الوجه الخلفي للفكر العربي وعي المستقبل والأكثرية الصامتة شـاكر مصطفى
الوجه الخلفي للفكر العربي وعي المستقبل والأكثرية الصامتة
إني ليصيبني الرعب حين أتصور هذه الملايين العربية (225 مليون إنسان) تتمدد أجسادا مسطحة على الأرض خدرا وضعفا واستكانة بدلا من أن تكون مثل شجر السرو مشرئبة للسماء.. هل أصبحت غثاء أحوى. خـرساء دون صوت ودون مردود كبير، والأهم من ذلك دون تفكير بالغد أو وعي به؟! هذا هو السؤال! في شبابنا ونحن أغرار كنا نتصـور هذه الجماهير كتلة واحدة متماسكة. نؤمن أنها جسد واحد إذا شكـا منـه عضو تـداعت لـه سـائر الأعضاء بـالحميـة والدواء. كـان قتيل في المغرب يهز المظاهرات في المشرق كله. وكـان يخيل إلينا أن المستقبل ينادينا على حصان أبيض مجنح وهو يرقص للقادمين. ما بيننا وبينه إلا طرد المستعمر. على أننـا كلما ركض بنا العمر كنـا نصاب بإحباط بعد إحباط، ولا يزيدنا المزيفون من الحكام إلا انهيـارا. نحن منـذ أواسط الأربعينيـات نعيش عصر الإحبـاط والهزائم. مقـابل كل خطوة إلى الأمام ننزلق خطوتين إلى الوراء، أما المستقبل الراقص فهو يبتعد ثم يبتعد كرؤى المهووسين... ونحن في انتظار (غودو) الذي يأتي ولا يأتي! العملاق العربي ظل يتقزم أمام أعيننا وتتخلق فيـه، في الجسـد الواحـد، أجساد لها رءوس وأذنـاب وأسنـان تعض الأجسـاد الشقيقـة ومصالح وأعلام وأناشيد "قومية" وعداوات حقدية وحروب. تركنا الاستعمار مزقاً وراء حدود رسمها بالقلم والمسطرة حسب مصالحه ما اشترك فيها عربي واحد. أما الحلم القـديم فهرب كالأشرعـة المسحورة وراء الآفاق. وفتحنـا الأعين على ألف غول تغتال آمالنا الساذجة، وانبسطت بيننا وبين المستقبل المنشود البحار السبعة. أدركنا أننا لسنا أكثر من أطفال يحلمون بقطعة من القمر! فهل أضحينا دون مستقبل؟ هل سقط وعينا له مع من "سقط على دروب النضال"؟ أضاع على الطريق؟ في هذا البحران السياسي الذي نعيش فيه الضيـاع المطلق، ومع ازدياد الجشع الخارجي والعمى الداخلي الاقليمي صرنا نصدق أننا لسنا كتلة اجتماعية متماسكة ولكن جموع كتل مهلهلة، ولا كتلة سياسية ولكن تجاور أقطار، ولا كتلة اقتصادية ولكن خليطاً من نظم يرجع إلى العهد العثماني. ولولا اللغة العربية والإسلام لما أمكن الحديث عن وجود منطقة ثقافية على الحوض الجنوبي والشرقي للبحر المتوسط. ومع ذلك فالغزو الثقافي الغريب يهز هذه المنطقة هزا. وتعلكنا في الوقت نفسه تيارات من الدجل السياسي ومن تضارب القيم الاجتماعية ومن الاقتصاد السكوني يتفاعل بعضها مع بعض على بعدي الزمان والمكان فليس تدري هذه الكتلة الصـامتة من الجماهير العربية أين رأسها من القدمين؟ لكنها ترى أمراضها تستشري وتفتك. البطالة حتى للمتعلمين تتضخم في حين تقوم انتفاخات من الثروة لا تصدق في بعض المناطق ولدى بعض الطبقات والأفراد. وترى قاع الفقر يهبط باستمرار لدرجة الجوع ويزيده الاستهلاك العبثي ضيقاً وعمقاً في حين تغرق الثروات العربية في بحار الآخرين. وترى انسحاق الإنسان العربي بالنظم "التوتاليتارية" المتنوعة. وبالارهاب المنظم والانبطاح للأجنبي في حين تزيف حقوقه أمام عينيه وتقتل كرامتـه. وترى ازدياد الجهل والأمية وتأخر التعليم في الكم والكيف. في القديم وحتى مطالع القرن الماضي لم يكن أحد منا يفكر في الغد. القضية محسومة. الغد هو الآخرة ويوم القيامة والحساب يوم تشوى جلود الكافرين في جهنم والخاطئين، ونعم مثوى المتقين في الفردوس مع الحور العين. هناك دار المستقر. أما هذه الدنيا فدار ممر ومفر، وهي للعمل الصالح أو الطالح، وللسير بأوامر الله أو بنزعات الشيطان. قل كل يعمل على شاكلته فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره! لكن... منذ اصطدمت هذه القناعات الايمانية السكونية بالفكر الغربي بدأ القلق؟ ولكن في شرائح محدودة من النخبة. الغد بيد الله. بلى! قطعا. لم يتزعزع الايمان بذلك. غير أن أفقاً جديداً انفتح ضمن الحياة الدنيا، ودخل علينا قاموس جديد من الكلمات: التطور. التقدم. التغير. التفكير لفي الآتي. كان انقلابا في الفكر أن يدخل المستقبـل دنيوي آخر على الخط بشكله الغامض المبهم ويثير التسـاؤل في ضمير "الشرق" النائم! كيف بدأ القلق؟ بـدأ ذلك قبل الغـزو الفـرنسي لمصر، ولكن ازداد وتوضح بعد البعثات التي أرسلها محمد علي إلى أوربا بوصفها طليعة، السلطان محمود الثالث اشترك فيه والطهطاوي والتجار المتصلون بالغرب والقنصليات الأجنبية! ومنذ مطالع هذا القرن تكامل الوعي لدى الطلائع المتفتحة بضرورة التطور صار الغرب هو هذا المستقبل الدنيوي، وسمينـا ذلك "بالنهضة" أسوة بالنهضة الأوربية. وصار لهذه النهضة رجال ينطقون باسمها وصحف وأدب وتحرك اجتماعي ثقافي مشى في مواكبة مجموعة من الشعراء ينشدون: البارودي، شوقي، مطران، حافظ، الزهاوي، وكواكب من الكتاب والعلماء: علي يـوسف، لطفي السيـد، صروف، شبلي شمبل، زيدان، اليازجي، البستـاني، طاهر الجزائري، قاسم أمين، رشيد رضـا، الكواكبي، محمد عبده، الأفغاني، خير الدين التونسي. ونجم عن هذا التفكير المستقبلي الدنيوي ثلاثة أمور: الأول: أن الاحتياط للمستقبل الأخروي كان فردياً كل نفس بما كسبت رهينة وكل محاسب على عمله ولا يظلم ربك أحدا. أما المستقبل الدنيوي الذي تسلل إلى الناس أو "النهضة" فكـان جماعيا. الكل مسئول عن الكل. ما من أحد يستطيع أن يصنع المستقبل والغـد بنفسه ولنفسـه. الجميع في مـركب واحد. إما أن يطفو الجميع أو يغرق الجميع. هذا منطق القرن العشرين. الأمر الثاني: اشد خطراً: هو أن النهضة الأوربية منذ بدأت طرقت مع فكرة التقدم فكرة الغد معها. ليونـاردو دافنشي عبقري القـرن الخامس عشر رسم الدبابة والرافعة والغواصة والسيارة حسب تصـوراته ولكن بمنظور مستقبلي. الذين كتبوا