لماذا اخترت هذه القصص؟

لماذا اخترت هذه القصص؟

تتناول هذه القصص موضوعات متنوعة، وتتميز بموقف نقدي من الواقع، ملوّن بالسخرية السوداء. تسلط القصة الأولى الضوء على ما آل إليه موقع الشعر والشاعر في المجتمع، حيث تطغى قيم الاستهلاك والربح السريع. وتنقلنا القصة الثانية إلى عالم الجريمة والسجون لتطرح قضية واقع السجين خلال الأسر وبعد خروجه إلى الحرية، حيث يبدو العالم سجنًا آخر. أما القصة الثالثة فتعود بنا إلى مجريات الأحداث المأساوية في غزة، وتنطوي على نقد مبطّن للمساعدات الغذائية التي ترميها طائرات المجتمع الدولي، فيما طائرات القتل تستمر في إمطار المدنيين بالقنابل. إلا أنها متفاوتة من حيث مستوى اللغة ومتانة الأسلوب.

المرتبة الأولى: «العاهة» لمحمد أحمد فؤاد/مصر
تتميز هذه القصة بطرافة الموضوع وأسلوب معالجته القائم على استفزاز القارئ وتوليد الشعور بالصدمة. فصاحب العاهة الذي يطالعنا به العنوان إنما هو الشاعر، وعاهته لوثة الشعر التي تتسبب له بإعاقة لا تختلف نتائجها عن غيرها من الإعاقات الجسدية أو العقلية: إنها العزلة الاجتماعية والحاجة المادية. هكذا من خلال التماثل بين أصحاب الإعاقة والشاعر الذي تعبر عنه صراحة السطور الأولى من النص، من خلال ألفاظ وعبارات تتسم بالواقعية القاسية، استطاع الكاتب أن يصيب عصفورين بحجر واحد، فهو من جهة يثير قضية الإعاقة ومعاناة المعوق في المجتمع، ومن جهة أخرى، يعري النظرة السلبية إلى الشعر والشعراء، خصوصًا، بل إلى الثقافة والمثقف عمومًا في زمن صار فيه كل شيء يقاس بالربحية والإنتاجية ولا يقيم وزنًا لكل ما هو متعة فكرية وروحية مجانية. 
هذا ما توحي به المفارقة المبطنة التي تقوم عليها الحبكة بين الحالة المادية المتردية للشاعر الذي وجد نفسه مضطرًا للعمل في مطعم للوجبات السريعة، من جهة، وبين ازدهار أعمال صاحب المطعم الذي اضطر الشاعر للعمل فيه بصفة «كاشير»!. الأسلوب يجمع بين الواقعية والسخرية السوداء، ويتميز بالاقتضاب محافظًا على توتر السرد الذي يتطور  وفق مسار خطي حتى النهاية التي تتسم بإيقاعها السريع، وتشكل خاتمة موفقة جدًا.
أضف إلى ذلك تضمين النص مقطعًا شعريًا فيه تعريف موّفق للشعر وإشارة للهوة بين الشاعر والجمهور العريض. 

المرتبة الثانية: «شيخ مجرم» لإيمان صالح/ المغرب
يثير هذه النص قضايا متنوعة وإن كان بعضها على سبيل التلميح. فهو يغمز من قناة التحجر الديني لدى بعض رجال الدين الذين يبيحون لأنفسهم أن يكفّروا مؤمنًا حاد عن طريق الصواب، وأن يلقوا عليه الجرم. هذا ما حصل للشخصية الرئيسية، وشكّل المحرك الرئيسي لجريمة القتل وبالتالي مرتكز الحبكة، بل رسم مسار الشخصية من أول النص حتى نهايته. 
كذلك يشكل العنف موضوعًا رئيسيًا وهو عنف ناشئ عن شعور بالظلم يلازم الراوي (بطل القصة) داخل السجن بعد أن حُكم عليه بالمؤبد عقابًا على جريمة القتل التي ارتكبها بحق إمام المسجد، وخارج السجن بعد إطلاق سراحه نتيجة لحسن سلوكه، حيث كان عرضة للتهميش والازدراء. صارت الحرية زنزانته الجديدة، ففضّل العودة إلى السجن واختار الجريمة ملاذًا. 
هناك إذًا موضوع ثالث ألمحت إليه القصة وهو نظرة المجتمع السلبية إلى صاحب السوابق، حتى لو تاب وأراد العودة إلى طريق الصواب. فقد سعى الراوي خلال سنوات سجنه إلى إعادة بناء ذاته عن طريق المطالعة، فقرأ العديد من الكتب ووجد طريقًة للتعبير عن نفسه بواسطة الكتابة، ولكن شعوره بالذنب ونظرته الدونية إلى نفسه نتيجة استبطانه لنظرة الآخرين، دفعته إلى ازدراء كل ما يكتبه والى التخلص منه بطريقة مضحكة. 
أما خاتمة القصة فقد نجحت في إثارة الالتباس تاركًة لذكاء القارئ أن يستنتج هوية ضحية جريمة القتل الجديدة التي استحق عليها القاتل مجددًا عقوبة السجن المؤبد. لغة النص سليمة وتنأى عن الإنشاء وأسلوبه ينجح في التعبير عن العبثية التي تشكل المناخ المسيطر.
المرتبة الثالثة: «طحين السماء» محمد صبري عبدالخالق إبراهيم شلاطة/ مصر
تضعنا هذه القصة القصيرة في أتون الحرب الجارية في غزة وتصوّر مأساة الشعب الفلسطيني الذي يتعرض للقتل بل للإبادة ويعاني من التجويع والحصار. يعتمد الأسلوب على تقنية المفارقة بين أكياس الطحين التي ترميها طائرات المساعدات الإنسانية وينتظرها الأطفال المحاصرون كمنة من السماء، ووابل القنابل والصواريخ العشوائية التي تزرع الموت والدمار ولا تفرق بين طفل وشيخ بين مدني ومقاتل. كما أن الكاتب اختار أن يجري سرد الحادثة على لسان طفل ليبرز المفارقة بين براءة الضحية ووحشية القاتل. يتميز الوصف بالدقة والاقتضاب، وتحافظ الحبكة على تواترها حتى النهاية، وهي على بساطتها تختصر فداحة المأساة وتهزّ الضمائر.

الفائز الأول

«العاهة» 

محمد أحمد فؤاد - مصر

على نهج أصحاب العاهات الذين يعرضون أذرعهم المقطوعة، ووجوههم المحترقة، وأرجلهم المعوجَّة، وأعينهم التالفة، وجلودهم المشوَّهة، على الركاب في الموقف، من أجل استعطافهم، والتسول منهم، عمدتُ إلى نفس الطريقة بعد أن تقطَّعتْ بي السبل، وخاب سعيي غير مرة، في بحثي عن وظيفة.
أنا أصلًا لم أكمل تعليمي الجامعي بسبب عاهتي، ولكنني اليوم مصرٌّ على أن أجعل منها وسيلةً للكسب. عاهتي هي الشِّعْر. ولستُ أظن أنَّ الشِّعْرَ خطبٌ أهون من تلف العيون واعوجاج السيقان وبتر الأذرع، بل هو والله أشد وأمرّ.
ارتديتُ القميص الذي لا أرتدي سواه في فصل الصيف منذ ستة أعوام، وقصدت إلى الموقف ممسكًا بيدي ديواني (كلماتٌ تبحثُ عن دفتر)، وأخذت أقترب من كل ميكروباص شبه ممتلئ، فأرسم على وجهي علامات التعاسة، وأنشد بعض الشعر، موجهًا الديوان إلى أبصار الركاب، لكنَّ أحدًا لم يكترث لعاهتي، وظل الجميع مُعرِضين عني طوال النهار، إلا واحدًا بدا على وجهه الاهتمام منذ ابتدأت إلقاء القصيدة، فلمَّا انتهيت، قال لي إنه يعمل بمطعم وجبات سريعة مشهور، وأن هذا المطعم يخصص لذوي الإعاقة نسبةً من فرص العمل، إيمانًا بقدرتِهم على أداء المهام الطبيعية التي يقوم بها سواهم من البشر. رحَّبتُ بعرضه، وأخذت منه الكارت الذي فيه رقم هاتف مدير المطعم، ووعدتُه بأن أتصل به.
رحَّب المدير جدًا بي حين هاتفته، ووعدني بوظيفةٍ تلائم قدراتي، ودعاني للحضور إلى الفرع الرئيسي في اليوم التالي.
بعد حوار قصير مع موظف الموارد البشرية، قرر أن أعمل في أحد الفروع التي تدار تمامًا بواسطة ذوي الإعاقة من صم وبكم ومشلولين، على أن أكون أنا الكاشير. واقتضى استلامي للوظيفة أن يقوموا بتعديل بسيط، هو أن يضعوا ملصقًا كبيرًا على الطاولة المعدنية الفاصلة بين الكاشير والزبائن ليكون واضحًا لهم، وبهذا الملصق صور الأطعمة المقدَّمة وأسعارها، وتنويه في نهايته بأن الفرع يدار بواسطة ذوي الإعاقة، وأن الكاشير شاعر.
لُغَتُهُ مَجَازٌ لِلْمَجَازِ 
فَلَا يَقُولُ وَلَا يُشِير 
مُتَقَلِّبُ الأَحْوَالِ 
لَيْسَ يَطِيقُ مَنْ لَا يَشْعُرُون 
كَفَرَاشَةٍ وَقَفَتْ عَلَى غُصْنٍ نَحِيل 
فَإِذَا رَأَى مَا لَا يُحِبُّ 
فَسَوْفَ يُؤْذِنُ بالرَّحِيل!
لكنني لم ألبث بهذه الوظيفة إلا ثلاثة أيام! فـــقــد كثـــرت شكاوى الزبـــائن منــــي لعـــدم قدرتهم على التفاهم معي، وأقرُّوا جميعًا بأن التعامل مع الكاشير الأصم الأبكم الذي كان قبلي، كان أيسر بكثير من التعامل مع شاعرٍ مثلي.
وهكذا رحلتُ!

