«حنا مينة ورواية الحياة»
حين تقرأ حنا مينة روائيًا، بعيدًا عن حياته كما يجب أن يُقرأ أي كاتب، فأنت تقرأ سيرة البحر وهو يتشكل في عمق السرد الروائي المحكم، وهو يعبر عن ذاته في شخصيات روائية مليئة بالحياة، حنا مينة هو سيد السرد العربي وهو يصل إلى أوج مستوياته الفنية البهية، وهو ينبني في لغة سردية قوية ذات إيقاع شاعري عميق، حيث الشخصيات تحيا بعمق، وحيث الأمكنة تتكامل معها في إطارات زمنية لتشكل عوالم تخييلية بالغة الثراء. حنا مينة روائي العمق الإنساني، ففي رواياته تجد نبض الواقع المعيش وصدق التعبير عنه بشكل نادر، قلّما تجده عند باقي الروائيين العرب الآخرين. وهو ما جعله فريدًا وسطهم، فقد جعل من البحر بطل رواياته وجعل من شخصياته العاشقة له محور اهتمامه الكلي. كما جعل من عمق التجارب الحياتية التي مر بها أحداثًا روائية بامتياز، انطلق بها من المحلية ليحلق بها في أفق كوني بكثير من الألق وكثير من النجاح. من هنا ستظل رواياته حاضرة بقوة في مسارات الرواية العربية وتشعباتها ومعبرة عن إشكالاتها وتنوعاتها، وسيظل أسلوبه الروائي العربي الفاتن علامة بارزة في هذه المسارات السردية العربية المتنوعة والمتعددة.
حنا مينة، يمثل قارة روائية عربية مكتملة، تقف بشموخ جنبًا إلى جنب مع كل من قارتي نجيب محفوظ، والطيب صالح من حيث القيمة الأدبية الرفيعة والعمق الإنساني الكبير مع اختلاف الرؤى والبناء الروائي لكل واحد منهم عن الآخر، وتوجهاته الفكرية والجمالية. وليس هناك أدنى مبالغة في كونه أحد كبار الروائيين في العالم كله، إن لم يكن في الطبقة الأولى منهم. هذا على الرغم من أن رواياته لم تأخذ حظها الكبير من الترجمة إلى اللغات الكونية المعروفة وفي مقدمتها اللغة الإنجليزية، واللغة الفرنسية، واللغة الإسبانية، واللغة الألمانية، فضلاً عن اللغة السويدية، لغة أهل جائزة نوبل العالمية للآداب.
في رواياته العديدة سعى الروائي حنا مينة إلى تصوير شخصيات تتصف بالقوة والعزة والرغبة في فعل الخير، هي التي قد تكون في أمس الحاجة للمال، لكنها مع ذلك تترفّع عن استجداء الآخرين لمساعداتها. إنها شخصيات روائية واثقة بقدراتها ومصرّة على اجتياز كل العقبات التي تقف في طريقها بغية الوصول إلى تحقيق أهدافها المتوخاة. شخصيات روائية تنتمي إلى رجالات البحر وصيادي السمك وبائعيه، كما تنتمي إلى الفئات المهمشة في الحياة والمصرّة مع ذلك على النجاح فيها بكل ما أوتيت من عزيمة وإرادة. شخصيات روائية محبة للحياة ومليئة بالأمل، وهي من أجل ذلك تمنح للعوالم الروائية التخييلية فرصًا جميلة للتجلي الإنساني البهي.
لقد نجح هذا الروائي العربي الكبير في بناء عمارة روائية شاهقة، عبّر من خلالها بكل اقتدار وفنية عن كل أنواع الأهواء الإنسانية المختلفة ■