الأحلام الطوباوية ونظريات المدن الفاضلة والأفكـار السياسية كتبوها للجماعات لا الأفـراد والذين كتبوا قصص التنبـؤ العلمي كانوا يرسمون "السـوبرمان" الآتي، والذين استندوا في النهـضة الأوربية إلى التراث اليوناني الوثني استندوا إلى تراث يريدون مفارقته. يريدون الخلاص منه إلى غيره، كان هذا التراث بالنسبة لهم شيئاً بشرياً دنيوياً، كذلك حوروا في أرسطـو وهزئوا من أفـلاطون وانتقدوا أبقراط وأرخميدش وأفلوطين دون خوف من غضب القوى السماوية التي نصبناها نحن "تابو" وسور حمايـة لما لا قـدسية لـه، ولا يستحق الحـماية. ولكننـا خلقنا منـه أملا رومانتيكيـاً وجعلنـاه مستقبلا دينيا دنيويا. وهكـذا بـدأت مع التفكير في الغـد، في أذهـاننـا السكـونية، ثنـائية حـائرة! كيف نوائم ونجمع ما بـين ديننـا وقيمنـا وسلـوكنـا الاجتماعي حتى في الأذواق والأغـاني وبين الغـرب المختلـف عنـا في كل شيء؟ وسقطت هذه الثنـائية فـوراً على مشكلة ظللنـا قرناً ومـا نـزال نعيـد الحديث ونكـرر ونحاول حلها دون طائل: مشكلة التراث. إننا ملتصقون به. فكيف نحملـه معنـا إلى الغـد؟ جـذوره الدينيـة عميقة فينا بتجذره (رغم أنـه تراثات شتى) فكيف إلى جمع هذه المعادلة المتناقضة؟ أن نتخلى عنـه ولا نتخلى في وقت واحـد؟ أنختـار الحسن منه؟ ولكن مـا الحسن؟ ومن له سلطـة الاختيار؟ وما المعايير المرجعية للاختيار؟.. وتركنـا المشكلـة تتغلغل في قلب تصـورنـا للمستقبل كـالجرح الغائر! الأمر الثالث: أننـا، حين أخـذنـا في التخطيط للنهضـة ركضنـا إلى الماضي نريد إعادتـه. كـان من الغـريب أن تفكـيرنا في المستقبل دار على نفسـه 180 درجـة ليتجه إلى الماضي. نظرتنـا المستقبلية نقلت عيوننـا إلى مؤخرة الرأس فنحن نسقط الماضي التليد على المستقبل الطارف الوليـد. ونفكر في إعادة عهد الـوليد والرشيد. وانتشرت للأمس التاريخي صـور لا تخلو من الأوهام والأسـاطير الذهبية. ولم يسأل أحـد كيف يعيـده. وغالباً ما تصـورنا أنـه "بالنهضة" فقط سيعود من نفسه وبالمجان. في الوقت الذي كـانت فيه قضيـة التراث تلبس مسوح القـداسة، فصـار من الصعب المساس بها، ألصقوها إلصاقا مباشرا بالدين. الوحدة.. الحلم الرومانتيكـي وجاءت فترة من قبل ومـا بعد الحرب العـالمية الأولى وشغلنا بقضية التحـرير. اندمج التحرير مع النهـضة. صار الاستعمار جـرحاً على النهضـة، عـدواناً على المستقبل. فشغلنا بحرب المستعمر. أضحى التحرر السياسي هو المستقبل والغاية. من المؤكـد أن أحداً لم يفكـر بـما بعـده إلا بقضية واحـدة اعتبرناهـا (تحصيل حـاصل) هي: الوحـدة العربيـة. ووضعنـا لها "سيناريـو" رومانتيكيا كـالحلم الـذهبى، ليس بأقل وهما من صـورة النهضـة. بسـذاجـة منقطعة النظير كنا نتحـدث عنهـا حديث الأطفال عـن لعبة ينتظرونها من "بـابـا نويل"! لم نفكـر ولم نقم وزنا لما يدور في الدنيا من