غازي القصيبي: بطل المقاومة الكويتية

غازي القصيبي: بطل المقاومة الكويتية

أأُلامُ في حبيبك أم أنا أعـذر
وهواك ينهى من حشاي ويأمر
أكويت تسألني الحسان تعجبا!!
شغفتك حبا؟ قلت: هل أنا أنكر؟!

إذا كان «غازي القصيبي» قد أحب الكويت ـ فردا ـ فإن دولة الكويت حكومة وشعبا قد أحبته حبا أعمق، واعترفت بفضله، ومواقفه البطولية في نضاله ودفاعه عنها إبان محنتها القاسية فترة الغزو العراقي واحتلاله لها عام 1990، لهذا فإن الخطب جلل، والمصاب عظيم، والفاجعة موجعة أليمة بوفاته - يرحمه الله.

إن فقده قد تحول بدواخلنا إلى حزن عميق، وعين تدمع، وقلب ينزف، وأسى أبكم، وحيرة حيرى، ولسان أخرس، وقلم عاجز، ذلك أنه يرحمه الله قد جند كل طاقاته الإبداعية شعرا ونثرا مدافعا عن الحق الكويتي في كارثة غزو العراق له، حين عزت مواقف بعض المثقفين العرب، لقد وقف «غازي» موقفا صلبا بمقالاته التي سخر قلمه بكتابات متواصلة غير منقطعة في جريدة «الشرق الأوسط» عبر زاويته «في عين العاصفة» كان يرد فيها ادعاءات النظام العراقي، ويكشف أعوانه، ويفضح مؤيديه، كانت كلماته سلاحا بتارا شهره في وجه العدو، ودرعا حصينا حمى به الكويت وشعبها، كما كان شرسا في دفاعه عنها بالوسائل الإعلامية المرئية العربية والأجنبية، مدعما آراءه بالوسائل التاريخية، والجغرافية، والسياسية، مرتكزا في دفاعه على القوانين الدولية، والمواثيق، والمعاهدات، التي لايرقى إليها الشك.

أما شعره فكان جبهة نضالية قوية دعمت جبهاته الأخرى في كفاحه ومقاومته للعدو الغازي.

كان شعره سفرا تاريخيا رصد الاحتلال العراقي منذ دخوله مسجلا كارثة الغزو لحظة بلحظة:

- عدوت على الكويت فيا لذئب
على إخوانه والأهل يعدو

وقد حدد لحظة غدره بالكويت في ليلة ظلماء وأهلها نيام:

- في ظلام الليل تغزو بلدا
كان في الجلى لك الحصن الحصين
- قذى تكريت تلعنك الصبايا
باغثتهـن في الظلماء وغـد

وبين أن قوى المعركة غير متكافئة بين الدولتين:

يا أخا المليون جنديا أما
يستحي المليون من ذبح مئين

ولأن تجارب القصيبي الذاتية تفر دائما من دائرتها الفردية لتقبع في دوائر إنسانية عامة، ومواقف يتجاوز فيها الشاعر حدود (الأنا) الضيقة لتتحول إلى أنا عامة، أو ليقابل بها الآخر في جدليات ثلاث هي: الزمان، والمكان، والإنسان.في ثنائيات منسجمة ملتحمة فذات الشاعر (الأنا) اتسعت لتشمل جميع ذوات الكويتيين وتوحد معهم فأنشد بلسانهم:

- عجبا! كيف اتخذناك صديقا؟
وحسبناك أخا برا شقيقا؟
وأخذناك إلى أضلاعنـا
وسقيناك من الحب رحيقا
واقتسمنا كسرة الخبز معا
وكتبنا بالدما عهدا وثيقا
- أنا الكويت التي جادت بمهجتها
وهي الصغيرة لم تدبر من الوجل

ولم تكن الآنا عند «غازي القصيبي» الكويت فحسب بل الخليج العربي كله وبالضرورة الحتمية كانت الرياض أولا وأخيرا:

أنا الرياض التي أعطتك ناظرها
ياللعطاء وماضنت ولم تسل
أنا الخليج الذي أهداك أضلعه
وقال نصرك يابغداد أواجلي

وهذا التوحد الكلي الذي تكون في (أنا) القصيبي قابلها الغضب الذي أصابه من جراء فعل النظام العراقي الغادر في ثنائية متناقضة في (الأنا):

سيفنا كنت؟ تأمل سيفنا
كيف أهدي قلبنا الجرح العميقا
درعنا كنت؟ وهذا درعنا
حربة في ظهرنا شبت حريقا
جيشنا كنت؟ أجب ياجيشنا
كيف ضيعت إلى القدس الطريقا؟

وتجلى التضاد عند «غازي القصيبي» أكثر في صورة مدينة بغداد، إذ أن القديمة، بغداد الرشيد تتبرأ من بغداد صدام الحديثة، فالأولى تخجل من فعل رأس نظام الثانية، ويتوحد غازي مع «بغداد» الأولى فيقول:

