في البحث عن الممكنات الشاردة فهمي جدعان

في البحث عن الممكنات الشاردة

إن ركاما عظيما من الحواجز القديمة والوقائع الجديدة ينتصب أمام عالمنا العربي ويهدد مصيرنا في العمق، فماذا نعمل حتى لا تتجه الأمور إلى كارثة لا دافع لها، وما هي الممكنات الشاردة التـي ينبغي أن نلاحقها وراء الحواجز كي لا يفلت الوجود منا ويكون المستقبل أقل حرجا وأكثر أمنا وأعلق بأسباب البقاء؟.

لم يكن "التدخل العربي" في التـاريخ "مغامرة" من المغامرات وإنما كان "مشروعا" حقيقيا نال أصحابه من الدنيـا حظهم. ولست أدرى إن كـان هذا الحظ أوفر أو أقـل مما كـانوا يستحقـون في ذواتهم وأفعالهم، لكنني أميل إلى معتقد ميتافيزيقي صريـح يقع في "المنطقة الحرام" بين أفق الواقع وأفق الغيب، وهو أن "اللطف" الإلهي قد عدل من تقصيرهم وأسهـم إسهاما بـالغا في التمكين لهم في الأرض، وفي حفظ الوجود لهم على الأحوال التي نشهدها في هذه العقود الأخيرة من القرن. ولكـن من الذى يضمن أن هذا "اللطف" - إن كـان قد فعل حقا في ذلك الاتجاه الذي تحقق - سيظل فاعلا في هذه الأحوال وراعيا لها في التاريخ القابل؟ إذ قد تكـون قضية أهل التقى والدين - وهي أن الله حفظهم لحفظ دينه - صائبة. وما داموا قد ساروا، وفقا لكلمة الجاحـظ الفذة، "في طريق التمرد على الله" فلن يعود ثمة أي مسوغ لبقاء الأحوال على ما جرت عليه، ولن يتبقى أي حائل يحول بين الله وبين "رفع العلم" الذي لا يمثل في النهاية إلا "رفع الدين" ومتعلقاتـه من عالم الغي والضلال. أمـا النظر "الطبيعي" الخالـص فيقول إنهم قد أوصلوا الأمور إلى الحافـة، وأن الحال تتطلـب إعـادة الأمور إلى نصابها والانطلاق بالمركـب من جـديد في الأجواء الجديدة العاصفة. وخـلافا لعادات أهـل الثقافة والفكر من معاصرينا فإننا لم نعد في حـاجة إلى "استئناف" حركة النهضة ودفعها من جديد وإنما نحن بتنا في حاجة إلى إعادة "توجيه الدفة"، في ظروف غير مواتية على الإطلاق. وفي جميع الأحـوال لابد من أن نفترض أننا سنعمل، على الأرجـح، "وحـدنـا"، خـارج دائرة "اللطـف" ووفقـا لنـواميس الطبيعة بـلا زيادة ولا نقصان. وليس ينبغي علينا أن نركن، من وجه آخر، إلى "الأبطال"، فقد حـرقت المؤسسات والنظم والقوى الحديثـة أسطـورتهم، ولم تحصـد إراداتهم الفـرديـة "الملهمة" إلا الإخفاق.

لسـت في حاجة إلى أن أكون استرايجيا من الطراز الرفيع لكـي أتبين- فيما يخص عالمنا البؤر المركزية والوقائع الكبرى التـي تشخص اليوم أمام أبصارنا وتنصب حدودا ومحددات وآفاقا وحواجز ونوازل تحكم نشاطنا وفعلنا. فمن بين هذه الوقائع الصلبة والنوازل تتقدم نحـونا أربع أساسية، ثقيلة ضخمة ذات سطوة وجبروت، بعضها قائم مستمر، وبعضها فعل ويمكن أن يتكرر فعله ويمتد أثره، وبعضها آت قادم على الطريق، وضروب مناشطنا وأفعالنا القابلة مدعوة للامتثال لأحكامها ولإدخـالها بصورة قسرية في توجيه هذه المناشط والأفعال.