مؤامرات، لدجل السياسيين واحدا بعد الآخر، لما قد نصطـدم به مـن الصخور والمفاوز والمهاوي. ولا لأنانيـات الحكـام ولا لمصـالح الاقتصاديين المتضـاربة ولا لتباين المستويات الثقـافية. حتى يوم نبتت الجامعة العربية اعتبرناها خطوة سوف تتبعها خطوات. الأحزاب السيـاسية التي قامت، في المشرق خاصة، كـانت تبث في برامجها هذا التفكـير المغرور، كلها دون استثناء لم تكن تعتبر الغد أمرا يستحق التفكير، ما خطا واحد منها خطوة إلى الغد أو رسم تصوراً له. حسبوه ساحراً سيحل العقد جميعاً بلمسة من عصاه. بعد الحرب العالمية الثانية وبعد أن سفح العالم خمساً وخمسين مليون ضحية على الأرض، نسي الناس كلمة "النهضة". كانت قد استهلكـت وفقدت مصداقيتها. وتفتحـت الأعين على واقع جديد. في هذا الواقع تحررنا في سنـوات من المستعمـر. ركضنـا وراء الـوطنيين والقـوميين نحمل حكوماتهم على الأكتاف. بلعنا ما سقونا من الشعارات باسم فلسطين (وكلهم خدعونا باسم فلسطين) ركبوا ظهورنا وساقونا جموعا عمياء. بل كنا نتقبل منهم الفواجع: كارثة سنة 1948 ثم كـارثة سنة 1956 ثم كارثة سنة 1967 وما تبعها من مسرحية لاءات الخرطوم الثلاث، وأوجـدنا لهم معهم أسماء أخرى. ولكي تتم خـدعة النـاس اختطفوا من السـوق السياسي كلمات ترضي الطلائع المثقفة. القادة وأنصاف القادة وجمهور المصفقين طرحوا للتـداول كلمات مطلية بلون الذهب. أضـافوا إلى شعار الوحـدة شعارين براقين: الحريـة والاشتراكية. صار الشعـار ثلاثيا. وتوالت علينـا الانقلابات باسم هذه الشعارات يرقصونها كخيال الظل (قره كوز) أمام الأعـين ويغنون لها. ونحن نضرب الطبول! وبلغ بنا الغباء درجة الجدل في أي الشعارات الثلاثة نحقق قبل الأخر كأن المستقبل ينتظر فقط هذا القرار! لم نتبين إلا متأخرين جداً في الثمانينيات، أن الوحدة المعبودة وئدت منذ زمن وأن دون بعثها الأهوال وخرط القتاد. وأن الحرية التي بها ينادون هي حرية الحكام وحدهم في أن يتاجروا بنـا وبالمستقبل. وذبحت هذه الحرية تارة باسم الثورة وتارة أخرى باسم حماية الثورة وتارة بـاسم الرجعيـة وأخرى بـاسم الخلاص من الرجعية. أما الاشتراكية فكانت أكثر الشعارات غواية لأنها أكثرها غموضاً؟ كانت فاكهتنـا المفضلة خـلال أربعة عقود على الأقل أضحت شعار الفكر التقدمي. نتلمظ بالحديث عنها، وما قرأ أحد وبخاصة من الحكام أو من أطافوا بهم تهجية الأحرف الأولى منها. خبط عشواء كـان الناس يخبطون فيها. حسبناها مجرد نهب بعضنا لبعض باسم "التأميم"، باسم المحرومين. باسم العدالة الاجتماعية. كـان المستقبل الزاهر هو تحقيق الاشتراكية. ولكن مـا هي الاشتراكية؟ وكيف تتحقق تركنا ذلك للغد الآتي! وأخيرا، بعد أن أفلست الاشتراكية بانهيار ممثليها برزت في السـوق كلمة "التنمية" و"مشاريع التنمية" و"التنميـة الشاملة"، صارت تعبيراً عن ضرورة تغيير المستقبل "الروتيني، ولكنها منذ وجـدت في دول العالم الثالث (ومنهـا الدول العربية) أخذت فـوراً المعنى والطابع والطرق الاقتصادية. فالمال عصب الحياة، ولا صـوت يعلو على صوت الخبز والمعدة الجائعة. كـان المثل الروماني القديم يقـول: من يدفع المال يختار اللحن. وقـد لعب المال الامريكي لعبتـه في مشروع مارشال في أوربا، ولعب البنك الدولي لعبتـه في العالم الثـالث، ولعب القمح دوره في إخضاع النظم المتمردة على أمريكا حتى في الاتحاد السوفييتي. وكان العائد من مشاريع التنميـة، في البلاد التي قامت فيهـا هذه المشاريع صفراً أو دون الصفر والعائد على الدولة (أو الـدول) الممولة هو أضعاف ما دفعت، وانكشفت اللعبة عن فشل ذريع! فشلت التنمية القائمة على رجل واحدة: الاقتصـاد. فالانسان ليس معدة فقط. وما بالخبز وحده يحيا الانسان وبدأ البحث عن علة الفشل في الوقت الذي ازداد فيه القلق المصيري حول الانسان. وانقلب الأمر فبدلا من أن يبحث الإنسان عن خبز يومه صـار يبحث عن المستقبـل، عن المصير، عن مستقبل أولاده. مع تطـورات العـالم العلميـة والاجتماعيـة والاقتصادية، جعل الغد يحتل الساحة وصار الحديث عنه نوعا عن الأدب المستقبلي. يقرأ بقلق. ويقرأ بلهفة أكثر مما يقرأ التاريخ الماضي. الأصولية تستشري والسؤال الآن: لإلى أي درجة نفذ الوعي المستقبلي إلى صفوف الجماهير العربية؟ أو بعبارة أصح ماذا بعد أن سقط الشعار المثلث: الوحدة والحرية والاشتراكية وسقط معه الشعار الأجير: التنمية؟ ووقع الناس في بحران الضياع؟ هذه الكتلة "الثقافيـة" (ولا نستطيع أن نسميها أكثر من ذلك) التي تشكل سكان الوطن العربي تقف الآن مرغمة، مكتفة الأيدي أمام المستقبل المباشر وجهاً لوجه. فإلى أين المسير؟ تطورات العالم تدفعها دفعاً عنيفاً نحو الغد فكيف ردود فعلها؟ إنها ليست كتلة ثقافية منسجمة. وقد يحلو للغربيين ومن يماشون الموجة أن يروها ثنائية الطبيعة وذات قوام انشطاري: فشطر أصـولي رجعي المنظور والمرجعية، فتحت عيونها في رأسهـا من الخلـف فلا ترى المستقبل إلا من خـلال العودة إلى الأصول الأولى للدين والماضي. وشطر يرى بالعكس أن المستقبل هو في تبني "الغد" العربي (وإن لم تكن لنا وسائل إدراكـه). وإذا حرص الأولون على قتل الغرب، فالآخرون يحرصون على قتل التراث. وبديهي أن "الأصولية" تستشري كطريقة من رد الفعل على الهيمنة الغربية وقد تصل بها الحماسة والتعصب حد الإرهاب والقتـل، وأن المتغربين يحاربونها باسم رفض الرجعية وباسم الانتصـار للغد وقد تصل بهم النقمة حد التحلل من التراث، والتنكـر للذات القـومية والذوبان في "الآخر" والواقع أن الطرفين يدعيان صياغة المستقبل. أحـدهما باللحيـة والثوب القصير والثـاني بالقبعة والبنطال! والمشكلـة هنـا هي في البحـث عن "صـوت" هذه الكتلـة الكبرى الصـامتـة. وعن مدى قلقهـا على المستقبل. وقبل القلق عن مدى وعيهـا له وإدراكها