الدولرة مرض خطير يصيب البلاد النامية رمزي زكي

   ماذا يعني اعتماد الدولة على عملة غير عملتها كأساس للصرف؟ هل هو تعبير عن أزمة اقتصادية فقط؟ أم أنه يمثل أيضا قدرا من انتقاص السيادة الوطنية لهذه الدولة؟يعتبر النقد المحلي أحد مظاهر سيادة الدولة، ولهذا تحظى عملة البلد بقوة إبراء غير محدودة في تسوية المعاملات بين الناس والوحدات الاقتصادية داخل الحدود الجغرافية للبلد، وغالبا ما تحرم القوانين استخدام عملة بلد آخر في تسوية هذه المعاملات داخل حدود الدولة، فأنت لا تستطيع أن تشتري السلع أو الخدمات من داخل السوق البريطاني إلا بالجنيه الاسترليني، أو من داخل السوق النمساوي إلا بالشلن النمساوي، أو من سوق الولايات المتحدة الأمريكية إلا بالدولار الأمريكي، فإذا ذهبت إلى بريطانيا، على سبيل المثال، وكان معك دولارات أمريكية، فإنه يتعين عليك أن تستبدل بهذه الدولارات جنيهات استر لينيه من الجهاز المصرفي أو من صيارفة العملة، حتى تتمكن من شراء البضائع الإنجليزية، ونفس الشيء ينطبق أيضا على الأسواق الأخرى، ولا عجب في هذا، فاستخدام عملة بلد آخر في المعاملات الداخلية، خارج الجهاز المصرفي، عادة ما ينظر إليه على أنه مساس بسيادة الدولة، فضلا عن أنه يشيع الاضطراب في المعاملات الداخلية.

النقود ووظائفها

ومنذ أن ظهرت النقود إلى حيز الوجود وهي تؤدي عدة وظائف هامة، فهي من ناحية أداة للعد والحساب الاقتصادي للقيم، ولهذا فهي تقوم بوظيفة تسوية المعاملات بين البائع والمشتري وتسوية الحقوق والالتزامات بين الدائن والمدين، وهي من ناحية أخرى مستودع لتخزين القيمة، ولهذا فهي أداة للادخار، يلجأ إليها الناس لتجسيد ثرواتهم المالية.

ونظرا لخطورة هذه الوظائف التي تؤديها النقود في الحياة الاقتصادية، فإن السياسة النقدية التي يتولى البنك المركزي رسمها، تعتبر أحد الأسلحة الإستراتيجية في إدارة وتوجيه الاقتصاد القومي، فإذا فسدت هذه السياسة وأدت إلى الإخلال بوظائف النقود، أو بإحدى وظائفها، فسرعان ما يترتب على ذلك خلل اقتصادي واضطراب في المعاملات، لهذا كان الاستقرار النقدي، أي الحفاظ على الأدوار التي تؤديها النقود في الحياة الاقتصادية، من أهم معالم السياسات الاقتصادية الرشيدة والإطار السليم للمحافظة على ثقة الناس في عملة بلدهم، لا عجب، والحال هذه، أن تكون عملية خلق النقود وتحديد الكمية المناسبة لها في التداول وتوزيعها فيما بين القطاعات المختلفة، من السياسات السيادية التي يضطلع بها بنك الدولة المركزي، ويملك البنك مجموعة من أدوات السياسة التي تمكنه من تحقيق ذلك.

على أن ما نود الإشارة إليه في هذا الخصوص، هو أنه لكي تؤدي النقود وظائفها السابقة الذكر، فلا بد من توافر شرط هام، هو استقرار قيمة النقود Value of Money، أي الحفاظ على قوتها الشرائية، وهو ما يعني استقرار مقدار السلع والخدمات التي تشتريها وحدة النقد المحلي، وليس يخفى على القارئ أن هناك علاقة عكسية بين قيمة النقود والمستوى العام للأسعار، فقيمة النقود تنخفض أو تتدهور إذا اتجهت الأسعار نحو الارتفاع، وقيمتها تتجه للتزايد كلما اتجهت الأسعار نحو الانخفاض، ولهذا يقول الاقتصاديون، إن قيمة النقود تساوي مقلوب المستوى العام للأسعار، كما أن استقرار قيمة النقود هو الذي يسبغ عليها ثقة المواطنين فيها، فلو تدهورت هذه القيمة، من خلال ارتفاع المستوى العام للأسعار (أي من خلال استشراء الغلاء أو التضخم ( Inflation ) فإن المعاملات النقدية بين الناس والوحدات الاقتصادية يصيبها الاضطراب، وسرعان ما يفقد الناس الثقة في عملة بلدهم، وبخاصة إذا كان الغلاء مستمرا.

تخيل، يا عزيزي القارئ، أن المستوى العام للأسعار قد تضاعف، بمعنى أن أسعار السلع والخدمات قد زادت بنسبة 100%، هذا يدل ببساطة شديدة، على أن قيمة النقود قد تدهورت بمقدار النصف، أي أن القوة الشرائية للنقود (مقدار السلع والخدمات التي تشتريها وحدة النقد المحلي) أصبحت لا تمكن حائزي النقود إلا من شراء نصف كمية السلع التي كان بإمكانهم اقتناؤها قبل ارتفاع الأسعار، هاهنا تضطرب وظيفة النقود باعتبارها أداة للعد والحساب الاقتصادي للقيم، حيث تفقد هذه الأداة ثباتها، ومن هنا تضطرب حسابات الدخل والتكاليف والالتزامات، وإذا كنت، يا عزيزي القارئ، مدخرا، بمعنى أنك كنت قد وضعت مدخراتك في أحد البنوك أو في صندوق توفير البريد، أو أنك كنت قد اشتريت سندا حكوميا، أو تعاقدت على بوليصة تأمين على الحياة، فإن القيمة الحقيقية لمدخراتك السابقة تكون قد تدهورت إلى النصف، وهذه لا شك خسارة جسيمة لك، وهنا سوف تفقد النقود وظيفتها باعتبارها أداة للادخار وسوف يعزف الناس عن استخدامها في هذه الوظيفة، أما إذا كنت مدينا، بمعنى أنك كنت قد أخذت قرضا من بنك تجاري أو من صديق لك فإنك تكون قد استفدت من تدهور قيمة النقود، لأنه سيصبح بإمكانك أن تسوي عبء مديونيتك للبنك أو لهذا الصديق، بنصف القيمة الحقيقية للمبلغ الذي اقترضته، ها هنا تكون أنت المستفيد والدائن هو الخاسر، ولهذا يقول الاقتصاديون، إنه في فترات التضخم والغلاء من الأفضل لك أن تكون مدينا وليس دائنا، ويمكن لنا، بالمنطق التحليلي السابق أن نستنتج، أنك ستستفيد إذا اتجه المستوى العام للأسعار نحو الانخفاض لو كنت دائنا، وسيلحق بك الضرر لو كنت مدينا، في مثل هذا الوضع، تفقد النقود وظيفتها باعتبارها وسيلة لتسوية المدفوعات الآجلة، وسيضطر الدائن والمدين للجوء إلى طرق أخرى لتسوية الحقوق والالتزامات فيما بينهما.

إحلال الدولار

ومهما يكن من أمر، فإن إطلالة سريعة على أحوال بلاد العالم الثالث وما تكابده من أزمات اقتصادية طاحنة، ستمكننا من رصد ظاهرة خطيرة استشرت فيها بشكل متزايد، في الآونة الأخيرة، وهي ظاهرة الدولرة Dollarization، أي إحلال الدولار (أو غيره من العملات الأجنبية) مكان النقود المحلية، واضطلاع الدولار (أو تلك العملات) بوظائف النقود، فقد أصبح من المألوف أن يتداول الناس الدولار، خارج الجهاز المصرفي واستخدامه في تسوية المعاملات بينهم وتفضيله كأداة للادخار على العملات المحلية، وتشير بعض المصادر، على سبيل المثال، إلى أن مجموعة دول أمريكا اللاتينية، في بداية الثمانينيات، كان يتداول فيها ما لا يقل عن 100 مليار دولار في تسوية المعاملات الداخلية (خارج الجهاز المصرفي)، كما أن نسبة الودائع الادخارية بالدولار إلى الودائع بالعملات المحلية في تزايد فلكي مستمر، بعد أن فقد الناس الثقة في عملات بلادهم، وهربوا منها إلى عملات أكثر ثباتا وقوة واستقرارا في قيمتها- أنظر على سبيل المثال الشكل رقم (1) الذي يوضح ظاهرة الدولرة في حالة المكسيك.

والآن...

ما هي العوامل التي تفاعلت فيما بينها لتفرز هذه الظاهرة المرضية في بلاد العالم الثالث وتفقدها استقلالها النقدي؟

هناك في الحقيقة عدة عوامل، لعل أهمها ما يلي:

* هناك أولا التضخم الشديد الذي ضرب اقتصاديات هذه البلدان وأدى إلى فقدان النقود قوتها الشرائية باستمرار عبر الزمن، وكان من نتيجة ذلك أن فقد الأفراد الثقة في عملات بلادهم وشيوع ظاهرة "الهروب من النقد المحلي" إما بسرعة إنفاقه أو بتحويله إلى أصول أخرى.

* وهناك ثانيا سلبية سعر الفائدة، وهو الأمر الذي يحقق للمدخرين خسائر مستمرة، وهذه السلبية تنشأ من كون معدل التضخم السائد أعلى بكثير من سعر الفائدة الاسمي، فإذا كان معدل التضخم (معدل زيادة الأسعار) يساوي، مثلا، 20% بينما كان سعر الفائدة الاسمي على الودائع الادخارية بالنقد المحلي يساوي 10%، فإن سعر الفائدة الحقيقي يكون سالبا بنسبة 10%، وهنا تتآكل القيمة الحقيقية لمدخرات الناس سنة بعد أخرى، فإذا كان وعي المدخرين مرتفعا، فإن إدراكهم لظاهرة سلبية سعر الفائدة سيجعلهم يعزفون عن الادخار بعملة بلدهم ويسارعون بتحويل مدخراتهم من العملة المحلية إلى الادخار بالدولار، أو بعملات أخرى أكثر ثباتا في قيمتها وفي سعر فائدتها.

* وثالث هذه العوامل هو التخفيض Devaluation المستمر الذي يحدث في عملات هذه البلدان وتوقع الناس لاستمرار هذا التخفيض، فبالإضافة إلى التضخم الذي يحدث عقب التخفيض، فإن تدهور سعر الصرف (أي نسبة مبادلة وحدة النقد المحلي بالعملات الأجنبية) يجعل الناس يتكالبون على شراء الدولار، والاحتفاظ به كودائع ادخارية إذا كانت القوانين تسمح لهم بفتح هذه الودائع بالبنوك، أو الاحتفاظ به كنقد سائل والاستفادة من ارتفاع سعره بإعادة بيعه مرة أخرى.

الدولة وتجميع الدولار

كذلك يلاحظ أن سعي الحكومات في العالم الثالث وراء تجميع الدولار، لتمويل الواردات الضرورية وتدبير أعباء الديون الخارجية، في ضوء ما تعانيه من ندرة شديدة في العملات الأجنبية، قد دفعها إلى التوسع في إنشاء ما يسمى "بالأسواق الحرة" التي تباع فيها السلع المستوردة أو المحلية بالدولار، وهي أسواق عادة ما تكون السلع المعروضة فيها غير متوافرة بالسوق المحلي، مما يجعل الناس يسعون إلى أن يستبدلوا الدولار بعملة بلدهم لكي يتمكنوا من شراء تلك السلع، وهو الأمر الذي يزيد من الطلب على الدولار.