سترت وجهي يابغداد من خجلي
وصحت قل يافمي شعرا فلم يقل
فأعول الشعر يابغداد في قلمي
وأنشد الدمع يابغداد في مقلي

وعبر عن دهشته وصدمته لما يحدث بقوله:

بغداد! ويحك! مابال الرشيد غدا
لصا جحافله من قاطعي السبيل؟؟

وينقلنا الشاعر بين عصور بغداد وأزمنتها المختلفة وأعلامها البارزين، فيحدثنا عن بغداد «المنصور»، و«المعتصم»، و«سعد» وبطولات «القادسية» وبغداد الشعر «النواسي» والكرم «الطائي» والورع والتقوى والدين «ابن حنبل» ومن مدينة جيكور وشاعرها «السياب» ينقلنا إلى بغداد المعاصرة وهو من خلال ذلك كله يستنهض التاريخ العربي ويستنكر ما حدث من صدام حسين آملا!: «أن يرد بغداده عن موقع الزلل».

ولأن رأس النظام العراقي حاول أن يشوه بفعلته وجه بغداد التاريخي وعراقتها وعروبتها وقال:

أهذه أنت يا بغداد أم سقطت
بغداد في أسر هولاكو ولم تزل؟
سترت وجهي يابغداد فاستتري
عن العروبة عن تاريخك الجلل

ويعود الشاعر ليبرى بغداد المدينة من فعل مجرمها:

ماكنت يابغداد أنت من اعتدى
في هدأة الليل البهيم ومن جنا
ماكنت من سرق الصغيرة نومها
ماكنت من سلب الصغير المسكنا
قولي له إن أنت خنت فلم أخن
أو كنت أنت غدرت لم أغدر أنا

لتبقى (بغداد) العز والعروبة كما كانت:

أكبرت جبهتك الأبية ملـعبا
للعز تحسده النجوم مـوطنا
وعشقت سيفك بالعروبة لامعا
وعشقت رمحك بالعروبة مؤمنا
صبي على الوثن الذليل من اللظى
ما يمسح الوثن الذليل من الدنى
ويعيد بغداد العروبـة حـرة
عربية تزهو بها تزهو بنا

ولهذا كان من الضروري أن يتمنى الشاعر «غازي القصيبي» موت زعيم بغداد «صدام حسين» لأنه شوه صورتها بفعلته الشنيعة في غزو الكويت، وأكد ذلك في قصيدة أسمى الديوان باسمها (مرثية فارس سابق)، فقد مات صدام حسين موتا معنويا عند غازي القصيبي قبل موته ماديا فقال:

رحمة الله عليه! إنه مات
هل عاش الذي خان الرفيقا؟!

وكان من الطبيعي نتيجة لما تقدم أن تتقابل اللغة عند الشاعر من لغة مديح له إلى لغة هجاء فيه، كما انقلبت صورة الزعيم البطل الفارس المقدام إلى صورة المنهزم المترجل من البطولة والزعامة العربية:

قذى تكريت! تلعنك البرايا
أيلعن كل هذا اللعن فرد؟!
دم العربي فوق يديك خزي
وان صب الفرات عليه يبدو
تجهمت العروبة واشمأزت
وضج نزار وانتفضت معد
- أرأيت يابغداد لصك فاجرا
متسربلا بالخزي مكتمل الخنى

وعلى الرغم من غضب الشاعر وسخطه يبقى الحب لبغداد المدينة العربية، بغداد العز والحضارة، فترق لغة الشاعر وتتحول من الغضب إلى العتاب:

بغداد جئتك عاتبا لا غاضبا
ولثمت وجهك طائعا لا مذعنا
أكبرت جبهتك الأبية ملعبا
للعز تحسده النجوم وموطنا

ثم تتحول لغة الشاعر إلى لغة غزل فيها:

- ألست تذكر قمراء بدجلتها
تطارح النهر مايرضاه من قبل
أين القصائد غراء مجنحة
عن الظبا والظبي واليأس والأمل
- وعشقت سيفك بالعروبة لامعا
وعشقت رمحك بالعروبة مؤمنا

وقد تنبأ الشاعر بسقوط صدام وهزيمته:

- قولي له بغداد «يومك قد دنا»!
ما أروع الثأر النبيل إذ دنا

كما تنبأ بتحرير الكويت من احتلال صدام العراق لها، ففي إهداء ديوانه «مرثية فارس سابق ما نصه: «الإهداء إلى الغالية العائدة الكويت»

كانت نبوأته قوية أسلمته إلى القسم بعودة الكويت:

أقسمت ياكويت
برب هذا البيت
سترجعين من خنادق الظلام
لؤلؤة رائعة
كروعة السلام

وكان التكرار في (أقسمت ياكويت برب هذا البيت) تأكيدًا من الشاعر لنا في عمق إحساسه بعودتها، لينقله إلينا ليشع الأمل بدواخلنا في عودتها إلى أهلها، وتحريرها من براثن الاحتلال من العراقي:

أقسمت ياكويت! برب هذا البيت
سترجعين من بنادق الغزاة
أغنية رائعة كروعة الحياة
أقسمت ياكويت! برب هذا البيت
سترجعين من جحافل التتار
حمامة رائعة كروعة النهار

وتصدق النبوءة، وتختلط لغة فرحة الشاعر بتحرير الكويت مع حزنه وأساه على شهداء وشهيدات وأسرى الكويت، وتتلون مظاهر الطبيعة في شعره تبعا لذلك، مجسدة مشاعر عدة مختلفة:

ويدوي نداء التحرير
ويعود الفجر مسلحا بألف فراشه
وتنبت في الرمال نخلة حمراء
طالعة من دم الشهداء والشهيدات
ويرتفع الأذان..