لأهميتـه. بلى! أعرف أن هذه "الكتلة" ليست واحـدة منسجمة وأنها على درجـات متفاوتة من وعي المنظـومة الفكريـة ومن سعة المعارف وضيقهـا ومن تنوع الخبرات والمشـاعـر والمعتقدات ومن التفـاعل مع عالم المادة والطبيعة والبشر. وأعرف إلى هذا أن الانسان هو الذي يصنع ثوابتـه الفكرية ومكـوناتها كما يصنع المتغيرات في صيرورة دائمة الحركـة والتكـون. ومن خلال عمليـة التراكم عبر العصـور. ونتيجـة لـذلك لا يتكـون وعي المستقبل بين يوم وليلـة. ولكني أعرف إلى هـذا كلـه أن صـدمة المستقبل قـريبـة جـدا وأنها، في معطيات العمر الـذي نعيش لن تكون مجرد صـدمـة. إنها عملية انسحـاق! لم يعد المستقبل البشري امتدادا لا نهائيا كما كـان من قبل، هين التحولات، ولكنه غد الجبروت الفكـري، وبنوك المعلومات. غـد الانسان الذي يتحـدى نفسـه. وليس أمامنا من مهلة أبداً. عوائق استشراف المستقبل صحيح أن عوائق في مثل عناد الصخور تحول بيننا وبين استشراف المستقبل منها الاقتصادي فالبحث عن اللقمـة مقدم على التفكـير فيما بعدها. والمعـد الجائعة قوارب الشيطان همهـا في اليومي والمباشر. ومنهـا الديني الاجتماعي فالشطحات الدينية الساذجة تجعل الغد قـدراً إلهيا لا يتغير. وتجعل همهـا في حجـر العقل واتباع النص التراثي. ومنها السيـاسي وهو الأخطر و"عقـدة" النجار! فالجموع مكبوتة بالدكتـاتوريات الصريحة والمقنعـة. النظم تضع في فمها ما تريـد أن تقول، تصرخ عنها، تغني باسمها تفكر عنها وهمها في البقاء اليوم لا في ما يكون في الغد. فالديمقراطية حوار بين طرشان، والحرية أقفاص ملونة للكروان والكناري. ولسان الجماهـير قطعـة من حلوقها المغلقـة. والذين يخلقون في القاع صاروا يخلقون خرسا عميا بكما، وإن كـانت لهم أبصـار منطفئة. الطبقـة والتي يسمونها الـوسطى والتى تشيل المجتمـع تمزقت شرائح بـالطـول والعرض. فهي من جهـة فئات وطوائف ومن جهة أخرى جموع هوت إلى القـاع ووحل القـاع. من فوقهـا جماعات تعيش كالعلق المنتفخ على امتصاص الدماء! لكن... أيكون هذا كله عذرا لنسيان المستقبل؟ وبخاصة هذا المستقبل الهدار الآتي اليوم؟ لسنا كلنا في بلد العميـان الذين لا يبصرون. ولا كلنا بالصم البكم في سرب يعمهون. وليس من الضروري أن تكون الكتلة البشرية كلها علي درجـة واحـدة من الوعي بالمستقبل المهم أن تكون الطلائع هي الواعية بوضوح أين المسير؟ لكن الجماهير بدورها، بوصفها كتلـة ثقيلة، بطيئة التفاعل والتجاوب يجب أن تكون متشبعة بالغد. متطلعة إليه. لا بد أن يتغلغل المستقبل الجماعي فيها ويصبح أحـد همومها وأحد دوافعهـا للحـركة والفاعلية، الجماعـة لا يقوم بها أفراد ولا أبطـال ولا "سوبـرمان" إنما يقوم بها تفاعل جماهيرها على المحاور كلها من اجتماعية ودينية وعلميـة وفنيـة وسياسية وثقافية، عبر الزمن. فالمستقبل ليس صورة ترسم ولا "هرقل" يقارب بحـرين