الفائزة الثانية

«شيخ مجرم» 

إيمان صالح - المغرب

جَوّعتُ زوجتي وطفلاي لِمدة شهرين كي أجمع المال الكافي لِشراء مسدس. وحين أصبح أخيرًا بين يداي وشعرتُ بِملمسه الحديدي البارد، تُقتُ لِأن أجعله ساخنًا. عبأتُه بِرصاصتين وأفرغتهما في الفص الأيمن من دماغ إمام مسجد الحي. حِين حُوكِمتُ سألوني عن السبب، أخبرتهم أنه قبل سنواتٍ رفض توبتي وأَقسم ألا أضع رِجلاي في بيت الله، ومنذ آنذاك وأنا حاقد عليه. حكموا علي بالسجن المؤبد، فدخلته مستبشرًا. كنتُ حريصًا على أن يكون سلوكي جيدًا، فكنتُ أنظف الأرضيات والمراحيض، وأغسل الأواني والملاءات، وأقوم بجميع الأعمال التي يكرهونها ساعيًا لراحتهم وحبهم. أما الاحترام، فكنتُ أحصل عليه من خلال قراءة الكتب. بعد خمس سنوات، كنتُ قد أنهيتُ قراءة كل كتب المكتبة، وكان ذلك في الحقيقة عذاباً لأن أعظمها تنمية ذاتية. لما طلبت كتبًا أخرى، توسلت للمدير أن يجعلها كتب تاريخ أو فلسفة أو روايات، أو أي شيء آخر. أخبرني أن هذه الأنواع لن تنفعني في شيء، والكتب التي قرأت مسبقًا لن تنفعني أيضًا إلا إذا أعدت قراءتها.
بعد خمس عشرة سنة من السجن، زارني طفلي الأصغر والذي صار شابًا. لم أتعرف عليه، لكنه تعرف علي. أخبرني أن أمه قد ماتت. حزنت عليها لأسابيعَ طويلة، وكنت ملازم الفراش لا أعمل ولا أخرج للاستراحات ولا أكلم أحدًا. آمر السجن وخدامه تفهموا ورقوا لِحالي، فدعوني وشأني. مع مرور الأيام، لم أكن أتحسن. عظامي برزت من الحزن والامتناع عن الطعام، وجلدي شحُب من الأرق وعدم التعرض للشمس. كبر قلق المدير، فَأذعن أخيرًا لِطلبي القديم فخصص لي مكتبةً أكبر كان بها كل ما اشتهيت من الكتب.
بعد ثلاثين سنةً من السجن، كنتُ قد كتبت روايتين واثنتين وأربعين قصةً قصيرةً. كنتُ أكتب على أوراق كان المدير يوفرها لي جزاءً على حسن سلوكي. حينما يجيء الليل، وكلما أنهيتُ فصلًا من روايةٍ أو قصة من قصصي، كنت ألتهم الأوراق حيث كتبت. وحين كنت أسأل عم فعلت بالأوراق التي مُنِحَت لي، أخبرهم أني ألقيت بها في المجاري بعد أن مسحت بها فضلاتي. كنتُ أصاب بعسر الهضم أحيانًا، لكن آلامه لم تكن شيئًا يُذكر مقارنةً مع الشعور بالحقارة والنفور مما كتبت.
بعد أربع وخمسين سنةً، صُدِر في حقي عفو ملكي. كنت قد أصبحت عجوزا كهلًا، وكنت أعاني من التهابات المفاصل ومشاكل الجهاز الهضمي. حين كنت أنظر إلى المرآة وأرى شخصاً آخر بجانبي، لم أعد أهلع، بل كنتُ أحييه. مؤخرًا، لما عرفت أنه نفسه يكون الشيطان، ضحكتُ لِساعاتٍ، ثم نسيت أمره سريعًا، لأنه في نظري لم يكن هناك ما هو أكثر شيطنةً من قولوني العصبي، ناهيكم عن كل ما كنتُ أمر به. 
كنتُ شيخًا مجرمًا خرفاً بالنسبة للجيران، لِبائع المواد الغذائية، ولِقطط الشوارع أيضًا. لم أتحمل أن خروجي من السجن أفضى إلى دخولي لِسجنٍ آخر، ولا أنه يُفترض بي الموت بعد قضاء أيامي الأخيرة على ذلك المنوال الذي كنت أعيش به. وهكذا، نفد صبري وصبر شيطاني، فصممتُ على العودة لجنتي. وذات صباح، قتلتُ أول شخص التقيت به في حينها. 
كنت في البداية متردداً، لكني حين رأيت عينيه تلاشى خوفي. كانتا عينان مألوفتان للغاية. حوكِمت ثانية بالسجن المؤبد. كنتُ سعيدًا للغاية، وكان كل مَن في مبنى السجن سعيدًا بعودتي. بعد أسبوعين، زارني ابني الأصغر ثانيةً، هذه المرة تعرفتُ عليه. أخبرني أن أخاه قد قُتِل، أجبته أنه لا يأتيني إلا حين يحصل أمر سيئ، فَخرج دون النبس بكلمة أخرى.