ويشير الشاعر إلى ما أصاب الكويت من حرق لها، ولآبارها النفطية وما غطى سماءها من أدخنة كثيفة فيقول:

وهاهو ذا الآن وجهك يبرق عبر الدخان

وظل غازي يغني للكويت ولعودتها إلى أن تحققت هذه العودة بفضل الله ورعايته، والأبطال المخلصين الذين قاوموا الاحتلال من أجل عودتها، وكان من أحدهم وأبرزهم بطولة ومقاومة «غازي القصيبي»، الذي لم يكل، ولم يهدأ له بال، ولم يجف قلمه، إلى أن غنى «أغنية العودة» فأنشد يقول:

يقولون غبت ولاترجعين
وأقسمت لحظتها ترجعين
تعودين مابقيت كلمتان
وماسكنت قلبي لحظتان

وصدقت نبوءة الشاعر، وكسب رهان نصر الكويت وتحريرها بعد كفاح بطولي ومقاومة عنيفة منه شرسه من أجل الكويت، ويشهدنا الشاعر بقصيدته على ذلك:

إذن فاشهدي كنت أحمل شعري
سلاحا وأبرز لأفعوان
إذن فاشهدي قد كسبت الرهان

وحب غازي القصيبي للكويت لايماثله حب، ولايضاهيه، ولايدانيه أحد، حب خالص، نقي ينم عن صفاء عشق دفين، ثابت، لم يتغير، ولم يتبدل، ولم يتلون، عانى من ثبات هذا الحب ماعانى، وصارع الأعداء الحاقدين الشامتين بالكويت بسببه:

إذن فاشهدي أنني لم أخنك مع الخائنين
ولم أتبرأ من العشق حين
إذن فاشهدي كنت في الشمس أجري
ولم أتبع الظل كالخائفين
ومابيننا كان جيش يموج من الشامتين
يقولون غبتي ولا ترجعين
وأقسمت لحظتها ترجعين

ويتحول حب الكويت في قلب الشاعر «غازي القصيبي» إلى حب سرمدي، كالنهر يجري، متشعبا يروي:

أحبك حتى تشيب النوارس
وهي تطارد أفق الأمان
أحبك حتى تمل الصواري
ظهور السفين
حب ثابت كالمستحيل
وحتى تجف دموع الغيوم
وحتى تغيب شموع النجوم
أحبك ما اعتنقت نخلتان
وماخفقت في الصبا خيمتان
وما ارتعشت أضلع الليل وهي
تردد أغنية العائدين
أحبك مادام هذا الخليج
بهذا المكان

ويتحول هذا الحب كله إلى مكان، وإلى حالة شعورية صعبة، فالمعشوقة هي «الكويت»، والعاشق هو » غازي القصيبي»، ومكان العشق «قلب غازي »، ويقابل هذا الحب، حب آخر، فالمعشوق هو «غازي»، والعشاق له هم «أهل الكويت»، وأمكنة العشق قلوب أهلها، والزمان، سرمدي كهذا الحب السرمدي الذي هو: الماضي، والحاضر، والمستقبل، فغازي القصيبي كان وسيبقى في قلوب أهل الكويت لن ننساه، ولن ننسى جهاده ودفاعه عن الكويت، بطلا من أبطال مقاومتها، تقابل وتوحد مع أبناء الكويت في البطولة، والمقاومة، وفي حب الكويت وعشقها.

لقد خسرنا بموته رمزا من رموز الثقافة العربية، ورائدا من رواد تنويرها، قل أن يجود الزمان بمثله مرة أخرى، فقدنا المفكر العربي، والأديب المثقف، والشاعر المبدع، والروائي، والسياسي المحنك، والدكتور الأكاديمي «غازي عبد الرحمن القصيبي».

ولاتملك العين إلا أن تدمع.
والقلب أن يحزن.
ولا نملك إلا أن نقول: إنا لفراقك لمحزونون.
وعلى الحب والوفاء لك نحن باقون.

نعزي أهله وذويه، والمملكة العربية السعودية بأسرها..... ومحبيه في شتى بقاع العالم.

ونعزي نحن في الكويت - أنفسنا وبعضنا فعزيزعلينا فقده، وأصعب منه موته،

له الدعاء بالرحمة والمغفرة، وجنات الخلد، ولأهله، ولنا، وللجميع، حسن العزاء والصبر على المصاب الأليم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

 

 

 

نورية الرومي