ويباعد برين، لكنـه صيرورة دائمـة التغير والتطور والتنـوع والتفجر، وعمل ضمن هـذه الصيرورة لا ينقطع. النيام وحـدهم هم الذين يفقدون الرهان لأنهم لا يكونون قبله قد فقدوا المستقبل فقط ولكـن فقـدوا أنفسهـم! والمشكلـة الكبرى في اعتقادي أن الأكثريـة الصامتة بجميع تلويناتها وبما يتسرب إليهـا من افكار المجموعتين المتطرفتين وبما تعرف هي نفسها من حتميات الوجود ما ادركها بعد وعي المستقبل. وإنه غير موجود في معجمها اليومي وتحسب أنه آت دون جهد، ودون أن يدفع أحد الثمن! في الوقت الذي يقبل علينا فيه "غد" مختلف نوعياً عن كل أمس سلف، ويقبل علينا بسرعة صاروخية، ونحن عيون جـامدة حجرية تنظر. كأنه قد حـذف من قامـوس الناس، لا وجود قريبا له أو كأنه لبس "طاقية الإخفاء" فهو شبح غير مرئي. قبل مائة سنة كان المستقبل بعيدا عنا مائة مرة. لا نستطيع أو لسنا في حاجة إلى تلمسه إلا في تصـورات كـالـرؤى. أما اليوم فهـات أجنحتك يا زعازع الجن والحقي بالآفاق. الكومبيوتر من جهـة، وسائل الاتصال وقواها الساحقة وتدفقها الوحيد الاتجاه من جهة أخرى الهندسـة الوراثية من جهة ثالثة، الذرة وبدائل الطـاقة من باب رابع، المعلوماتيـة والسيبرناتيك من باب الأبواب.. وغيرها دفعت العالم ركضا في الغد المختلف قبل أن يصل الغـد.. المستقبل يفـرض نفسـه على الحاضر ويسيره. ويسـد الآفاق من ورائنـا ويفتح ألف أفق في الآتي. تصوراته تنزل الأسواق بألف صيغة وألف شكل ولعل الأهم من ذلك كله، وقبل ذلك كله، مـا سوف يتبعه من تغير جـذري في العلاقات الانسانيـة والدولية وفي اخلاقيات الانسان. إن إنساناً جديداً يخلق تحت أعيننا ونحن لا ندري! انتقل الإنسـان بين فجـر وضحـاه من المشي على الأرجل إلى الطيران بـالصواريخ والأقمار. السنـوات العشرون الأخيرة - ولسنا ندري ما سيكون بعدها - ألقت بالبشر في الفضاء الأوسع حتى ما عدنا نعرف ملامحنا. دوار السرعة الـرهيب يلفنا كالدوامة حتى نكـاد نفقد حـاسة الاتجاه. مات الهدوء. مات التغير البطيء. مات ما يسمى بالتطور. العواصف الانقلابية تتوالى فيما نكاد ننظر ألغاز السابق منها حتى تبـدو أشرار اللاحق منها، وتبرز قرون الذي يلحقه... هذا والوطن العربي منطقة رخوة من النـاحية الجيوبوليتيكيـة، مختزنة بعمق وموضـوعة على جدول أعمال النهب والسلب الدولي والاقليمي. وكل يطمـع بها حسب قـوته وفـرصتـه وإمكانـه. والذين يتصدون لرسم المستقبل سواء من أصوليين أو من المتغربين كالقطط العمي، والنظم كقطع الاسمنت المسلح لا يكـاد ألف إزميـل ينقش عليها كلمة... فما العمل في هذه الحلقة المفرغـة؟ القضية الخطيرة هي أننا على عتبـة انقلاب في البشرية لم تعرفه أبداً من قبل ولا ندرك في أكثريتنا الصامتة أننا على شفا هذه العتبة. وان الهوة تحتها هوة دون قرار! أمثولة أخيرة كنت أتحدث مع
صاحب من أصحابي ببعض هذا الحديث فقال:
|
|