وقائع للتذكر

الواقعة الأولى: الانتصار الساحق للحضارة الغربية وليس المقصود فقط ما يسمى ثقافيا بالمركزية الغربية، وإنما أيضا وعلى وجه التحديد استئثار الغرب بأحوال القوة والهيمنـة، والعلـم والتقنيـة، والثروة.. ومـا يحلو للحذلقة السياسية- الثقـافيـة أن تسميـه بـ "المبـادرة التـاريخيـة".. وحـدود هـذه الـواقعـة مشهـودة: العلـم بما هـو قدرة، العقلانية، الذرائعية التقنية، وكل ذلك اليوم بيد الغرب وبيد الغرب وحدة

الـواقعـة الثانية: تفجر قـوى الغريـزة العربيـة وانـدفاعهـا في طريـق العدوان والتعدي والإفناء والتدمير الجماعي، وامتهان كـرامة الانسان العربي وحقوقه الطبيعية، والعبث بالمقدرات الوطنية وبالخير العام، وتجذر منظومة قيم الجبروت والاستبـداد والخير الخاص؛ وبكلمـة بلـوغ العطب الأخلاقي القاع والأعماق.

الواقعة الثالثة: اضمحلال الجسم العربي وتآكل بناه الـذاتيـة، والتحـول مـن المبـادئ الجامعـة إلى الخصوصيات الإقليمية الشوفينية والمصائر المتمايزة المتباعدة، ويرتبط بهذا التضاؤل إحياء واسع لروح العشيرة وعطب أخلاقي ذريع، وسقوط مروع في وهدة المديونيات المرعبة بسبب الفساد وسوء الأداء العالي للسياسات "الوطنية"، وعجـز عن التكيف مـع تسارع حركة العالم، وتخلف مذهـل عن جحافل العلم والتقنية المتقدمة، وخطر نضـوب الثروات الاستراتيجية التـي هيأت لأجزاء كبـيرة من العالم العربي سبل التطور والنماء والرفاه، واتجاه ثابت نحو أوضاع اقتصادية واجتماعية قد يكون الفقر والعوز علامتها الفارقة.

الواقعة الرابعة: الدخول في حقبة السلام العربي - الاسرائيلي، والسير على طـريـق التصفيـة الـرسميـة والقانونية المحلية والدولية لصراع القرن، وهذه الواقعة، في النظام الحضاري وفي "الحالة العربية"، لا تقل خطرا وجسامة عن واقعة ظفر الحضارة الغربيـة نفسها، وهي إن تـم لها الاستقـرار والثبـات - ستكـون بكـل تأكيـد مبدأ لشبكـة من العلاقات المعقدة الدقيقة، وأصلا لتحولات عميقة في أشكـال البنى الاجتماعيـة والنفسية والمادية، وحافزا لصيغ جـديدة من التحدي والصراع. ولا يراودني الشك إطـلاقـا في أن الأوضـاع المتجذرة والأحوال القائمـة في العالم العربي اليوم ليست مكافئة على الإطلاق لشروط الحدث ومتطلباته، وأن تحولات في العمق ينبغي أن تتـم كـي يكون الصراع القابل غير كارثي في النتائج والآثار.

