المثقفون وثورة يوليو

عندما يتحدث الحجر.. العلاقة الفكرية بين السياسة والعمارة

هل يتحدث الحجر أم أنه أصم لا يتكلم ؟ لاشك أن مكتشفات العلم الحديث جعلت عالم الأحجار عالما من المكونات الدقيقة المركبة المتنوعة، لكن في عالم العمارة درجنا على أن ننظر إلى الحجر على أنه جماد تم تشكيله بشكل وظيفي وجمالي ليخدم منشأ معماريًا أو ليقدم تحفة فنية، لكننا هنا سنحاول إقامة حوار مع الحجر، سنجعله يتحدث لنا بلغة تعبر عن تفسيره لعلاقته مع السلطة ومدى انعكاس السلطة على تشكيله، إننا سنكتشف إنه سجل حافل للعلاقة بين قوة السلطة وصولجانها، وبين العصر ومقتضياته ومعطياته السياسية والفكرية والثقافية والاجتماعية، ولأن أفضل الأمثلة للتدليل على ما نذهب إليه في هذا الشأن، فسوف تكون العمارة الإسلامية هي الساحة التي سنجري عبرها هذا الحوار مع الحجر.

- بسؤال الحجر ما هي طبيعة علاقتك بالسلطة وكيف تعبر عنها؟ أجاب الحجر إجابة شافية مطولة علينا، فذكر أن هذه العلاقة تتكون من ثلاثة مستويات، تتدرج من البساطة إلى العمق وهي كما يلي:

- المستوى الأول: العمارة كشاهد سياسي، وهو يمثل أبسط نماذج هذه العلاقة، في هذا المستوى تكون العمارة سجلاً للعديد من الأحداث السياسية التي مرت عليها، أو حدثت في المنشأ المعماري، أو تركت أثرها عليها، ومن أمثلة ذلك باب زويلة أحد أبواب القاهرة التاريخية الذي شيد في العصر الفاطمي. ليكون أحد أبواب حصن القاهرة مقر حكم الفاطميين بالعاصمة المصرية، وكان ذا وظيفة حربية، إذ إنه كان يغلق على الحصن الذي كان يضم قصور الفاطميين ومسجدهم الجامع وجندهم ومواليهم.

ولكن منذ عام 658 هـ / 1259 م، حين وسط المظفر قطز أحد سلاطين المماليك أحد رسل التتار بظاهر باب زويلة، ثم علق رءوس رسل التتار الأربعة على باب زويلة.اكتسب الباب منذ ذلك الوقت وظيفة سلطوية سياسية خاصة مع تلاشي دوره الحربي، وتوالت حوادث الإعدام عليه، منذ ذلك الحين حتى القرن التاسع عشر الميلادي، وأعدم السلطان المملوكي طومان باى آخر سلاطين المماليك على هذا الباب. وكان هذا الإعدام رمزًا لبداية عصر العثمانيين في مصر ونهاية عصر المماليك. وفي العصر العثماني وعصر محمد علي توالت عمليات تنفيذ حكم الإعدام على هذا الباب حتى عصر الخديو إسماعيل. كان لجلوس متولي الحسبة بالقاهرة عند هذا الباب أثره في تغير اسمه لدى العامة إلى باب المتولي. وبمرور الوقت نسي الناس السبب الحقيقي لهذه التسمية، وتصوروا أن المقصود بالمتولي أحد الأولياء الصالحين، ومن ثم ظل هذا الباب يتقرب إليه بعض العامة بربط الخرق بمساميره.

كما يسعى السلاطين بإثبات انتصاراتهم على عمائرهم بصورة أو بأخرى، لتكون شاهدا على هذه الانتصارات، ومن ذلك تعليق خوذة ملك قبرص على باب مدرسة السلطان الأشرف برسباي بالقاهرة، والتي انتهى من تشييدها عام 829 هـ/ 1425م، وهي السنة التي فتحت فيها قبرص، وظلت هذه الخوذة باقية حتى القرن 11هـ /17م.

- المستوى الثاني: الرمزية السياسية للعمارة، وهو يمثل أحد جانبي البنية العميقة. في هذا المستوى تجسد العمارة قوة الدولة وتوجهاتها السياسية. ومثل هذا النوع من العمائر شاع في العمارة الإسلامية. تتمثل هذه الرمزية في عدد من المدلولات المعمارية، يحمل بعضها مضمونًا حضاريًا وبعضها الآخر مضمونّا سلطويّا سياسيّا، ويجمع بينهما أحيانا بعض العمائر ذات الدلالات المتعددة. تعد قبة الصخرة والحرم القدسي الشريف حولها أبرز العمائر التي تحمل مضامين حضارية. يعود تشييد القبة إلى العصر الأموي، الذي شهد نزاعًا حضاريًا بين الدولة الأموية والدولة البيزنطية على السيطرة على العالم القديم. واتخذ هذا النزاع صورا متعددة. منها تعريب طراز أوراق البردي التي كانت تصنع في مصر. وتعريب للنقود في إطار سياسة رسمها عبد الملك بن مروان الهدف منها إرضاء الشعور الديني والسياسي للمسلمين. فضلا عن أن النقد العربي الخالص يعبر عن سيادة الدولة وخروجها من تحت عباءة النفوذ الاقتصادي البيزنطي، لذا اتجه عبد الملك إلى الاستقلال الاقتصادي.

العمارة وسيادة الدولة

اتجه عبد الملك بن مروان في إطار هذا المخطط الشامل إلى العمارة التي ترمز إلى سيادة الدولة واتجاهها الفكري، ففي القدس تبنى مشروعًا ذا طابع سياسي ديني حضاري، يرتكز على الاهتمام بعمارة الحرم القدسي الشريف خاصة قبة الصخرة والمسجد الأقصى، لارتباط هذا الحرم بالعقيدة الإسلامية فهو أول القبلتين، وفيه صلى الرسول (صلى الله عليه وسلم) بالأنبياء واليه كان إسراؤه ومنه كان معراجه. ولما كانت عمارة الحرم آنذاك بسيطة لا تتناسب مع ما حولها من كنائس، خاصة كنيسة القيامة المقدسة لدى المسيحيين، ومع ما قد تحدثه عمارة الكنائس في نفوس بعض المسلمين، ورغبة عبد الملك في إثبات الهوية الحضارية الجديدة للمدينة، تبنى مشروع عمارة قبة الصخرة والمسجد الأقصى.

ويلفت الانتباه من هذا المشروع قبة الصخرة، وإبراز آثار الحرم، فهي تعد أول عمل معماري واع لعظمته بل متباه بها، انتهى من بنائها عام 72 هـ / 692 م. وهي تُرى من مسافات بعيدة، وهي مبنية فوق صخرة مقدسة، حولها ممران يدوران حولها بمسقط مثمن، شامخة في الهواء في مركز الحرم القدسي على تل من تلال القدس. وهذه القبة ذات التصميم الهندسي الذي يصل لحد الكمال والروعة كانت مزخرفة بالفسيفساء على كل سطوحها داخلاً وخارجًا، وكانت ومازالت تبهر الرائين، حتى أن كثيرًا منهم لم يملكوا أنفسهم من إضفاء كل صفات البريق واللمعان عليها، مهملين في الوقت نفسه، مع الأسف، أن يخبرونا ماذا كانت تمثل تلك اللوحات الفسيفسائية؟، ولا نستطيع أن نحكم على موضوعات فسيفساء القبة حكما كليا؛ لأن جزءا كبيرا من الفسيفساء الأموية فُقد، ولكننا نملك بعض الشواهد على هذه الموضوعات من فسيفساء الرواق المثمن الداخلي، يمكن عند ربطها بدقة عمارة القبة الانتهاء إلى الرمزية السياسية لها.

