علاقة حب للكتب والقراءة والاطلاع ترافقهم مدى الحياة. ولكن نادرًا ما يتم تسليط الضوء على القصص العائلية التي قد توازي في أهميتها قراءة الكتب، إن لم تكن تتفوق عليها في أهميتها، لا سيما كونها توثق الروابط العائلية وتحمل معها صدى عاطفيًا عميقًا وتعزز الإحساس بالهوية والانتماء لدى الأطفال، ناهيك عن أنها أداة مهمة لنقل التراث والعادات والتقاليد وحتى اللغة .
لذلك كان لا بد من الحديث عنها وضرورة حضورها في مختلف الجلسات العائلية، دون التخلي عن قراءة الكتب للأطفال، بحيث تكون الدعوة متمثلة بتحقيق التوازن بين كلا الشكلين من رواية القصص اللذين يلعبان أدوارًا حيوية وتكاملية في نمو الطفل وتطوره.
يدرك معظم الآباء والأمهات فوائد قراءة القصص لأطفالهم منذ الصغر، بحيث تطالعهم النصيحة بالقيام بذلك في كل مكان تقريبًا، إن كان في عيادات أطباء الأطفال، أو عندما ينقلها إليهم المعلمون في صفوف الحضانة، أو على شاشة التلفزيون، أو في الكتب المتخصصة في تربية الأطفال أو على وسائل التواصل الاجتماعي. فقراءة الكتب للأطفال بشكل يومي تعمل على تطوير مهاراتهم اللغوية، وتوسع نطاق مداركهم، وتساعدهم على القدرة على القراءة لاحقًا في المدرسة، ناهيك عن أنها يمكن أن تغرس فيهم حب الكتب مدى الحياة.
ومع ذلك، فإن الصورة الجميلة المتمثلة في احتضان الطفل الصغير وقراءة قصة له من قبل أحد الوالدين، قد لا تتناسب مع الواقع بالنسبة لبعض الآباء والأطفال. قد لا يشعر الآباء من بعض الثقافات بالارتياح عند القراءة لأطفالهم لأن الكتب لم تكن جزءًا من حياتهم اليومية في أثناء نشأتهم، كما أنه بالنسبة لبعض الآباء الآخرين، قد تعتبر قراءة القصص لأطفالهم نشاطًا لا يخلو من الصعوبة بسبب تجاربهم السلبية في تعلم القراءة، بالإضافة إلى المشاكل الموجودة لدى الأطفال فائقي الحركة الذين يعتبرون الجلوس في حضن آبائهم والاستماع إلى قصة تقرأ على آذانهم بمثابة عقاب لهم وليس مكافأة. وعلى الرغم من ذلك، ولحسن الحظ، يمكن للوالدين اليوم أن يتعلموا طرقًا جديدة لقراءة الكتب مع أطفالهم لإشراك حتى الأطفال الأكثر نشاطًا والاستمتاع بها هم أنفسهم أيضًا.
تتفوق بأهميتها على قراءة القصص
مع ذلك، فإن ما لا يعرفه معظم الأهل هو أن رواية القصص العائلية لأطفالهم قد تكون بنفس أهمية قراءة قصص الخيال، كما أنها قد تعود عليهم بفوائد إضافية أخرى.
على مدى العقود الثلاثة الماضية، أظهرت مجموعة من الأبحاث حول رواية القصص العائلية أنه عندما يشارك الآباء قصصهم العائلية الخاصة مع أطفالهم - لا سيما عندما يروون تلك القصص بطريقة مفصلة وتفاعلية - فإن أطفالهم يستفيدون بطرق عدة. على سبيل المثال، تُظهر الدراسات التجريبية أنه عندما يتعلم الآباء استرجاع الأحداث اليومية مع أطفالهم في مرحلة ما قبل المدرسة بطرق مفصلةً، يستطيع أطفالهم رواية قصص أكثر ثراءً وتماسكًا للبالغين الآخرين بعد عام أو عامين مقارنة بالأطفال الذين لم يطلعهم آباؤهم على هذه القصص، كما يُظهر الأطفال فهمًا أفضل لأفكار الآخرين ومشاعرهم. تساعد هذه المهارات السردية والعاطفية المتقدمة، الأطفال في سنوات الدراسة عند قراءة المواد المعقدة وتعلم كيفية الانسجام مع الآخرين.