مخاطر الذات

تعترض طريق مقاربتنا للوضع المعطى لنا الآن صعوبات مربكة تتعلق بذواتنا المرشحة أصلا دون غيرها للانخـراط في هذه المقاربة. فليس سراً أننا أصبحنا كثيري الشكـوى من ملكاتنا العقلية ومـن مكامن نفوسنا ومن كفايتنا الذهنية، والمسألة ليست بنت هذا القرن أو بنت اليوم. ففي القرن الثالث للهـجرة أبدى الجاحظ ملاحظـات مثيرة حول السمات الفارقة لما سيسمى في العصر الحديث بالعقلية السامية وبالعقـل العربي، إذ نسب إلى العرب فكـر "الإلهام" و"الفطرة" و"الطبـع" و"الخطرات"، ومـع أن هذه الملاحظات قـد جاءت في معرض الثناء والمديـح، فإن الاستشراق الفيلولوجي في القرن التـاسع عشر قد ذهب بعيـدا في تعليـل هـذه الظاهرة وفي تقريـر التمايزات العرقيـة الأصلية العميقة التـي حـددت للعرب من الساميين خصائص نـوعيـة هبطـت بهم عن مرتبـة الخصائص النوعية المباينة التي لأهل الغرب الضاربين في الجذور الآريـة. ومنـذ رينـان حتى برنـارد لويس وباتاي، وبينهم شرائح عديدة مـن تيارات الاستشراق العرقي والرومانسي والسياسي والثقافي، خضعـت "الأنا" العربية لشتـى أنواع التشكيلات والتمثيلات، وقد اتجهت جملـة هـذه التحليلات إلى تثبيت الذات العربية والإسلامية في جملـة من الصيغ المبتسرة والجواهر "المعلقة" الأبدية، فالعرب غارقون في التمثيـلات الحسيـة الذرية، وهـم عـاجزون عن التفكـير العقلي المجـرد، والمسلمون متبلدون عقليا، والشرق صوفي في جوهره، وذكاء العرب ذكاء غـير منظم، وهم عاجزون عن الوحـدة المنضبطـة الملزمة، والغـدر من طبعهم يعبدون القوة والنجاح، أهـل قول بلا فعل ووعد بلا إنجـاز، انفعـاليون شهوانيـون يبحثون عن المتعـة، وينتجـون أنفسهـم جنسيـا إلى غير نهاية، عقـولهم متحجـرة متبلدة، وأنواتهم استبداديـة (إدوارد سعيـد: الاستشراق...). بيـد أن أطـروحـة رينان تظـل هي الأخطر، وهـي أن بين العرب والعقلانية جفاء يمد جذوره في البنية الجوهرية للعقل العربي ذاته. ولهذا السبـب كـان من المحـال أن ينشأ تقارب بين الشرق والغرب. فالشرق صوفي والغرب عقلاني. ليسـت هذه الدعاوى جميعا إلا أساطير والعلـم لا يعترف بـأي منهـا على سبيـل الخصائص الجوهرية إنها خصـائص عارضـة مألوفـة ومشتركة بين كـل بني البشر، بدرجات متفاوتـة، وتبعا للظروف والأزمنـة. والمسألة بكل تأكيد مسألة ثقافية خالصة، وليس أدل على ذلك من واقعة بسيطـة بديهية يلمسها كل من انتقل من عالم الثقافات العربية المحلية إلى عالم الثقافـات الغربيـة، ورأى بأم عينيـه أن "الخصائص النوعية" لأولئك الذين ينتقلون من العالم الأول إلى العالم الثاني تتحول، وأن المنـزرعين الجدد يندمجون ويتمثلون خصائص الثقافات الجديدة بعـد حين من الدهر غير مديد. ومعنى ذلك أن خلـق شروط ثقافية وحضارية جديدة على أرضي الثقافات التي تنتج تلـك الخصائص المرذولـة يصلح لأن يكـون مبدأ لتغيير هذه الأحـوال، ولأن يمنحنـا قوة وسلاحـا رادعين بإزاء حـالة الخوف من ذواتنا ومن المكنونات الجوهرية البغيضة التي يزعمهـا لها أصحاب الاستشراق العرقي والمروجون الشعبيون لدعاواهم الأسطورية.

حرب الارادة

فالواقع هو أن اعتبار هذه "الخصائص" القابعة في زوايا الذات مجرد خصائص "ثقافية" غير "جوهرية" لا يغنينا عن تكثيف الإرادة لمقاتلتها داخل قلاع نفوسنا وإلحاق الهزيمة الحاسمـة بها، إذ بـدون هـذه الحرب الإرادية الداخلية لن يتسنى أبدا خلق الشروط الذاتية لإحداث التحولات التاريخية الثقافية الضرورية. ومن المؤكد أن رفعنا لحتمية الحضور الأبدي لهذه الخصائص في ذواتنـا والنظر إليها بما هي مخاطر يمكن تجاوزها وقهرها أمران يسهمان إسهاما حقيقيا في إظهار ممكناتس حيوية كـانت بعض الأوهام قد قمعتها وأخرجتها من مجال الوعي ومن ساحة الفعل.

حضارة التراث... حضارة الحداثة

تتعرض القواعد التي تستند لوجودنا الموضوعي في التاريخ وفي الوجود اليوم لاضطراب عميق. فالحضارة - ولأسمها حضارة التراث - تبـدو عاجـزة تماما عن مضاهاة حضارة الحداثة. والقوة الحقيقية التي تملكها هي قوة "تاريخية" غير فعلية. ومن المؤكد أننا حين نضـع (الحقيقة - الوحي) بين قوسين، خارج دائرة التراث، فإن الأشياء التي تتبقى من التراث - وهو التراث الحي - ليست كثيرة حقا. والحقيقة أن ما هو ممتد في حياتنا المحـدثة من التراث لا يكـاد يتجـاوز بعض العادات والتقـاليـد والآداب التي تخضـع باستمرار للتغير المتفـاوت بفعـل آثار الحداثة المنتشرة على نحو متعـاظم. ولست أشك في أننا نعاني هنا من عقدة ذات وجهيـن: عجـز حضارة التراث عـن مغالبـة حضارة الحداثة، والخوف من وطأة حضارة الحداثة ومـن الآثار المرتقبة التي يمكن أن تحدثها بعمق في شتى قواعد التراث. إننا في أغلـب الأحوال، سعداء بما تقـدمه لنـا الحداثـة الذرائعية مـن خيرات ومنافـع، وبما تحدثه في حيـاتنا الدنيـوية من أشكال الراحة والرفاهية - إن توافرت - لكن فرائصنا ترتعد حينما تتبدى في حياتنا اليومية مظـاهر مستحـدثة مـن العادات والأخـلاق والمعتقـدات الأخلاقيـة والاجتماعيـة. وهنا ينجـم "الصراع" في أعماق نفوسنـا وتتلبسنا أحوال "الفصام" النكدة التي نشهدها اليوم في شتى قطاعات الحياة. ويعمـق هذه الرؤية ويزيدها توترا وتجذرا أن عالم حضارة التراث - عالم العرب والإسـلام - يشهد منـذ أمد، وبسبب "أزمة انسداد الآفاق"، تحولا في فهـم الدين نفسـه إذ هو يصبـح، لدى القوى النشطة الجديدة، طريقا للتحرير السياسي المطلق، وبديلا حتميا لحضارة التقنية والحداثة، وليس هذا هو العنصر الجديد الوحيـد في المسألة. فإن القوى الموجهة لحضارة الحداثة قد استجابت فوراً لمتطلبات هذا التحدي وبادرت إلى التخطيط لمجابهته وإزاحتـه من الطريق. لاشك أننا لن نقدر الأمور حـق قدرها إن نحن اعتقدنا أن المسألة تتلخص بكل بسـاطة في "مؤامرة" تستهدف استئصالا جذريا للإسلام من الأرض ونحن أيضا سنخطئ إن اعتقدنا أن الإسلام بما هو دين يمكن أن يكون مقبولا أو "معتمدا" لدى أهل حضارة الحداثة.

إن كل ما في الأمر هو أن حضارة الحداثة لن تسلم إلا بمرجعياتها الخاصة، وهي لن تقبـل أية سلطة تأتيها من الخارج. وهـي حضارة قوية واثقة من أسسها ومقوماتها، غالبة، مسيطرة، ليس للدين عندها مدخل في تحديد وجودها ومصيرها وإن كـان بعـض مفكريها يستلهم أحيانا هذه الفكرة أو تلك- ممـا يمكن أن يكون ذا رجـع ديني، وبشكـل أعـم "روحـي" وبرغم وعيها بمركزيتهـا وبصدارتها التاريخية إلا أنها لا تنفر بالضرورة من تعدد ثقافات الأطراف وتنوعهـا ما دامت هذه الثقافات لا تنزع إلى أن تشكل قوى مركزية تهدد ظفرها وتفوقها ومستقبلها. إن كـل ما قيـل عن "نظام عالمي" أحادي جـديد لا يرقى إلى مرتبة الحقائق النهائية القاطعة لأن أي نظام من هذا النوع لا يمكن أن يكون بأي حال من الأحوال مكتفيا بذاته غنيا عـن مشاركة الآخرين أو محاورتهم. ومعنـى ذلك كله، أنه يتعين أن يكون بينا أن التقابل (حضارة التراث - حضارة الغرب)، لا يعني بالضرورة التقابل (الإسلام - الغرب). ومثـل هذا التقابل يمكن أن يصيـح واقعيا إذا ما تحول الأول فعلا إلى كتلة مشخصة هدفه قلب الدنيا على رأس الغرب والحداثة ومناصبة حضارة الحداثة وأهلها عداء لا يرحم. لكن دفع الأمور في هذا الاتجاه لن يضمن الغلبة على حضارة الحداثة لأسباب لا يتعـذر بيانها. والهلكـة كـل الهلكـة في ذلـك أن الانخراط في الحداثة هو "الممكن" الوحيد الذي يأذن بمضاهاة الحداثة ومجاراتها. بيد أن التسليم لحضارة الحداثة بكـل معطياتها وأغراضها وتجلياتها ومخاطرها العميقة لن يحقق السعادة لأحـد. وتوجيه هذه الحضارة لتـوافق الروح والوجـدان وحاجـات الإنسان الأصيلـة العميقة- أي التقدم الوجـداني- ضرورة لا مفر منها ولا غنى عنها. وفكر (ما بعد الحداثة) الذي كشف عن عيوب العقلانيـة الذرائعية وعن مخاطر التقنية المتفردة هو على حـق. وهو يتفق إلى حـد بعيد مـع المشروع التجـاوزي الذي ينبغي أن يتطلـع إليـه أبناء حضـارة التراث في المستقبـل. إن هـذا المشروع الأخـير مشروع يستحق العناء الذي يمكن أن يبـذل من أجلـه برغـم الصعـوبات التي تقف في طريقـه. والواجـب يقضي بوضعه في مجال النظر والتحقيـق الفعليين ما دام أي خيار آخر هـو أمراً غير ممكـن عمليا في المدى المنظور ولنا أن نتساءل أيضا: أليس هذا هو "الممكن التاريخي" الذي غاب عنا، إذ غفلنا عن الطريقة التي اعتمـدها العرب في الماضى حين قرروا بناء حضـارة إنسانية شـاملة، فـانخـرطوا في خضـم "العقلانية" اليـونانية وزاوجوا بينها وبين قيم الروح والـوجدان والخبرة الذاتية وأقاموا "حضارة التراث"؟

ها هنـاك وها هنا.. "ممكـن شـارد" تقضي كـل الأحكـام بأن نسارع إلى التعلق به بالقوة القصوى. إن حل عقدة الحضارة لـن يتـم إلا بعمليات التمثيـل والتجاوز والانخراط في الفعل الحضاري الذي تأذن به حضارة الحداثة نفسها، وتوجه إليه تطلعات الإنسان الوجدانيـة العميقـة. وفي مكـان الخوف والقلق ينبغي زرع المغامرة والإقدام والرجاء.

العدالة والتواصل

لم يخطئ المفكـرون العرب المعاصرون- والمتأخرون منهم على وجـه الخصـوص - إذ وضعوا الديمقراطية ووليدتها الحرية في مقدمة المثل التي تؤذن بالتقدم الاجتماعي والسياسي، أي بالنهضة. ومنذ عبـد الرحمن الكواكبي إلى المؤتمرات القومية العربية التي يعقدها المثقفون في أيامنا هذه تصـدرت الديمقراطية كـل المطالب. والمحافل الفكرية الإسلامية هـي أيضا سلمت بهذه القيمة وبذل ممثلوها جهـودا عظيمة في التقريب بين الديمقراطيـة والشورى، معتقدين بأن لهذا المبدأ مدخلا جوهريا في الخلاص، وذلك برغم تباين الآراء حول بعـض وجوه المسألة، حيـث ذهـب فريق- هو الأقلي- إلى أن الديمقراطية كفر صراح بينما ذهب فريق آخر- هو الأكثري- إلى أنها مبدأ مشروع لا يكـاد يستدعي غير أمر واحد هو أن نستبدل بمسماه الغربي مسمى إسلاميا هو الشورى. والشوريون الذين يعتقـدون أن الشورى تمثيلية شـاملة ملزمة هـم في حقيقة الأمر ديمقراطيون. إن هذا المثال، مثال الديمقراطية، يظل صالحا، اليوم وغداً، برغم تراجـع فريق من المثقفين عنه، تعلـلا بأن "القطيـع" لا يرقى إليه، أو تسـويغا لأنظمـة سياسية استبدادية يجدون منافعهم فيها أو يتعلق هواهم بها، أو خـوفا مـن أن تيسر الديمقـراطيـة للإسلاميين الراديكـاليين الوصـول إلى السلطـة وإصـدار حكـم بالإعدام على الديمقراطية والحرية كلتيهما بعد ذلك فورا، إن هذه المخاطر والمحـاذير هي بعـض وجوه "الرهان الديمقراطي"، وهي ليست في أي حال من الأحـوال مسوغا مشروعا للتخلي عنـه ولـلانحياز من جديد إلى نظـام لا يجهل أحد طبيعته الكـارثية المدمرة، نظام الاستبداد.

وكـذلـك الحال في شأن العقلانية التي ندبنا حظنا منها وجعلناها مبدأ مركـزيا آخر للخـلاص. والحقيقة أنه لم يزعم أحد أبداً أن العقـل سلطة غير مرغوب فيها، والذين قالوا إننا (قاصرون عقليا) لم يكـونـوا أبـدا على حـق، لأن الحقيقـة أننا عقـلانيون جـدا لكن عقلانيتنا قد وضعت في خدمة منافعنا الخاصة وأهوائنـا الذاتية وأغراضنا القريبة. وإلى هذه النقطة بالذات ينبغي أن يوجه النظر بحيث يكثف الجهـد من أجل تقويـم الفعل وتحرير الإنسان من السلطـات الظلامية الخفية ليتمكن العقل والفعل من العمل معا بنظام وانسجام وجدوى.

بيـد أن ما ظل غائبا غيابا حقيقيا عن ساحة الرؤية ومجال النظر والاعتبار وحقل الفعل، قيمتـان جوهريتان لن ترقى إليهما أي قيمة أخرى في الزمن القابل، أضعهما اليوم في أول السلم وأجعل كل ما عداهما في الدرجات التالية منه: العدالة والتواصل.

غياب القيم العليا

إن جميع أشكال الصراع التي شهدتها العقود الأخيرة والحالية من الحياة العربية المعاصرة ترتد بالدرجة الأولى إلى غياب قيمة عليا أساسية هي قيمة العدالة: العدالة في الثروة العـدالـة في الحقوق والأمـانـات، العـدالـة في السلطـة، وذلك خلاف لما جـرى عليـه المثقفـون الليبراليـون الـذيـن حصروا المشكلة في القيم السياسية الخالصـة. لا شـك في أن بعض مفكري عصر النهضة قـد تنبهوا إلى أهميـة مثال العـدالة، وكـذلـك فعـل بعـض مفكـري الحركـات السيـاسية والاجتماعية لكن هـذه القيمـة ما لبثت أن انسحبت مـن الساحة وغابـت عن الأنظار في العقود الأخـيرة، واليوم تنـدفـع الـدول والأحزاب السياسيـة الليبرالية والقومية وفئات المثقفين المختلفة في مكـافحة حركـات التطرف الإسلامي وفي شجـب روح التعصب والقهر والاستبـداد لديها، وتغفل جميعها عن أن غياب العـدالة هو الذي يثوي خلـف جموح هذه الحركـات وليس على رجال الـدولة والثقـافة والمؤسسات إلا أن يصوبوا النظر بعمق فى قلـب القطاعات الاجتماعية من مجتمعـاتهم ليتبينوا اليوم وبـوضـوح لا يخدع أن الآفة تكمن في غياب العدالة الاجتماعية والاقتصادية، وفي ضياع الحقوق والأمانات، في سوء توزيع "الأدوار"، أو "سوء توزيع السلطة" وفقا لتعبير رالف داندورف. وفي بحثنا عن الطرق التي يجدر بنا اليوم اتباعها يتعـين علينا أن نخص هذه القيمة الشاردة قيمـة العدالة، بالمقام الأول في سلم "الممكنـات" الضرورية للتحـول السوي الآمن. ومن المؤكـد أن أية قيمة مركزية أخرى ستكون فاقدة للمعنى في غياب هذه القيمة الرئيسية.

وفي أيامنا هذه ليس يغفل عن مجالي الصراع - داخل هذا المجتمـع العربي نفسه، أو ذاك - وفي علاقة بعـض هـذه المجتمعـات ببعضها الآخـر، إلا فاقد البصر والبصيرة. لقد كـان هذا القرن بـأكمله قرن صراع. قضينا نصفـه الأول ونحن نناضل (الآخـر) من أجل الاستقلال السياسي. ثم قضينا نصفـه الثاني في الصراع (مع الذات) من أجل المثل الاجتماعية والنظم السياسية التي تصورنا خلاصنا فيها.

إننـا نتجه الآن إلى تشكيل عالم من الجزر كل جزيرة فيه تنشد خلاصها الشخصي وسعادتها الخاصة، وذلك بعد أن كان مفهوم الأمة الواحـدة والعالم العربي الواحد ينسج الآمال العريضـة ويعد بمستقبـل. لكننا اليوم، وفي مبدأ حقبـة "النوازل الجديدة"، لن نستطيـع خلق حقائق إيجابية جـديدة إذا ما ظللنا سادرين في نشدان مصائرنا الخاصة. إن مرحلة بروميثية جديدة تنتظرنا. وليس من المؤكـد أننا سنستطيع اجتيازها بسلام إذا ما وطنت كـل جـزيرة العزم على أن تتصـدى بمفردها للأمواج والأعاصير، وأدارت ظهرها لقيـم التواصـل والحب.

 

فهمي جدعان

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات