أربع سنوات مريرة على أسرى الكويت بشر لا أرقاء محمد الرميحي

أربع سنوات مريرة على أسرى الكويت بشر لا أرقاء

حديث الشهر

فلأطلق عليها اسم "س.." لأن المأساة التي تعرضت لها والمهانات التي عانت منها لا تسمح لي بذكر اسمها الحقيقي. ولكن قصتها الحقيقية بكل تفاصيلها وإن قربت للخيال الجامح قد استولت على مشاعري بعد أن سمعتها وأنا أستعد لخط هذه الكلمات ربما لانها تكشف عن الوجه القبيح المروع للأزمة التي نعاني منها جميعا حين يتحول البشر إلى أرقاء وحين يستفز المرء كل ما في داخله من طاقات إنسانية ليحافظ فقط على وجوده كإنسان في مواجهة العنف والإذلال.

"س" كانت فتاة في بداية حياتها معلمة للأطفال مشرقة الوجه طافحة بالحيوية وفي الثاني من أغسطس عام 1990 لم تفعل أكثر من أنها تناولت حقيبتها وكراسات تلميذاتها وتوجهت إلى المدرسة التي تعمل بها. وفي وسط زحمة مرور الصباح كانت تعتقد أن الجندى الذي يتحكم في حركة السيارات هو أحد رجال الشرطة الكويتيين.

ولكنها فوجئت به يوجه السلاح نحوها. وليست تدري ما الذي أثاره في منظرها فقد كانت ترتدي ثيابا بسيطة وحجابا يلف رأسها. لعلها نظرة البراءة والتساؤل في عينيها هي التي أثارته ودفعته ليغرس فوهة بندقيته في صدرها وهو يأمرها بالنزول.

كانت هناك حافلة "باص" تقف على جانب الطريق تمتلئ هي أيضا بأناس مذعورين من أجناس وأعمار مختلفة تم القبض عليهم لأسباب لا يعرفونها.. موظفين ورجال عجائز وفتيات صغيرات مرتعدات مثلها - برغم الغيظ - من الخوف. وتوالت عمليات القبض العشوائية حتى امتلاء (الباص) عن آخره ثم سار بهم تحت حراسة الجنود المتجهمين إلى مقر القيادة في أحد فنادق وسط المدينة. أنزلوهم وأنزلوها معهم في الساحة الأمامية وصفوهم صفا واحدا وأمروهم أن يسيروا إلى الحائط ثم يستديروا جميعا.. وسمعت أحدهم يصرخ في هستيريا "إعدام.." وصكت أذنيها أصوات قعقعة الاسلحة وهي تشرع... فتمتمت بالشهادتين..

بدا الأمر كأنه مسرحية مرعبة لإثارة أكبر قدر من الفزع في نفوسهم. فقد جاء ضابط عراقي في اللحظة الأخيرة وأمر الجنود بتنحية أسلحتهم وأمر الأسرى بأن يعتدلوا. وأخيرا وجدت الدموع طريقها إلى عيني "س" لم تسمع ما قاله الضابط من كلمات إنشائية عن أنهم إخوة ولا عداوة بينهم أو مشاكل.. لم تفهم ماذا يعني.. كل ما أحست به أنهم قد اختطفوا روحها في هذه اللحظة.. فأصبحت جسدا بلا روح، تتحرك دون طاقة.

لم يفرجوا عنهم.. وقال الضابط إنهم سيطلقون سراحهم بعد ساعة على الأكثر ولكن الساعة استطالت إلى يوم كامل، بلا طعام ولا ماء. ثم جاءت سيارات ضخمة وحشروهم جميعا وبدأت السيارات سيرها الطويل.. سير وسط الشوارع المضيئة ثم وسط الظلام الدامس. توقف أحيانا للتزود بالوقود وأحيانا للتأكد من أن الحمولة البشرية مازالت على حالها ثم معاودة للسير من جديد.. أدركت بغريزتها أن هذه الرحلة الطويلة قد حملتها خارج حدود بلدها الكويت وأنها الآن فوق أرض أخرى كانت حتى الأمس تعتبرها أرضا عربية شقيقة ولم تتأكد من صدق حدسها إلا في اليوم التالي عندما توقفت السيارة أخيرا لتجد نفسها في مدينة... البصرة.