تأثير على مستويات عدة
ولكن تأثير القصص العائلية على الأطفال قد يذهب أبعد من ذلك بكثير، وقد يأتي على مستويات عدة. في كتابها «أخبرني قصة: مشاركة القصص لإثراء عالم طفلك» (2013م)، تقول المؤلفة المتخصصة في علم النفس التنموي إيلين ريس، إن القصص العائلية تميل إلى أن يكون لها صدى عاطفي عميق لدى الأطفال، لأنها تتضمن أشخاصًا حقيقيين وأحداثًا فعلية، لذلك يمكن للأطفال تصور أنفسهم في هذه القصص والشعور بارتباط مباشر مع أسلافهم، ناهيك عن أنها تعزز لديهم مشاعر التعاطف والاحترام، حيث تكتسب الأجيال الصغيرة والشابة نظرة ثاقبة على حياة وتجارب كبارهم. قد يشعر الأطفال بالفخر بإنجازات الأجداد، أو التعاطف مع نضالات الوالدين، أو الشعور بالإرث المشترك، فتكون بمثابة نسيج يربط بين أجيال متعددة وجسر يواصل بين الآباء وأبنائهم.
إضافة إلى أن القصص العائلية تتحول إلى نوع من درس حي للتاريخ حين توفر سياقًا تاريخيًا يمكن من خلاله فهم الأحداث الكبرى التي أثرت في حياة الأسرة، مثل الهجرات أو الحروب أو التغيرات الاجتماعية والاقتصادية. ومن جهة أخرى، فهي قد تكون بمثابة الوسيلة للحفاظ على التراث الثقافي والتقاليد بطرق تبقى محفورة في الذاكرة. على سبيل المثال، يمكن لقصة عائلية حول احتفال تقليدي بالعيد أن تعلم الأطفال عن الممارسات الثقافية، والوصفات، وأهمية الحدث، فيضمن هذا التقليد الشفهي بقاء الهوية الثقافية نابضة بالحياة وذات صلة، حتى عندما تتكيف الأسر مع البيئات الجديدة والأزمنة المتغيرة، وذلك تماشيًا مع المثل الشعبي من تراث الهنود الحمر من سكان أمريكا الأصليين الذي يقول: «قل لي الوقائع وسوف أتعلم، قل لي الحقيقة وسوف أصدق. ولكن أخبرني بقصة وسوف تعيش في قلبي للأبد».
وهناك مستوى آخر تؤثر فيه القصص العائلية على الأطفال وهو الذي يتعلق بإحساسهم بالانتماء وبمكانهم في هذا العالم، بحيث إن هذه القصص تساعدهم على تحديد هويتهم بطرق تتجاوز تجاربهم الشخصية لتشمل إحساسًا أكبر بمن هم فعلاً وما ينبغي أن يكونوا عليه فغالبًا ما يحتاج الأطفال إلى الشعور بأنهم جزء من شيء أكبر - سرد عائلي قوي يتحدث عن كيف عاشت عائلتهم الأوقات الجيدة وتجاوزت الأيام الصعبة ما يمنحهم الإحساس بالسيطرة والثقة بقدراتهم الذاتية لخوض غمار الحياة. تقول كلير هالسي، المؤلفة المشاركة لكتاب «طفلك سنة بعد سنة» (2010م)، إن «هوية أطفالنا ترتبط بقوة بعائلتنا وتاريخها؛ ولا يتعلق الأمر فقط بمن أين أتينا، بل أيضًا بخصائص الأسرة، مثل حب المغامرة والشجاعة والإبداع وحتى الوظائف وإنجازات أفراد الأسرة. إن رواية القصص العائلية تعزز تلك الخصائص العائلية وتؤسس العلاقة بين الأجيال، حتى بأبسط طريقة عندما يتم إخبار الطفل في القصة عن الخصائص التي يتقاسمها مع أحد الوالدين أو أي قريب آخر».
بالإضافة إلى ذلك فإن سرد القصص العائلية هي تجربة تفاعلية، بحيث يستطيع الراوي تكييف القصة بناءً على ردود أفعال الطفل، ما يجعلها أكثر صلة بتجارب الطفل واهتماماته الحالية. إلى جانب إمكانية الإجابة على الأسئلة والمشاركة في المناقشات حول الأحداث والشخصيات، فيساعد هذا التفاعل الديناميكي الأطفال على الفهم وتطوير مهارات التفكير النقدي.
الانفتاح على الذكريات المؤلمة
لا يقتصر الأمر على مشاركة الروايات السعيدة، بل يمكن للقصص العائلية أن تتناول موضوعات صعبة، مثل الخسارة ومواجهة الصعوبات. بل من الضروري، على وجه الخصوص، أن يكون الأهل على استعداد للانفتاح على الذكريات المؤلمة، لأنها تظهر لأطفالهم أنهم ليسوا وحدهم في مواجهة أنواع الصعاب التي ستعترضهم في طريق الحياة. إن معرفة أن أقاربهم وأجدادهم مروا أيضًا بأوقات عصيبة - مثل الحروب والكساد والكوارث الطبيعية - وتمكنوا من تجاوزها، يمنح الأطفال نوعًا من الثقة والقوة.
تقول الكاتبة الأمريكية داني شابيرو، في البودكاست الخاص بها بعنوان «أسرار عائلية» الذي تستكشف فيه ما يحدث عندما تحجم العائلات عن رواية القصص المؤلمة، إنه لدى الآباء فكرة أنهم لا يريدون أن يثقلوا كاهل أطفالهم بأي أمر يقلقهم، لذلك يحدث أنه «في كثير من الأحيان تحمل العائلات أعباء غير معلنة من الأسرار والعار، وهذا العار يؤدي إلى الصمت»، ولكن الأطفال يشعرون بهذا الصمت، حتى لو كانوا لا يعرفون ما وراءه ما يؤثر سلبًا عليهم فيشعرهم بالقلق وعدم الأمان، وإنما عندما يتم تسليط الضوء على جميع القصص - الجميلة منها والصعبة - وعند إعطاء القصص العائلية المؤلمة صوتًا ومساحة، فإنها تنحسر فعليًا وتصبح جزءًا من النسيج الأكبر لحياة الأسرة، فيتم استبدال السرية والعار بالقوة والتحرر. وفي هذا الإطار يشبه الكاتب بروس فايلر، مؤلف كتاب «أسرار العائلات السعيدة» (2013م)، الطريقة التي يتجاهل بها العديد من الآباء في قصصهم العائلية، التفاصيل المخيفة أو المؤلمة، بالرغبة في تطهير بيئة الطفل من الجراثيم. ولكن فايلر يقول إنه «إذا كانت البيئة معقمة تمامًا، فلن يتمكن الأطفال من تطوير المناعة التي يحتاجونها، لذلك فإن القصص العائلية تحتاج إلى أن تحتوي على بعض الجراثيم».
وهناك نقطة أخرى مهمة فيما يتعلق بالقصص العائلية المؤلمة وهي أن التعامل معها يجب أن يتم بحساسية تامة ولغة مناسبة لعمر الطفل، ما يضمن فهم الأطفال للسياق والشعور بالأمان والدعم طوال المحادثة. ومع ذلك، من المهم أيضًا، تحقيق التوازن بين الشفافية والتواصل الصادق وفقا لمستوى نضج الطفل.
حاضرة في جميع العائلات ومختلف الثقافات
ما يجعل القصص العائلية ملائمة للجميع هو أن جميع العائلات لديها قصص لترويها، بغض النظر عن ثقافتها أو ظروفها أو تواجدها الجغرافي، وكما قالت الكاتبة الأمريكية أورسولا لي غوين «لقد كانت هناك مجتمعات عظيمة لم تستخدم العجلة، لكن لم تكن هناك مجتمعات لم تحكي القصص». كما أنها قصص يحبها الأطفال بنوع خاص لأن الأطفال بطبيعتهم يركزون على أنفسهم، لذلك فهم يحبون القصص التي تتعلق بهم وبأشخاص قريبين منهم، مثل عندما يناقش الجد يومه الأول في المدرسة عندما كان طفلاً أو يروي قصصًا عن الألعاب التي كان يلعبها مع صديقه المفضل. فيتصور الأطفال من يروي لهم القصة من أفراد الأسرة عندما كان صغيرًا وعيشه في زمن كانت فيه الأمور مختلفة، ما يثير خيالهم لا سيما هذا التناقض بمن يرونه أمامهم كشخص بالغ، وقصة الطفل بطل أحداث ومغامرات القصة التي تروى لهم.
والأفضل من ذلك كله، أنها على عكس القصص الموجودة في الكتب، هي قصص عائلية مجانية وحاضرة دائمًا، ومعها لا يحتاج الأهل حتى إلى إضاءة النور لمشاركة قصة مع طفلهم عن ذكرياتهم أو مجريات يومهم، أو عن طفولتهم. لكن، رواية القصص العائلية، هي نوع من المهارة، ومثلها مثل أي مهارة أخرى، تحتاج إلى العمل عليها وتطويرها، كما أنه من المهم إيجاد اللحظات المناسبة لها، فلا يحدث ذلك في منتصف يوم حافل أو عندما يتصفح الجميع وسائل التواصل الاجتماعي على هواتفهم أو يكونوا منشغلين بأي أمر آخر، بل يتطلب الأمر بعض الجهد، وربما حتى طقوسًا عائلية خاصة. وبما أنها مهارة فيمكن نقلها إلى الأجيال اللاحقة بحيث إن الأطفال يتعلمون كيفية رواية قصصهم من خلال الاستماع إلى الطريقة التي يروي بها آباؤهم وأجدادهم وأقاربهم الأكبر سنًا قصصهم.
وأخيرًا، لنتذكر أن القصص التي يقرأها الأطفال في الكتب ستساعدهم على أن يصبحوا جزءًا من عوالم الآخرين، لكن القصص التي يسمعونها من أسرهم ستساعدهم على فهم عالمهم الخاص، ومن هم، ومن أين أتوا، وإلى أين قد يرغبون في الذهاب؟ فهي التي تحدد هوياتهم، وتشعرهم بالدفء والأمان. ولنتذكر أيضًا أن لا شيء يربط عائلاتنا أكثر من الحكايات والتجارب المشتركة ■