الفائز الثالث

«طحين السماء» 

محمد صبري - مصر

اليوم هو لا يهم بأي يوم أو تاريخه أو حتى الساعة، فلقد توقف كل شيء لدينا هنا بمخيمنا عن التحرك منذ السابع من أكتوبر، ففرحتنا كانت الأخيرة منذ ذلك اليوم ومن بعدها توقفنا عن العد ليس إلا أعداد من يتساقط حولنا، فكل شيء حولنا بات مرهونًا بالسقوط، فنحن هنا تترنح عيوننا وهي تنظر إلى السماء؛ حتى ترى ما الذي سيتساقط علينا منها فلديها الكثير من الأنواع من العطايا والهبات، فبين سقوط الأرواح، وسقوط الصواريخ والطلقات، وسقوط الأمطار حتى المساعدات باتت منذ يومين تقريبًا هي الأخرى تتساقط علينا من السماء، أنا وإخوتي الأربعة الأكبر مني بالعمر، كل يوم نهرع منذ الفجر نرقب السماء لنرى ما الذي سيتساقط علينا منها بعد أن تفتح أبوابها، أنا (عمر) أقف الآن والابتسامة ملونة على وجهي بعد أن امتلكت يدي حفنة من الطحين المتساقط من السماء، عذرًا فهم أخبرونا في المدارس أن السماء لا تمطر ذهبًا، لكن لم يخبرونا أن السماء تمطر طحينًا، تحركت أبحث عن إخوتي فقد كانوا يهرولون هم ومَن تبقى من شباب حارتنا لكي يلتقطوا ما استطاعوا من هدايا السماء، فرحتي الآن كطفل أن ما كنا نحاكيه بالألعاب الإلكترونية أصبح حقيقة ولكنها حقيقة مؤلمة، وما الجديد فالحقائق جميعها مؤلمة، ما زالت يدي تقبض على حفنة الطحين أنظر يمنة ويسرة أبحث عن إخوتي لأرى عما أثمر ركضهم، أتذكر أنهم اتجهوا من هنا لا بل من الجهة الأخرى، وما الذي يهم من الاتجاه السليم الأهم أن نتحرك فالتحرك السريع وقت أن تفتح السماء أبوابها هو أهم ما يميز هذه الأيام، سرت بالاتجاه كي أبحث عن إخوتي، كان الطريق هادئاً وطويلًا والسكون الذي يشوبه رائحة البارود المقترن برائحة الشتاء أمسى مألوفًا لأنوف الجميع، سرت ثم سارعت بالمسير، الجلبة ظهرت بآخر الطريق فقد أذنت السماء بثمرة جديدة وهذه المرة ثمرة لذيذة، فالجميع يركضون إلى هناك أرى ذلك بوضوح، وما إن وصل الجمع حتى أعلنت السماء عن فتح أبوابها بثمرة جديدة ولكنها هذه المرة أعتقد أنها من شجرة الزقوم.