لم يكن هناك معنى لأن تحس بالتعب والإنهاك.. الموتى لا يحسون بأي شيء ولا يموتون إلا مرة واحدة. وهي قد ماتت في ساحة الفندق. لم تبال حين فصلوها عن بقية المعتقلين ولم تبال بنظرات الضابط العراقي وهو يدور حولها ويتأمل جسدهـا.. سار الضابط ودفعها الجنود حتى تسير خلفه حملتهـا سيارة أخرى صغيرة، وحدها هذه المرة دون معتقلين.

لم تذهب إلى السجن. ذهبت إلى بيت الضابط الذي لم يكن يفترق كثيرا عن السجن فقد كان محاطا بالحراسة من كل جانب وأشار إليها أن تبدأ على الفور في تنظيف البيت المتسخ. تحولت إلى خادمة.. وبدأت تمارس عملها الذي لم يقتصر على الطهي والغسل والتنظيف ولكنه امتد لأشياء أخرى مروعة.. كان جسدها يتعرض لإهانات يومية بمختلف الوسائل هدفها الأساسي هو سحق روحها حتى لا تفكر في أي خلاص.

لا تدري كم يوما مر عليها وهي تدور في هذه الحلقة الجهنمية. ولكن الذي كانت تقوم بخدمته وتتلقى إهاناته نقل إلى بغداد وأخذها معه. سيارة عسكرية أخرى حملتها عبر مسافات طويلة من الرمل والفراغ وصور الرئيس. وفي بغداد كانت أسرة الضابط وأولاده ولم تتحسن المعاملة كثيرا. بعض الإهانات الجسدية هي التي توقفت فقط، ولكنهـا ظلت خادمة، تمارس أعمالها في صمت وبلا روح. وبدأوا يثقون في أنها قد استسلمت لمصيرها فسمحوا لها بالخروج إلى السوق لشراء لوازم البيت وفي صحبتهـا أحد الجنود..

ثم بدت لمحة ضئيلة من الأمل ذات يوم. أحست فجأة بشهقة الحياة وهي في طريقها للسوق والجندي خلفها حين لمحت الراية البيضاء المرسوم عليها صليب أحمر اللون. أدركت أنها قد رأت مبنى فرع اللجنة الدولية للصليب الأحمر. مبنى صغير ولكنه بالنسبة لها كان الملجأ الوحيد في العالم الذي تتوق للوصول إليه. وبدأ ذهنها يعمل وأحاسيسهـا تترك للمرة الأولى منذ شهـور طويلة، ولكنها أخفت كل هذه المشاعر وظلت تواصل رحلتها الرتيبة بنفس الدرجة من الكآبة.

ثم حانت اللحظة ذات يوم. كان الجندي قد تراخى قليلا عن حراستها. اكتفى بأن يتركها تمارس الشراء وانشغل هو في شرب "استكانة" شاي والحديث مع الباعة فأخذت تجري.. وتجري.. وضعت كل قوتها وكل الأمل وكل الخلاص في ساقيها.. ولم تكتشف أنها مازالت تحمل كيس الخضراوات إلا بعد أن اقتحمت الباب الأمامي للمبنى وارتمت أمام الموظفين الدوليين وهي تبكي وتهذي وتحكي حكاياتها في كلمات متقطعة وتكشف عن أماكن الجروح والحروق في جسدها واحتضنها الموظفون وانتظرت أياما طويلة من المفاوضات حتى تتمكن قوة صغيرة من أخذها واجتياز الحدود وإعادتها إلى وطنها.

"س.." موجودة اليوم بيننا في الكويت لا تريد أن تحكي قصتها علنا لأنها مثل عشرات من زميلاتها انتهكت أعراضهن إبان الاحتلال، ويمثل لهن الأمر غصة يخفينها خلف دموعهن.

بشر منسيون

هذه قصة واحدة واقعية من مئات القصص للبشر المنسيين الذين نطلق عليهم منذ أربع سنوات طوال: أسرى ومفقودي حرب تحرير الكويت، تلك القصص التي تحولت إلى مجرد أرقام في قائمة الإحصاءات الدولية، وخبر مكرور من أخبار الصحف ومجال لحرب التصريحات والمساومات السياسية والتصريحات المضادة والتسويف. من يصدق أن أربع سنوات كاملة قد مضت على قضية هؤلاء البشر المنسيين الذين لا يعرف أحد حتى الآن شيئا محددا عن مصيرهم...؟

أجدني فجأة بعد مرور كل هذه السنوات أتحدث عن نفس القضية، ولا أدري هل أصبح إيقاع الزمن أسرع من أن أدركه بالوعي المباشر، أم أن الأيام والشهور قد أصبحت تنسرب من بين الأصابع كذرات الرمل. إن عدم الإحساس بالزمن يعود بالدرجة الأولى إلى أن الأحداث والقضايا التى تحتل حيز هذا الزمن لم تتغير كثيرا. التصريحات هي هي والمواقف هي هي كأن ذلك الكائن الهلامي المسمى بالزمن العربي يشيخ وهو فى مكانه.

لا أريد هنا أن أكرر كلمات قلتها في السنوات السابقة ولا أن أقف هنيهة على أطلال ما حدث متظاهرا بالتطلع إلى المستقبل وأنا غارق في اجترار الماضي. لقد كنت أتمنى أن أتحدث عن أزمة الخليج العاصفة - التي أودت بآخر آمال الجيل الذي أمثله - بوصفها تجربة خطيرة من تجارب التاريخ العربي مهما بلغت درجة مرارتها، بمعنى أن يتحول الجرح المفتوح إلى ملف مغلق يوضع في أدراج الذاكرة، نستقي منه الذكرى وليس الألم، العبرة لا الوجع. ولكن الجرح هنا يأبى الالتئام، فالنفوس الإنسانية التي ألهبتها نيران الحرب ما زالت تعاني. لقد رمم الكثير من آثار القصف سواء في الكويت أو العراق. وتم إيقاف الجحيم الذي استعر من آبار النفط المدمرة. وحتى المقاطعة المفروضة على العراق قد تم اختراقهـا وبنيت عشرات القصور الباذخة في بغداد وحولها.. ولكن من يزيل آثار القصف من أرواح البشر..؟ ومن يخلص البشر من سجون الاعتقال والذل، ومن يخلص أهليهم وذويهم من طول الانتظار؟

لقد سقط ذكر أسرى الكويت أو الضحايا المنسيين وسط دمدمات القوى العظمى وتحفزات السلاح وصيحات التهـديد. ومازال هناك 625 أسيرا في السجون العراقية يرفض النظام الحاكم الاعتراف بوجودهم، وهو أسلوب مألوف قد اتبعه من قبل في إنكار وجود الأسرى الإيرانيين.

وقد يبدو هذا العدد صغيرا لمن لا يعرفون الكويت ولا تعداد شعبها ولا روح التكافل التي تسود بين أفراده. فهـذه النسبة تصل إلى 9.6% من تعداد الشعب الكويتي الذي يقارب حوالي 600 ألف نسمة وتظهر فداحة هذه النسبة لو طبقتها - بالمقارنة - على بلد عربي كبير العدد مثل مصر حيث نجد أن هذه النسبة فيهـا يمكن أن تصل إلى 62 ألف نسمة. وإذا طبقناها على وطننا العربي الذي يبلغ تعداد سكانه 230 مليونا لوصل العدد إلى 250 ألف أسير. وهكذا يمكننا أن ندرك أن هذا العدد الذي قد يبدو صغيرا ظاهريا للبعض يمثل مأساة حقيقية لكل بيت كويتي تقريبا. وهي بيوت تعيش على حافة الأمل واليأس تنتظر عودة الآباء والأزواج والأبناء والأمهات الذين فقدوا. بل إن بعض هؤلاء الأهل يتعرض للابتزاز من الذين يلوحون لهم بمعلومات كاذبة أو مساع غامضة للإفراج عن الأسرى.

إن الأيام قد تثاقلت عليهم. والقصص التي تتناثر عن مصيرهم تثير الرعب. وما زال النظام العراقي مصرا على إنكار وجودهم برغم عشرات الشهود الذين رأوهم داخل السجون في العراق، بالإضافة إلى الوثائق التي تركها العراقيون خلفهم.