والأعجب من هذا وذاك، أن حكومات كثير من بلاد العالم الثالث قد وضعت القوانين "على الرف" وغضت بصرها عن ظاهرة "الدولرة" في المعاملات الداخلية وتركت الناس يستخدمون الدولار في تسوية المعاملات بينهم، مثل شراء العقارات والأراضي والسيارات والسلع المعمرة ودفع اشتراكات النوادي الفخمة.. إلى آخره، بل إن حكومات بعض هذه البلاد ذهب بها تطرفها ولهثها في تجميع الدولار إلى أن تفرض بعض الرسوم والضرائب بالدولار.

ولا يجوز أن ننسى أيضا ما أسهمت به ظاهرة هروب وتهريب الأموال والثروات من داخل هذه البلاد للاستثمار في الخارج من تعميق لظاهرة "الدولرة"، فمع استفحال الأزمات الاقتصادية واضطراب الأحوال الاجتماعية والسياسية، لجأ أثرياء هذه البلاد في العقدين الماضيين إلى تهريب مدخراتهم للخارج، سعيا وراء عائد أفضل وضمانات أقوى، وهو الأمر الذي انعكس في حمى تحويل هذه المدخرات إلى الدولار.

وأخيرا وليس آخرا، هناك مسئولية كبرى تقع على ما يسمى بنظام الاستيراد بدون تحويل عملة، الذي يتمكن من خلاله مستوردو السلع من تدبير حاجاتهم من النقد الأجنبي من السوق السوداء دون أن تسألهم الدولة عن طبيعة مصدر العملة الأجنبية.

ويبقى في النهاية أن نشير إلى أثر تحويل الديون الخارجية المستحقة على البلاد النامية إلى أصول إنتاجية Debt Equity - Swaps التي انتشرت أخيرا في ساحة الخروج من مأزق الاستدانة الخارجية، ففي ضوء هذه التسوية الجهنمية يتمكن الدائنون من تحويل ديونهم المستحقة والمشكوك في تحصيلها، إلى أصول منتجة داخل البلد المدين (شراء المصانع والمزارع والشركات والمرافق..)، فقد أدى هذا النوع من التسوية غير العادلة لأزمة الديون إلى حدوث انفجار في الطلب على الدولار بالداخل من جانب من دخلوا ساحة هذه اللعبة اللعينة.

وبعد..

إن استفحال ظاهرة "الدولرة" في بلدان العالم الثالث هي، في التحليل النهائي، مظهر واضح من مظاهر انتقاص السيادة الوطنية لتلك البلدان، باعتبار أن النقد المحلي يمثل أحد الأركان الثلاثة لمظاهر سيادة أي دولة (وهي: عملة واحدة، وجيش وطني واحد، وسياسة خارجية واحدة)، كما أن وجود هذه الظاهرة يعني أن شطرا مهما من كتلة التداول النقدي يقع خارج سلطة وسيطرة السلطات النقدية، ومن ثم يصعب التحكم في الآثار التي يحدثها على المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية، أضف إلى ذلك أن "الدولرة تسلب من البنك المركزي للدولة إحدى أهم وظائفه، وهي التحكم في كمية النقود المتداولة، ناهيك عما أشاعته من فوضى شديدة في المعاملات النقدية بين الناس والوحدات الاقتصادية.

على أن ظاهرة "الدولرة" يجب النظر إليها على أنها انعكاس لمشكلة أكبر، هي مشكلة التضخم والفوضى النقدية وفساد السياسات الاقتصادية والإنمائية التي سارت عليها هذه البلدان في ربع القرن الماضي، إنها - أي ظاهرة "الدولرة" - نتيجة لكل هذه الأمور وليست سببا لها، ولهذا، فالبحث عن علاج ناجح لها يتطلب القضاء على التضخم وتلك الفوضى وإعادة النظر بشكل جذري في هذه السياسات.

حقا... ما أتعس حال العالم الثالث الآن، فمظاهر فقدانه لاستقلاله الاقتصادي قد وصلت إلى حد سلبه سيادته النقدية.