القصيبي العقل (السيامي): ظل المثقف ملتصقا بالسياسي فأنتج العبقرية!
القصيبي العقل (السيامي): ظل المثقف ملتصقا بالسياسي فأنتج العبقرية!
عندما تنبأ أمير الرياض الأمير سلمان بن عبد العزيز للدكتور القصيبي أن يكون وزيرا فقد كان هذا التنبؤ بمنزلة التجهيز والاستعداد لهذا الإداري الناجح لتولي الوزارة. وقد أثبت أنه بوزن ذلك التنبؤ وأنه قادر على أن يملأ كل مكان ذهب إليه، فالقصيبي أصبح المادة التي تملأ كل فراغ وضعت فيه. هذا ما حدث لوزير قضى أيامه كلها بين براثن البيروقراطية والبيروقراطيين، محاربا صلبا مستعدا بكل مستجدات العمل الإداري, بينما كان ينام على أرصفة الثقافة وشعرها ورواياتها، فهو من البشر القلائل الذين ولدوا بعقل سيامي ظلت السياسة فيه ملتصقة بالثقافة دون أن تموت إحداهما وهذه معجزة عقل الوزير والأديب الفذ. منذ ثلاثة عقود قضاها في مواقع حكومية كانت تتضاعف مهماته نحو الأصعب والتحدي في حياته الإدارية، وعندما مات القصيبي - رحمه الله - كان في أكثر الوزارات تعقيدا لارتباطها بالتنمية البشرية في المملكة وملفات التنمية البشرية التي ارتبطت بهذه الوزارة. لم يكن القصيبي إداريا بارعا وفذا في مجاله، بل كان محاربا وعلى كل الجبهات في مواقعه التي وصل إليها والقصيبي في إنقاذه للوزارات التي ترأسها والتطور الذي تركه في تلك الوزارات لم يكن مختلفا عن أبطال التاريخ ولا يمكن أن ينسب نجاحه إلى كونه إداريا فقط فهو إصلاحي ومبدع، ولذلك فإن القصيبي يشبه كثيرا في حروبه الإدارية (حنبعل) حاكم قرطاجة المشهور، والذي تميز بإبداعاته وخططه العسكرية، إلى جانب حب الناس له وهو صاحب المقولة المشهورة «سوف نجد حلا،أو سنصنع واحدا»، وهكذا كان القصيبي يصنع حلولا في كل موقع وطأته قدماه. لقد خاض القصيبي معارك كثيرة من أجل مشروعاته التنموية وكانت بعض تلك المعارك بحجم جبال الألب بارتفاعها وقسوتها خاصة أن معاركه الإدارية كانت في مواجهة تيارات بيروقراطية وقوى اقتصادية، بالإضافة إلى معارك فكرية خاضها في زمن استثنائي، فخلال الفترة التي أصدر فيها كتابه «حتى لا تكون فتنة» كانت التيارات الصحوية في السعودية في قمة أوجها ومع ذلك اختار هذه المعركة التي اكسبته احترام وحب المجتمع السعودي بل إن كثيرا ممن حاربوه في ذلك الزمان هم أول من كتب المرثيات لغازي بعد وفاته. قدم القصيبي مساهمة فردية في خطط التنمية في المملكة العربية السعودية التي عاصرها منذ انطلاق خطة التنمية الأولى في العام 1970م، وحتى الخطة التاسعة القائمة اليوم، المساهمة الأولي لهذا الوزير تمثلت في مشاركته الأساسية في دعم مشروعات البنية التحتية التي استمرت متزامنة مع خطط التنمية في المملكة ففي العام 1976 م كلف بوزارة الصناعة والكهرباء، ثم في العام 1982 م وزيرا للصحة، ثم في العام 2003م وزيرا المياه والكهرباء، ثم في العام 2005 وزيرا للعمل وكل هذه الوزارات لم يكن بينها وزارة إنتاجية كالزراعة أو البترول، بل كانت وزارات خدمية استهلاكية وهذا ما جعل مهمة هذا الوزير الأكثر صعوبة دون سواها. بدأ القصيبي في وزارة الصناعة والكهرباء وكان الظلام شديدا في ذلك الوقت فأسس لمنظومة تفخر بها المملكة إلى اليوم هذه المنظومة هي شبكة من الكهرباء وصلت إلى الجبال والقرى في شمال المملكة وجنوبها وشرقها وغربها، ولقد أضاءت الكهرباء ما حول القصيبي وتمكنت التنمية في المملكة من رؤية وزير مميز يقوم بالعمل بنفسه على غير عادة الوزراء فكانت هذه الإضاءة تمهيدا لانتقاله إلى وزارة الصحة التي كانت تعاني من تعثر تنموي في خططها. بدأ القصيبي وزيرا مرة أخرى في وزارة الصحة التي كانت تعاني من أزمات كبيرة لتوفير الخدمات الصحية لمواطني المملكة والتي قال عنها بنفسه إنها وزارة مسئولة عن الإنسان منذ ولادته وحتى وفاته، فكما يقول هو عنها إنها وزارة تمنحك ورقة الميلاد عندما تأتي إلى هذه الدنيا وبنفس الوقت هي تمنحك شهادة الوفاة عندما تغادر هذه الدنيا وبين هاتين الورقتين تظل هذه الوزارة مسئولة عن صحتك طوال عمرك، هكذا يصف القصيبي الوزارة التي اختبر فيها قدراته الإدارية فكان (التفتيش المفاجئ) أسلوبه الرائع الذي من خلاله ذاع صيت القصيبي وأصبح أسطورة المتابعة المستمرة ومادة الصحافة السعودية. يذكر لي أحد الزملاء أن صديقا له من العاملين في وزارة الصحة فوجئ بخطاب تهنئة من مقام الوزير القصيبي مهنئا لذلك الموظف الصغير على ترقية بسيطة وكان هذا الأسلوب لا يحدث أبدا، ففي تلك الأزمان لم تكن تلك الأساليب جزءا من الثقافة الإدارية ومازالت في كثير من المواقع، وظهرت الصحف السعودية مرحبة بهذا الرجل حتى كتب أحدهم في إحدى الصحف السعودية مقالا بعنوان (ليت في كل وزارة قصيبي) مما يعطى دلالة على قدوم وزير استثنائي يتم الترحيب به بهذه الطريقة المختلفة والتي زادت من أسهم هذا الوزير. تنامى المعارضون لهذا الوزير وتنامت الدسائس السياسية والاجتماعية فقد امتلأت الساحة وشاية ضده وخاصة من أصحاب المصالح الاقتصادية وأصحاب الاتجاهات الفكرية لأنه كان يعمل بخط جديد ومختلف ليس فيه محاباة لأحد، فدفع أول حصة من ثمن النجاح وترك وزارة الصحة مغادرا إلى البحرين سفيرا، ولكنه ترك أول لبنة من لبنات التنمية وقد أسسها بقوته الإدارية ومهاراته الفكرية فكل ما تشهده تلك الوزارة من نجاح اليوم لابد أن تجد فيها نظاما أو قانونا أو توجيها من زمن غازي. في سنواته الأخيرة قدر لغازي أن يختبر السياسي والمثقف اللذين اجتمعا في عقليته الفذة فكانت وزارة العمل حيث تنتظره ملفات كثيرة ولكن الأكثر تعقيدا فيها هو ملفات عمل المرأة السعودية والبطالة. عندما حاول القصيبي أن يتقدم خطوة نحو توظيف النساء في مجالات مختلفة تذكر الصحويين صراعهم مع هذا الوزير عندما كان سفيرا في لندن، وعادوا مرة أخرى إلى الواجهة في تحد كبير لمسيرة التنمية والإصلاح الذي رأته القيادة السعودية، وكان التحدي الأكبر أمام القصيبي هو كيفية المواجهة إداريا وفكريا، فكانت الأنظمة التي حاول فرضها على المجتمع نحو توظيف المرأة السعودية يتم الالتفاف عليها فكريا من جانب معارضيه، ولذلك كانت المهمة تتجه نحو التعقيد بشكل كبير، ومع ذلك لم يشعر المجتمع السعودي بأن جندي التنمية السعودية في مجالات الصحة والكهرباء والصناعة والماء والعمل قد استسلم أو لوح بذلك مع اعترافه الدائم بهزائم قاسية كان يتلقاها في مسيرته التنموية. رحل القصيبي عن هذه الدنيا الفانية وقد ترك وراءه إرثا من حب الناس وتقديرهم بمن فيهم أعداؤه الذين حاولوا الكثير من أجل إيقاف زحفه مرات ومرات، وعندما مات القصيبي لم يمت على سطح الأرض، كما مات الكثير من البشر، لقد مات القصيبي فوق قمة جبل لذلك رآه الناس جميعا وتأثروا لفقده، لقد كان هذا الجبل صخورا من إبداعه الثقافي والإداري متماسكا وشامخا بحب الناس جميعا.
|