مخطط القبة ليس غريبًا بالدرجة التي يبدو بها اليوم. يرى بعض المستشرقين وعلماء الآثار العرب أن تخطيط قبة الصخرة ذو أصل روماني يعرف بمخطط ضريح الشهيد، وهو عبارة الطواف حوله، وظيفته إذن طقوسية طوافية. وهو لهذا السبب استعمل في الفترة المسيحية المبكرة في بلاد الشام، وفي مجمل الأراضي البيزنطية، في عمارة العديد من الكاتدرائيات المهمة، ككاتدرائية بصري في حوران التي لاتزال بقاياها قائمة إلى اليوم، وكنيسة القيامة في القدس نفسها، وهما الاثنتان تعودان إلى فترة الحكم البيزنطي في عهد جوستينيان (حكم 527 - 565 م). ولكن قبة الصخرة أكثر هذه المخططات توازنًا هندسيّا، وهي من دون أي شك قد قصد بها التمايز والتنافس مع قبة قبر المسيح في كنيسة القيامة التي تطل عليها من أعلى جبل مورياه.

ويرى د. فريد شافعي أن تخطيط قبة الصخرة لا يطابق أي تخطيط لنماذج العمائر البيزنطية في منطقة بلاد الشام أو في غيرها. بل هو تحوير واقتباس منها ليتفق مع الغرض الذي شيد من أجله البناء وهو أن يحيط بالصخرة، وهي البقعة المباركة التي عرج منها محمد (صلى الله عليه وسلم) إلى السماء حين أسرى به ربه من مكة المكرمة إليها،لذا فقد روعي في التخطيط أن يوفر غرض تعيين تلك البقعة، ثم غرض الطواف حولها للتبرك بها. وهو أمر يختلف تمامًا عن الذي شيدت من أجله تلك العمائر الدينية البيزنطية ذات التخطيطات المشابهة التي عادة ما توجه نحو الحنية. ولا تتعدد فيها المداخل كما تعددت في قبة الصخرة، ومهما يكن من أمر، فان تخطيطات تلك العمائر الدينية البيزنطية ليست ابتكارات بيزنطية أو سورية، بل كانت في الأصل تخطيطات رومانية دينية سابقة، أخذت بدورها من أصول إغريقية.

رسالة العمارة

إننا هنا أمام تساؤلات عديدة تطرح نفسها عن هذا المبنى ورمزيته، إن التوجهات السياسية والإعلامية والعقيدة تبرز في الآيات القرآنية المختارة بدقة، وفي تركيز وضع صور تيجان الملوك في الرواق حول القبة وبمواجهتها فالنص القرآني يحتوي على كل الآيات التي تتكلم عن المسيح في موقعه الإسلامي المختار كنبي مرسل. والتيجان تبدو أشبه ما يكون بالتيجان الحقيقية للملوك المغلوبين، التي كان أباطرة الرومان والبيزنطيين يضعونها في معابدهم وكنائسهم كعلامات نصر ورمز إيمان بأفضلية معتقدهم. وبالتالي يمكن هنا أن ننظر إلى هذين العنصرين الزخرفيين على أنهما بالنسبة لبناة قبة الصخرة وسيلتا دعاية لدينهم ولدولتهم المنتصرين، خاصة إذا تذكرنا أن قبة الصخرة قد بنيت في القدس التي كان أغلب سكانها المسيحيين ما زالوا يدينون بالولاء لإمبراطور القسطنطينية البيزنطي، في وقت كانت الدولة الأموية فيه في خضم صراع مرير مع البيزنطيين في شمال بلاد الشام.

فالقبة مبنى معماري ذو رمزية سياسية ينبئ في القدس عن رغبة الدولة الأموية في بث حضارة جديدة تعبر عن أتباع الدولة المقيمين في المدينة، ويوجه رسالة إلى الآخرين عن مدى قوة الدولة ومضمون رسالتها. وظلت قبة الصخرة بلونها الذهبي، رمزًا لمدينة القدس، يعلوها الهلال الذي يوازي اتجاه القبلة. وعندما استولى الصليبيون على القدس نزعوا الهلال من فوق قبة الصخرة، وأقاموا مكانه صليبًا من الذهب. وعندما استرجع صلاح الدين القدس مرة أخرى سنة 583 هـ / 1187 م. تسلق بعض المسلمين القبة واقتلعوا الصليب، وأعادوا الهلال إلى مكانه. هكذا شكل الموقع الذي شيدت عليه قبة الصخرة جانبا من الرمزية السياسية.

- المستوى الثالث: يتمثل في العلاقة الفكرية بين السياسة والعمارة. هذه العلاقة هي التي تحكم طبيعة العمارة وموضوعاتها وحركيتها وتخطيطها. وهي تنبع من التوجه السياسي للسلطة، هذا التوجه يكون أيديولوجيا، ينعكس على العمارة في صور متعددة، وهو لا يحدث دفعة واحدة، بل يطل على العمارة القائمة على مراحل حتى يكسبها عند التحول من نمط إلى نمط بتغير السلطة شخصية جديدة، تعرف عند الأثريين والمعماريين بالطراز المعماري.

السلطة والمدينة

تنشأ السلطة السياسية عادة من حاجة البشر إلى التجمع، فالإنسان مدني بطبعه أي لابد له من الاجتماع الذي هو المدنية، وهي في اصطلاح ابن خلدون تعني العمران. فسر ابن الأزرق، ما ذكره ابن خلدون في هذا الشأن بقوله إن «الإنسان مدني بالطبع أي لابد له من الاجتماع الذي هو المدنية عندهم - الفلاسفة - ليحفظ به وجوده وبقاء نوعه إذ لا يمكنه انفراده بتحصيل أسباب معاشه». وتحدث ابن تيميه عن الاجتماع المدني، وقال «إن بني آدم لا تتم مصلحتهم في الدنيا ولا في الآخرة إلا بالاجتماع والتعاون، التعاون على جلب منافعهم والتناحر لدفع مضارهم». وينهي كلامه بقوله: «ولهذا يقال إن الإنسان مدني».

مما سبق نرى أن الاجتماع الإنساني فطرة مجبول عليها الإنسان للحصول على منافعه في الدنيا بدأت بالعجز الفطري والذي دفع إلى الخضوع للخالق، ومن ثم البحث عن الرزق، ثم التعاون لسد حاجات البعض للبعض، لتنتهي إلى اتخاذ المدن، وهي الصورة الإنسانية للاستقرار المؤقت الذي يدوم بدوام الحياة.

هذا ما عبر عنه القزوينى عند حديثه عن ضرورة المدن بقوله: «إنه عند حصول الهيئة الاجتماعية لو اجتمعوا - يقصد البشر - في صحراء لتأذوا بالحر والبرد والريح، ولو تستروا بالخيام والخرقات لم يأمنوا مكر اللصوص والعدو، ولو اقتصروا على الحيطان والأبواب كما ترى في القرى التي لا سور لها، لم يأمنوا صولة ذي البأس، فألهمهم الله تعالى اتخاذ السور والخندق و الفصيل، فحدثت الأمصار والمدن والقرى، لما أرادوا بناء المدن، أخذوا آراء الحكماء في ذلك، فالحكماء اختاروا أفضل ناحية في البلاد، وأفضل مكان من السواحل والجبال ومهب الشمال؛ لأنها تفيد صحة أبدان أهلها وحسن أمزجتها، واحترزوا من الآجام والجزائر وأعماق الأرض، فإنها تورث كربًا وهرمًا.

واتخذوا للمدن سورًا حصينًا، وللسور أبوابًا عدة حتى لا يتزاحم الناس بالدخول والخروج، بل يدخل ويخرج من أقرب باب إليه. واتخذوا لها قهندزا لمكان ملك المدينة والنادي لاجتماع الناس فيه، وفي البلاد الإسلامية المساجد والجوامع والأسواق والخانات والحمامات، ومراكض الخيل، ومعاطن الإبل، ومرابض الغنم، وتركوا بقية مساكنها لدور السكان.

وحديث القزويني يحمل العديد من الدلالات المعمارية والتي تتعلق بتكوين ارتباط العمارة بالسلطة، فعندما تكون الهيئة الاجتماعية تتشكل المدن، التي تحتاج إلى سور يوفر لها الأمن، وأشار إلى القيمة الحضارية لحياة المدينة وما تتميز به عن غيرها، وتميز المدن عن بعضها. وفي هذا إدراك مبكر للفروق بين المدن سواء كانت طبيعية أو ناشئة عن أنشطة ساكنيها. ويظهر من كلام القزوينى تأثره بنمط مقر الحكم في مدن أواسط آسيا، حيث إنه ولد بقزوين وطاف بهذه المنطقة وبلاد فارس والعراق (ويطلق على مقر الحكم هناك القهندز)، وهو عبارة عن قلعة داخل المدينة قد تكون على تبة جبلية منفصلة، أو سور يحيط بقصر الحكم والدواوين يتوسط المدينة، بينما يحيط بالمدينة ككل سور كبير، وأشهر الأمثلة على ذلك في مدينتي بخارى وسمرقند. وفرق القزوينى بين المدن الإسلامية وغير الإسلامية من حيث التكوين الداخلي.

المدينة في الفكر الفلسفي

وهذا يعني أن هناك ترابطًا تلازميّا بين المدينة والعمارة والسلطة الحاكمة، وهي مكونات تتكامل مع بعضها، وتؤثر في بعضها، وربط بناء المدن بالتطور الحضاري للإنسانية، وبوجود ملوك عليها يتولون بناءها. أو حكام لها يقومون عليها، فيبنون الأسوار والمرافق العامة. وفي ضوء هذه العلاقة نستطيع أن نرى الصيغة التي تربط بين مكوناتها، هذه الصيغة عادة لا تكون مرئية بصورة مباشرة؛ لأنها الفكر الذي يشكل المجتمع. نرى هذا منذ وقت مبكر في تاريخ الإنسانية، حيث ارتبط اصطلاح السياسة Polis بمعنى المدينة ونسب إلى الاصطلاح الإغريقي Politiea بمعنى اجتماع المواطنين وممارستهم شئون الحكم والسلطة في إطار دولة المدينة وهذا ما كان يتم في أثينا حيث نشأ الاصطلاح، كان ينقص أثينا الكثير من مظاهر الراحة المادية، مقارنة بكبريات المدن، فقد كانت مدينة للمزارعين الذين يتوجهون إلى أراضيهم للعناية بها، تناولت أثينا السلطة، بطريقة مثالية، فكان يتم اختيار ممارسي السلطة بالقرعة من بين الذكور، وعندما كانت تنشأ الحاجة الماسة إلى محترفين لإدارة شأن من شئون المدينة، كان المختارون بالقرعة يعينون مجالس من المحترفين لإدارة الأمور الفنية كالإدارة المالية أو بناء أحواض السفن. وتتخذ القرارات المصيرية بالنسبة لمدينة على يد مجلس الجماهير الذي يضم كل من له حق التصويت بالمدينة. وقامت إلى جانب ذلك منشآت معمارية أثرت الحياة والمشاركة الحياتية لأهل أثينا، مثل الأكروبول الذي يشرف على المدينة. وفي مهرجان الباناثينيا Panathenea كان يتجمع الأثينيون لتقديم الهدايا للربة أثينا.

ولقد كان المسرح الأثيني، وهو شبه دائرة هائلة من الدرجات التي نحتت في جبل منحدر. متنفسًا للمشاركة بالمدينة. إذ شهد عروضا مسرحية تعكس طبيعة هذا المجتمع إذ كان المشاهد والممثل يتبادلان الأدوار. وكان هذا مما يعمق الوعي الخاص والتعبير الحر. لعب المسرح في أثينا دورا سياسيا مهمّا، حيث عكس واقع المجتمع وعمَّق من المشاركة الاجتماعية لأهل المدينة. وبرز هذا الدور أثناء الغزو الإسبرطي لأثينا حين قدم أريستوفانس مسرحية أهل أرخانيا The archarnians التي قام بطلها بعقد سلام خاص مع العدو.

تمثل أرسطو مدينته الفاضلة من خلال حياة أهل أثينا التي جمعت بين العمل والمشاركة الشعبية التي تتطلب وقت فراغ بقوله: «إن المدينة يجب أن تكون على نحو يمكن سكانها من العيش مع الاستمتاع بوقت الفراغ باعتدال وحرية».

كان أرسطو أقل انبهارًا من أفلاطون بالأشكال المثالية، وأشد اهتمامًا بالمسار والهدف والنمو والإمكان بالنسبة للمدينة، وهو ما أعطى رؤيته درجة من الحيوية.

الإسكندريات

كان من المتوقع أن يتأثر الإسكندر الأكبر أشهر تلاميذ أرسطو بأستاذه، حين شيد سبعين مدينة أطلق على معظمها اسم الإسكندرية، كتب الشهرة منها للإسكندرية المصرية، التي شيدها الإسكندر لتكون عاصمة للحضارة الهلينية في مصر. اتبع الإسكندر في تخطيط هذه المدن صورة أقرب لمدينة أفلاطون. كان أرسطو في دراسته للمدينة الفاضلة، أشد تقديرًا للتنوع والتعدد والاحتياجات المحلية الخاصة من أستاذه أفلاطون. إن مدينة أفلاطون المثالية هي بمنزلة المطلق الهندسي، قوامها 5040 مواطنًا و5040 قطعة أرض، وثلاث طبقات من الناس تتعلم وتعيش منفصلة، والمدينة مقسمة إلى اثني عشر قسما ينفرد كل منها بإله ومعبده. ويمتد كل بيت منها كالسور (وتتخذ المدينة هيئة المسكن الواحد) كل ما فيها - باختصار منتظم وموحد. نشأت هذه الرؤية الأفلاطونية من إعجابه بالانضباط والتنظيم العسكري الإسبرطى. ولعلها الجذر الذي اشتقت منه فكرة النظام التي خضعت لها الدولة ومن ثم المدينة في الفكر الأوربي المعاصر. وتركت آثارها بصورة واضحة على المدينة الغربية.

- صمم الإسكندر مدينته الإسكندرية المصرية، بعد أن ربط بينها وبين الجزيرة التي تتقدمها على شاطئ البحر بلسان، فشق الطرق العريضة بها على شكل مستطيل متشابك، تمتد الطرق الطويلة منها شرقًا وغربًا بحذاء اللسان. أما الطرق القصيرة فتمتد شمالاً وجنوباً من البحر إلى البحيرة. ويصل اتساع الشوارع ما بين 18 و19 قدمًا، أما الشارع الرئيسي الممتد شرقًا وغربًا، وهو شارع كانوبيس، فلعله كان يصل في اتساعه إلى مائة قدم، - وهكذا نجد أن كل شيء صمم لضمان الحركة المنسابة المباشرة. لقد كان الهدف أن تكون الإسكندرية مثلاً يحتذى في الفاعلية والبساطة الواضحة. فكانت الإسكندرية المثل الأعلى لحاكم سيطر على العالم، ويريد أن يظهر اتساع سلطاته وانتظامه، وأنموذجًا لقائد أجنبي يخشى التهديد المحتمل من جانب أحياء وطنية تحميها شوارع ضيقة ملتفة.

لقد عكست الإسكندرية رغبة السلطة في السيطرة عليها، بل وزرعت الإبهار والرهبة في نفوس زائريها، ومثل ذلك نص ذكره الروائي اليوناني «أخيل تاتيوس Achhilles Tatius» الذي زار المدينة في أوج ازدهارها، حيث قال «بلغنا الإسكندرية بعد رحلة استغرقت ثلاثة أيام، ودخلتها من بوابة يقال بوابة الشمس وبهرني على التو جمال المدينة الأخاذ الذي ملأ عيني بالبهجة. فقد كان هناك صفان متوازيان من الأعمدة يمتدان في خط مستقيم، من بوابة الشمس إلى بوابة القمر (وهما المعبودان اللذان يقومان على حراسة المدخل) وقرب منتصفها يقع الجزء المكشوف من البلدة، ويتفرع منه عدد من الشوارع يبلغ من الكثرة حدّا يجعلك تتخيل، حينما تمر بها، أنك في بلاد أخرى، مع أنك مازلت فيها. ولما تقدمت قليلاً، وجدتني في الحي الذي أطلق عليه اسم الإسكندر (يقصد الحي الإغريقي ) وقد قسمت هذه المدينة الرائعة إلى مربعات صف من الأعمدة يقطعه صف آخر مساو له في الطول بزاوية قائمه... وقد جلت في شوارعها فلم يشبع مني النظر أيضًا. لقد راعني شيئان غريبان شاذان بصفة خاصة - وكان يستحيل علي أن أحدد أيهما أعظم حجم المكان أم جماله، المدينة نفسها أم سكانها، فالمدينة كانت أكبر من قارة، والسكان يفوقون الأمة عددًا. ولما تطلعت إلى المدينة شككت في أن يتمكن أي جنس من الأجناس من أن يملأها، ولما نظرت إلى أهلها سألت نفسي إن كان يمكن لأي مدينة أن تتسع فتستوعب هؤلاء جميعًا. ومع ذلك فقد بدا التوازن تامًا في كل شيء».

- هكذا نجح البطالمة في جعل الإسكندرية باهرة، فقد أصبحت أكبر مدينة في العالم بعد تأسيس الإسكندر لها عام 331 ق. م بقرن. وتكونت من ثلاثة أحياء أساسية الحي اليوناني ويقع على الساحل والحي المصري الوطني في الغرب، والحي اليهودي في الشرق. بالإضافة إلى أحياء الوافدين، وكانت هذه الأحياء مدنًا قائمة بذاتها. وهو ما يكرس العنصرية البطلمية أو الرومانية ضد المصريين من خلال العزل المديني، تعكس الإسكندرية فلسفة السلطة في الحضارة الهلينستية التي تسعى إلى تجميل الحياة باعتبارها أثرًا تالدا أو فنًا أو فكرًا أو قوة، وهو ما جعل المدن الهلينستية ومنها، الإسكندرية تفتقد التفاعل الإنساني والتلقائية، لخضوعها لفكرة النظام الصارم والقوة المتنامية، واستعيض في الإسكندرية المدينة ذات الفخامة والإبهار المطلقين عن البشر بالصروح، وعن الإحساس بالفن بالمتاحف وعن الشعراء بالقصور حتى تحولت المدينة إلى عمل فني، وتحول الناس من فاعلين مؤثرين، إلى متفرجين مشغولين، لا ينتهي بصرهم من التأمل في كل شيء، وسعى الحكام إلى هذا فجعلوا على سبيل المثال مواكبهم حدثا ينتظره الناس بشغف لمشاهدته، وحاولوا أن يبلغوا به حدّا لا نستطيع أن نراه في أي عنصر آخر.

 

 

خالد عزب 




إحدى القباب المملوكية الحجرية





الأعمدة في مسجد المؤيد شيخ





قبة مسجد السلطان الغوري





باب العز بقلعة الجبل بالقاهرة





مدرسة السلطان برقوق، القاهرة





مدخل مجموعة السلطان حسن المعمارية