ومعظم هؤلاء الأسرى ليسوا من العسكريين أو الذين شاركوا في العمليات العسكرية كما قد يتبادر للذهن، ولكنهم أناس عاديون وجدوا في المكان الخطأ في اللحظة الخطأ فعندما كانت القوات العراقية تستعد للارتداد عن الكويت قامت بالقبض العشوائي على العشرات من المواطنين، من الشوارع والمساجد والأسواق، الأمر الذي وصفته مصادر الأمم المتحدة بأنه "أكبر عملية اختطاف في التاريخ..." ويبدو أن هذا الأمر كان جزءا من سياسة الدروع البشرية التي كان النظام العراقى يخطط لها فيما لو حدث اقتحام لبغداد. ولكن مع توقف القتال عند حدوده في الجنوب وبعد جهود مضنية للوساطة قام بها الصليب الأحمر أعاد العراق بعض هؤلاء الأسرى سيرا على الأقدام من مدينة "صفوان" في جنوب العراق، وأنكر وجود البعض الآخر. مرة يعترف بوجود 49 أسيرا فقط ثم يعود ليسحب اعترافه. ومرة أخرى يعترف بـ 56 أسيرا ثم يعاود المماطلة من جديد. كأن اللحم الإنساني هو مادة صالحة للمساومة مهما كان نوع الصفقة، وكأن كل تلك العذابات تستأهل المناورات السياسية التي يقوم بها نظام لم يعترف بأي حق من حقوق الإنسان، لا بالنسبة لمواطنيه ولا لمواطني الدول الأخرى.

ضد الاستعباد

إن الحالة التي عرضتها بالتفصيل للأسيرة "س..." ليست فقط نموذجا لمحاولة تحويل البشر إلى أرقام، ولكنها محاولة أيضا لإيقاف التاريخ وإعادته إلى الوراء. فقد ناضلت البشرية طويلا عبر مئات من الحروب والمعاناة من أجل الحفاظ على حياة الأسرى وعلى آدميتهم من أن يتحولوا ليكونوا هدفا لكل عوامل البغض والكراهية ونزعات الانتقام التي تولدها الحروب. أي أن الرغبة في الحفاظ على الأسرى وكرامتهم كانت محاولة من البشرية للارتقاء قليلا فوق رغبات التسلط الوحشية التي تصيب المنتصر، وعدوانية القهر التي يصاب بها المنهزم.. انتهى ذلك العصر الذي كان الأسرى فيه يتحولون إلى أرقاء تحت رحمة الآسر يتصرف فيهم كما يشاء قتلا أو استعبادا أو بيعا. وفي زمن الجاهلية كان الأسير مجرد سلعة يتصرف فيها شيخ القبيلة، يختار منهم ما يريد ليعملوا في مراعيه أو يخصيهم قبل أن يدخلهم إلى نسائه، أو يبيع منهم من كان صالحا، ويقتل من يعتقد أنه ليس ذا فائدة.

وواجه الإسلام مشكلة الأسرى مع أول غزوة قام بها الرسول الكريم في يوم "بدر" فقد وقع في يده عتاة قريش الذين ساموه وأتباعه العذاب. ولم يبادر بقتلهم ولكنه - على حد رواية الطبري - جلس بين أصحابه يشاورهم. فقال أبوبكر: هم بنو العشيرة نأخذ منهم فدية حتى تكون لنا قوة وعسى الله أن يهديهم إلى الإسلام.

وقال عمر بن الخطاب بحسمه وحزمه: بل تمكننا من رقابهم فإنها رقاب أثمة الكفر والشرك. ومال الرسول الكريم إلى الرأى الأول فأخذ الفدية، ومن لم يكن معه مال جعل فداءه أن يعلم عددا من أولاد المسلمين القراءة والكتابة. وهكذا أصبح العفو والفداء هما القاعدة لا القتل والاسترقاق. ولكن الأمور لم تسر دائما على هذا المنوال. فما أقل الأتقياء وما أكثر الطغاة، خاصة إذا أخذوا سماتنا الشرقية المطلقة. فقد أعاد العثمانيون الأسرى إلى غنائم الحرب مرة أخرى وكانوا يأخذون الأطفال من المدن التي يفتحونها ويضعونهم في مستوطنات خاصة بعيدا عن أهاليهم ويلقنونهم المبادئ العسكرية الصارمة لينشأ منهم جيل من المحاربين "الإنكشارية" الذين لا يعرفون الرحمة.

وفي القرون الوسطى شاعت الفدية خاصة بالنسبة للملوك، وكان جمع المبالغ الباهظة من الناس يتطلب وقتا طويلا، وأشهرها كانت فدية الملك ريتشارد قلب الأسد ملك إنجلترا الذي وقع في أسر صلاح الدين في الحملة الصليبية الثالثة (1189 م) وفدية الملك لويس التاسع الذي قام بغزو مصر وأسر في المنصورة وظل يأخذ (علقة) يومية في سجن ابن لقمان حتى دفعت الفدية، وأيضا فدية جان لوبون ملك فرنسا (1350 م) الذي وقع أسيرا خلال حرب المائة عام.

وفي القرن السابع عشر بدأ من أول قوانين الحرب. وشرع القانوني الهولندي هوجو جروشيوس قانونا يرى أن "باستطاعة الآسر أثناء الحرب استعباد الأسير ولكن دون أن يقتله". وفي عام 1648 عقدت معاهدة "وستفاليا" التي نصت على "تحرير الأسير دون دفع فدية" وكان هذا أول تشريع دولي يحاول إنهاء ذلك النوع من الاستعباد الذي لازم البشرية منذ تاريخها. لقد أضاءت كتابات مونتسكيو وجان جاك روسو حول مفهوم حق الحرية بالنسبة للإنسان أيا كان نوعه أو وضعه وفتحت الطريق لعدد من المعاهدات الدولية على حسن معاملة الأسير وقد نصت معاهدة جنيف في عام (1929 م) على "أن على الآسر أن يعامل الأسير كما يعامل جنده، وألا يرغم الأسرى على القيام بأعمال إلا وفق إرادتهم ومقابل أجر".

ولكن النازية الصاعدة لم تعترف بهذه الاتفاقية فأقامت أفران الغاز ومعسكرات التجميع القاسية وابتكرت أساليب التعذيب الجسدي وغسل الدماغ. وتفوقت إسرائيل على النازيين في هذا الأمر فقد مارست تعذيب الأسرى منذ وقت مبكر من إنشائها وظهر ذلك من خلال التحقيقات التي أجرتها اللجان الدولية منذ عام 1948 م.

لقد نصت آخر اتفاقية من هذا النوع وهي اتفاقية جنيف الثالثة الموقعة في 12 أغسطس (1949 م) على اعتبار أسرى الحرب تابعين لسلطة الدولة الأسرة وليس لسلطة الأفراد أو الوحدات العسكرية التي أسرتهم. وعلى هذه الدولة أن تعاملهم دون تمييز للون أو العنصر أو العقيدة الدينية أو السياسية، وألا تنزل بهم تعذيبا بدنيا أو معنويا وألا تجردهم من شاراتهم ورتبهم وأن تتوافر في معسكراتهم الشروط الصحية اللازمة وأن يقدم لهم الغذاء واللباس اللازمان وأن يكون لكل معسكر مستوصف طبي للعلاج كما يحق للأسرى ممارسة نشاطهم الفكري والثقافي والرياضي ويسمح لهم بإرسال البطاقات البريدية وتسلمها ولكن تحت الرقابة. ويحاكم أسرى الحرب أمام المحاكم العسكرية فقط. ولا يجوز إصدار حكم على أسير دون إعطائه فرصة للدفاع عن نفسه والاستعانة بمحام أو بمستشار قانوني. ويفرج عن أسرى الحرب ويعادون إلى أوطانهم لدى وقف الأعمال العدائية. فأين النظام العراقي من كل هذه الحقوق الإنسانية؟

العائدون من الجحيم

إن العائدين من عذابات المعتقلات العراقية يقدمون لنا شهادات مروعة عن الظروف المأساوية التي يعيش فيها البشر الذين أوقعهم سوء الحظ في أيدي هذه السلطات، وبرغم اختلاف جنسياتهم فإن انطباعاتهم واحدة، والكلمات التي يصفون بها تجربتهم البشعة تكاد تكون واحدة أيضا. فالرهينة الأمريكي كينيث بيتي الذي قضى في السجون العراقية 205 أيام بعد أن تم أسره داخل حدود الكويت يقول: "كان الطعام قذرا جدا، وبرغم شدة الجوع كنت أخشى تناوله خوفا من أن يضعوا لي السم فيه كما أخبرني بعض الحراس بذلك" ويصف الأسير المصري فتحي عبدالستار وهو آخر من عاد من السجون العراقية تجربة اعتقاله أو بالأحرى اختطافه من على الحدود الكويتية العراقية بأن المحكمة الصورية التي عقدت لمحاكمته بتهمة التجسس طالب الادعاء فيها بحبسه سبع سنوات فحكم القاضي بثماني سنوات واقتيد إلى سجن أبي غريب الشهير حيث وضع وسط كل حثالات البشر وبلغ السجن من الازدحام أن كل سجين كان ينام طوال الليل على جنب واحد ولا يستطيع التقلب إلى الجنب الأخر. ويصف المهندس أحمد العدساني، وكان يشغل منصب وزير الكهرباء والماء في الكويت بعد التحرير، فترة أسره في معتقل البصرة بأنه كان في عنبر مظلم هو و 400 فرد من الكويتيين، كان من بينهـم العجائز والصبية الصغار وتم حشرهم داخل هذا العنبر تحت وطأة القصف الجوي وأقفلت عليهم الأبواب لأيام طويلة بلا طعام ولا ماء اللهم إلا الماء المليء بالأوحال وبقايا المطر.

ويحكي لنا الطبيب الكويتي بدر بورسلي وهو متخصص في الأمراض النفسية، عن الجنون الذي أصاب رجال النظام العراقي ورغبتهم العارمة في تعذيب الأسرى، وهو يرى في ذلك كله محصلة من التخلف الإنساني أعراضهـا القسوة والغلظة وعدم احترام الإنسان. فبعد رحلة طويلة داخل المعتقلات قاساها هو وغيره من الأسرى من معتقلات الموصل.. إلى معتقل الرشيد في بغداد إلى أن أعيدوا إلى الموصل مرة أخرى حيث البرد القارس. ولم تكن المعاملة الطيبة للسجناء الكويتيين تتعدى حدود تبادل الكلام، بل إن إرادة الشر كانت مستمرة. فقد عرضوا على الدكتور بدر كميات كبيرة من أقراص "الفاليوم" ليهـدئ بها من روع السجناء الكويتيين معه. لكنه كان يعرف مخاطر إدمان هذا الدواء ويدرك النوايا الشريرة وراء هذا السخاء، لهذا كان يعمل على منع تداوله بين زملائه ويتحاشى وصفه لهم. ثم إن الطعام السيئ القليل، والمياه الشحيحة والبرد مع ندرة وجود الأغطية ظل هو الشيء الثابت دون تغيير، حتى أن بعض السجناء وقد اكتشفوا نبات "الرشاد" ينمو تلقائيا بين جنبات السجن بعد أن وضع بذوره السجناء الإيرانيون الذين حلوا به من قبل، أخذوا تحت وطأة التجويع العراقي يأكلون ما يعثرون عليه من هذا النبات، برغم أنه كان مرتعا للأمراض الطفيلية إذ تتسرب إليه. مياه الصرف في سجن الموصل. وبدأت الطفيليات تفتك بأجساد السجناء الكويتيين ولولا ستر الله لفنوا جميعا.

ويروي المقدم يعقوب الياسين أيضا تجربة أسره، وهو أحد العسكريين الكويتيين وقد كان يقضي إجازته في لندن حين سمع أخبار الأزمة التي سبقت الاحتلال فقرر أن يعود إلى الوطن قبل الغزو بساعات محدودة وتم أسره عندما حاصرت القوات العراقية القاعدة التي يعمل فيها.. وهو يروي في سخرية مريرة ذلك التخبط الذي كان فيه الآسر والفوضى التي لا تحكمهـا إلا غريزة العدوان. فقد بدا واضحا أن القائد العراقي لا يعرف ماذا يفعل بالضبط بما يحمله من شحنة أسرى بعد أن اجتاز بهم الحدود الكويتية إلى داخل العراق. لقد ذهب بهم من الزبير إلى البصرة ومن معسكر إلى آخر. ثلاثة معسكرات وكل مسئول عنها يقول "ما عندي أمر". ولما كان العطش قد بلغ بهم حدودا قاسية راح الضباط العراقيون يطلبون من الناس العاديين في فترات التوقف أن يسقوهم - أي يسقوا العسكريين فقط - بلا مبالاة بالأسرى، ويتذكر يعقوب الياسين مشهـدا سأل فيه أحد الأسرى فتاتين عراقيتين في ملابس ضافية أن يحضرا ماء للشرب "نحن كويتيون يا أختى نبغي ماء" وكان ردهما في ذهول "يابا.. كويتيين" وذهبتا لتعودا بالماء ولكنه قبل أن يصل ليد الأسرى جرى الحارس العراقي يطارد الفتاتين بخيزرانته وهما تهربان مولولتين صائحتين "يابا دول مو إسرائيليين..".

الحرية والأسر

إنها حالة مؤلمة من حالات "افتقاد الحرية" بالنسبة للأسر والمأسور على السواء، وافتقاد الحرية هو أقصى عقاب يمكن أن يوقع بالإنسان، فهو انتزاع له من جذوره ومجتمعه وإحاطته بالأسوار المادية والمعنوية، وخلق حالة من الخوف وعدم الثقة في داخله. إن العراقيين الذين عاشوا طويلا تحت ظل نظام قمعي لا يتيح لهم أي بارقة أمل في الحرية أصبحوا لا يعرفون قيمة الحرية بالنسبة للآخرين.

ومهما فعلت الأنظمة التسلطية التي كانت تملك أدوات وإمكانات أعتى من النظام العراقي فقد فشلت في انتزاع حس النزوع إلى الحرية بالنسبة للأفراد، حتى أن القوانين الوضعية قد أصبحت في الوقت الحاضر تدور في فلك الشخصية الإنسانية. إن هناك إيمانا عاما بأن الإنسان يؤلف كائنا قائما بذاته متمتعا بشخصية خاصة به مستقلة عن غيره، ومن هذه الوحدانية التي يتصف بها تنبثق الحقوق والحريات المتصلة بذاتيته الإنسانية. هذه الذاتية لا تستطيع القوة الحاكمة أن تتجاوزها، أي أن مهمة القوانين الوضعية هي أن تصون الإنسان بكليته، كإنسان، وإنسان معنوي اقتصاديا واجتماعيا.

وإذا كان الكثير من هذه الحقوق مهدرا في عالمنا العربي فإنني أزعم أنها ملغاة تماما خلف الأسلاك الشائكة التي يحيط بها النظام العراقي بلاده. وليس هذا استنتاجا شخصيا ولكنه معتمد على عشرات الشهادات والوثائق التي تفضح يوميا ممارسات هذا النظام. إن هناك "دياسبورا" عراقية حقيقية حيث يعيش الملايين من أبناء هذا الشعب في المنافي البعيدة يتنازعهم الشوق إلى أرض الوطن والخوف من الخطر القادم من الوطن. معارضون ومنشقون وطنيون فقدوا أمنهم من قسوة المطاردة التي تطالهم إلى كل مكان يذهبون إليه، فالنظام العراقي لا يتصرف وفق سمت الدولة المسئولة ولكن وفق سمت المنظمات الإرهابية السرية على حد تعبير المعارض العراقي حسن العلوي وهو يقول في مقدمة كتابه بذاك العنوان "العراقيون أسرى في كل حال. أسرى في الحرب وأسرى في مواقف الباصات، وأسرى المنازل، والمقاهي خالية، والسفر ممنوع إلا في حالتين أن ترمى عائلة عراقية وراء الحدود تنفيذا لقانون التهجير، أو أن يكون المسافر حاملا ورقة للتحويل الخارجي أو أمرا قياديا في مهمة خاصة.. إن منظمة سرية كان يبشر بها طلاب حسنو النية تحولت إلى قوة سياسية ذات قدرة عالية على التخريب المنظم".

هذه الدولة أو المنظمة الإرهابية لا تستند إلا إلى قوانينها الخاصة ومصالح أعضائها الشخصية. وهي تمارس أكبر قدر من الإرهاب ضد من توقعه مجرد المصادفة في طريقها. ولعل كتاب "القسوة" الذي كتبه عامر بدر حسون عن حالة أستاذة جامعية عراقية ألقي القبض عليها لمجرد الاشتباه في أنها تحاول الخروج من العراق مثلما فعلت بقية عائلتها. وقد تعرضت هذه الأستاذة التي أطلق عليها اسم "ليلى" لصنوف من التعذيب والانتهاك الوحشي ما يفوق تخيل أي عقل بشري سادر في القسوة المبالغ فيها. وهو يقول في نهاية كتابه ذاكرا وصية ليلى الأخيرة إليه "أنا ليلى أختكم. دخلت السجن في العراق بإرادة شرطي وقضيت سنوات طويلة تحت الأرض لا أفرق بين الكلاب البوليسية والكلاب البشرية التي تناوبت على تعذيبي. أنا ليلى أختكم كنت أهان وأضرب وأعذب كل يوم، استطعت الإفلات من السجن بمعجزة لكنني أعرف أن زينب وفاطمة وسعاد وكل صاحبات الأسماء التي تخطر ببالكم ما زلن هناك يتعرضن للإذلال والأذى وأقصى درجات القسوة.."

وربما كان النظام العراقي هو النظام الوحيد في العالم الذي يعلن عن عدائه لبعض الطوائف في شعبه في وضوح، بل ويكيل لهم الاتهامات السياسية والاجتماعية والدينية، بل وتصل لهجة الخطاب السياسي الرسمي إلى حد البذاءة أحيانا، فجريدة الثورة العراقية تهاجم سكان الأهوار وشيعة الجنوب العراقي الذين ثاروا على سلطة حزب البعث في مارس 1991 بأبشع الألفاظ وتنعتهم بأقذر الصفات. وتقول الجريدة الرسمية بتاريخ 5 مارس عام 1991 "إن ما يتصل بالأهوار من شئون الحياة ومن العلاقة بين الرجل والمرأة لم يتأثر بشعائر الدين الاسلامي كثيرا كما أن معايير الحلال والحرام في الهور وأطرافه ليست معايير الحلال والحرام التي يفهمها أهل بغداد أو النجف أو القادسية سواء في حقول الملكية أو العلاقة الجنسية أو الزواج. وغالبا ما نجد عند هؤلاء نمطا من الانحرافات تترك عند سماعها الفم فاغرا. ومن المعروف أن الكثير من الذين أعدموا بقرارات من محكمة الثورة جراء الزنا بالمحارم هم من بين هؤلاء الصنف من الناس. وعموما فإن بعض هذا الصنف في أهوار العراق هم من أصول جاءت مع الجاموس الذي استورده القائد العربي محمد القاسم من الهند" !!

ولا أريد أن استرسل في المزيد من هذه الشهـادات.. ولكنها تصل بنا جميعا إلى حالة الأسر والافتقاد إلى الحرية التي يعاني منها الشعب العراقي.. تماما كما يعاني منها بعض أبناء الشعب الكويتي المحتجزين في العراق، وحين أحلم بالحرية فإنني أحلم بها للجميع ولا أستطيع أن أحس بالعافية مادام جاري مريضا مهما بلغ سوء أخلاق هذا الجار.

قبل النفق المظلم

أمامي نتائج دراسة قام بها الدكتوران أحمد عبدالخالق وعويد سلطان المشعان من قسم علم النفس بجامعة الكويت حول إدراك الآثار النفسية للعدوان العراقي لدى طلاب الجامعة الكويتيين. وقد شملت العينة 652 طالبا من الجنسين بعد عامين تقريبا من التحرير واحتوت قائمة هذه الآثار على 151 عنصرا مؤثرا وجاء في مقدمة هذه الآثار "كراهية بعض الدول العربية - الشعور بعدم الأمان - زيادة الإيمان بالله - عدم الاطمئنان للمستقبل السياسي - التفكير في احتمال عودة الغزو - عدم الثقة بالعروبة.."

إن مبعث الخوف هنا أن هؤلاء الشبان يستعدون لدخول نفق مظلم لا نود أن يدخلوه، ولا نريد أن تتراكم هذه الآثار حتى تصبح موقفا من الجنس العربي الذي ينتمون إليه. ولا نريد أن يزرعوا في أنفسهم أسوارا تعزلهم عن التفاعل مع مجتمعهم العربي.. وما يزيد من خطورة الحالة هو إحساسهم بأن هذا الجار العدو ما زال متصلبا مهددا متوعدا يقبض على جزء من أهاليهم ويحتجزهم رغما عنهم.

هل يمكن أن نعتبر إطلاق سراح الأسرى والمفقودين بداية لإغلاق ملف هذه الأزمة العربية الطاحنة؟.. إنها خطوة لا بد منها تفك الآسر والمأسور في آن واحد. تخلصهم معا من آثار الضغينة والكراهية التي تخلفت عن آثار العدوان، وتتيح لهما معا أن يريا تاريخ الخلاص وفي اعتقادي أن فك أسرى الكويت سوف يساهم في التعجيل بفك أسر الشعب العراقي الأسير بأكمله.

***

لم أكتب هذا المقال كي أستعطف أحدا أو لأذرف الدمع على الماضي.. بل كتبته كي أوجهه لضمير كل عربي وكل قارئ ومثقف كي تصل إليه الرسالة بوضوح دون لبس، فلأول مرة في تاريخنا الحديث يحتجز عربي عند عربي أسيرا مقهورا طوال هذه المدة ومن يود إصلاح البين عله يتذكر دموع أهالى الأسرى ولوعتهم، وعله يتذكر كم من الظلم وقع وما زال يقع على بشر تحولوا من أحرار إلى أرقاء، ونحن على مشارف القرن الواحد والعشرين.. فهل أسمعت؟. اللهم فاشهد.

 

محمد الرميحي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات