الدعوة إلى الإسلام محمد عمارة

 بدأت دعوة الإسلام ورسالته، في طورها الخاتم بنزول أمين الوحي جبريل، عليه السلام، على محمد - صلى الله عليه وسلم - في ليلة من العشر الأواخر من شهر رمضان، وهو معتكف يتحنث ويتأمل ويتعبدلله في غار حراء - بمكة - وفق ما تحصل لديه من الحنيفية- بقايا ملة إبراهيم عليه السلام- فكان محمد هو "أمة الدعوة"، التي توجه إليها جبريل بالدعوة، فلما استجاب لنداء ربه: اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم. الذي علم بالقلم. علم الإنسان ما لم يعلم - العلق - 1 : 5 أصبح "داعي الله" ونبيه ورسوله إلى العالمين، الذين غدوا - على مر الزمن، وتوالي الأجيال - هم "أمة الدعوة" - الذين تتوجه إليهم دعوة الإسلام ورسالته، والذين تتكون منهم " أمة الإجابة "، التي استجابت فآمنت بالدعوة الإسلامية.

ولقد بدأت دعوة الإسلام سرا، وكانت خديجة بنت خويلد [68 - 3 ق.ه 556 - 620 م] زوج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ورضي عنها، أول من آمن بدعوة الإسلام، ثم استجاب لهذه الدعوة: زيد بن حارثة وعلي بن أبي طالب وأبو بكر الصديق، وسعد بن أبي وقاص والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله وعبدالرحمن بن عوف وعثمان بن عفان وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وأبوعبيدة بن الجراح، وكوكبة من السابقين إلى دعوة الإسلام.

وعندما نزل الوحي على الرسول، صلى الله عليه وسلم، بقول الله، سبحانه وتعالى: وأنذر عشيرتك الأقربين- الشعراء 214 - دعا الرسول عشيرته الأقربين، لكنهم قد قابلوا دعوته بالرفض والاستنكار والصدود.

وفي السنة الرابعة من البعثة - سنة 614 م - اتخذ الرسول، صلى الله عليه وسلم لدعوته السرية ناديا يلتقي فيه بمن استجاب للدعوة، ومن هو مدعو إليها، يعلمهم فيه القرآن وعقائد الدعوة وشعائر الدين، فكانت دار الأرقم بن أبي الأرقم، بمكة، ناديا لدعوة الإسلام.

وفي السنة التالية - الخامسة من البعثة، سنة 615م - وثمرة للاضطهاد الذي أوقعه رءوس الشرك على من آمن - والمستضعفين منهم خاصة- أطلت الدعوة - للمرة الأولى - خارج شبه الجزيرة العربية، وذلك بواسطة أحد عشر رجلا وأربع نسوة كانوا هم أول من هاجر إلى بلاد الحبشة من المسلمين، فعبرت الدعوة البحر الأحمر إلى البر الإفريقي.

وكان إسلام عمر بن الخطاب - في السنة السابعة من البعثة، سنة 617م - نقطة تحول في أسلوب الدعوة، فبه أعز الله الإسلام، فجهر المسلمون بها، وتركوا طور السرية في دار الأرقم بن أبي الأرقم.

وكسرا لطوق الحصار الذي فرضه الشرك المكي على الدعوة الإسلامية، توجه الرسول، صلى الله عليه وسلم، لفتح منافذ متعددة أمامها، فكان اهتباله مواسم الحج إلى المسجد الحرام لعرض دعوة الإسلام على وفود الحجيج من غير قريش، ثم كانت رحلته الشهيرة إلى الطائف - عقب "عام الحزن" - الذي فقدت فيه الدعوة نصرة عمه أبي طالب - بموته -، وهي الرحلة التي انتهت بالإخفاق!.

لكن أهم الأبواب التي فتحها الله، سبحانه وتعالى، في جدار حصار الشرك المكي للدعوة، كان ذلك الباب الذي نفذت منه إلى حجاج مكة القادمين من يثرب - من قبيلتي الأوس والخزرج - فعلى مدار سنوات ثلاث - هي السنوات الثلاث التي سبقت هجرة الرسول، صلى الله عليه وسلم، من مكة إلى المدينة - وخلال مواسم حجها، تكرر لقاء الرسول بنفر من حجاج يثرب، فدعاهم إلى الإسلام، واستجاب لدعوته بعضهم، فبايعوه على الإيمان بالدين الجديد، وهذه هي البيعات التي اشتهرت في تاريخ الدعوة ب "بيعة العقبة" - الأولى، والثانية، والثالثة ولقد تم التعاقد وتمت البيعة في العامين الأولين على الإيمان بالدين الجديد، وزادت بنوده في البيعة الثالثة - بالعام الثالث - سنة 621 على تأسيس دولة الإسلام بيثرب، عندما يهاجر إليها رسول الله، صلى الله عليه وسلم.

وكما تبلورت، في مجرى الدعوة الإسلامية، "هيئة المهاجرين الأولين"، التي ضمت قادة الرأي في بطون قريش الذين سبقوا إلى الإسلام... كذلك تبلورت، في بيعة العقبة الثالثة، "هيئة النقباء الاثني عشر"، الذين اختارهم من حضر هذه البيعة، ليعقدوا مع الرسول، صلى الله عليه وسلم، عقد تأسيس الدولة الإسلامية الأولى!..

ومن هذا الباب الذي فتحه الله للدعوة في جدار حصار الشرك، دخل الإسلام إلى يثرب، ودخل إليها- مع من آمن من أهلها- الداعية مصعب بن عمير، الذي اتخذ من دار أسعد بن زرارة قاعدة وناديا ومركزا للدعوة، ثم اتخذ لها ناديا ثانيا في دار بني ظفر.

وعندما هاجر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من مكة إلى المدينة وقامت "للدعوة" "دولة"، بدأت هذه الدعوة في حياتها طورا جديدا، عندما انفتحت أمامها آفاق الانتشار، وتعددت في حركتها سبل البلاغ، بلاغ الدعوة إلى العالمين.

لقد كانت الدعوة عربية اللسان، عربية المرتكز والمنطلق، عالمية التوجه، إلهية المقاصد والغايات. وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذر أم القرى ومن حولها - الشورى: 7 - وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين - الأنبياء - 107 تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا - الفرقان - 1 وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون سبأ - 28 هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون - الصف: 9 - وكذلك الحال - حال العلاقة بين المحلية والعالمية - عند الإشارة لكتاب الدعوة، القرآن الكريم: وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون- الزخرف: 44 - إن هو إلا ذكر للعالمين. ولتعلمن نبأه بعد حين ص - 87، 88.

هذا عن المنطلقات العربية، والآفاق الإنسانية للدعوة الإسلامية.

وإذا كان قيام "الدولة" الإسلامية قد استحدث في حياة الجماعة الإسلامية ومجتمع أمة الدعوة جديدا، في التنظيمات، والقوانين والمؤسسات ووسائل إقامة "الدولة" وحمايتها فإن سبل "الدعوة"، التي تنفي الإكراه، وتعتمد الحكمة والموعظة الحسنة، ظلت كما هي دون تغيير، فبالحرب تقوم "الدولة" وتتأمن حدودها، وتمتد لكن العنف لا يقيم التصديق القلبي، البالغ مرتبة اليقين- أي الإيمان بالدين!-.

ولذلك، اتفقت أساليب الدعوة الإسلامية - في طورها المكي وطورها المدني - ثم عبر تاريخها كله- في هذا المقام.

ففي العهد المكي - عهد الاستضعاف - تحدد الآيات القرآنية "الحكمة" و "الموعظة الحسنة" و "الجدال بالتي هي أحسن" سبلا للدعوة ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن - النحل - 125 وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب. فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير الشورى - 14، 15.

وفي العهد المدني - عهد الدولة التي تجرد السيف لرد العدوان ظلت الدعوة على عهدها الأول في سبيل تحصيل الإيمان. وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد آل عمران - 20. لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه فلا ينازعنك في الأمر وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم. وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون - الحج: 67، 68. وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه - التوبة - 6. كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون. ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون - آل عمران - 103، 104.

لكن "الدولة"، لأنها "إسلامية". كانت "دولة" "الدعوة"، فأصبح من "عمالاتها" و "ولاياتها" و "وظائفها" العمالات والوظائف التي ينهض أصحابها بأمر الدعوة إلى الإسلام، من تعليم للقرآن. ففي المدينة كانت هناك "دار القراء" - والقراء - في ذلك العهد - كانوا هم حفظة القرآن وعلماءه، ومن الذين اشتغلوا بتعليم القرآن: عبادة بن الصامت ومصعب بن عمير وعبد الله بن أم مكتوم ومعاذ بن جبل وعمرو بن حزم ابن زيد الخزرجي - في نجران. وبلحارث بن كعب - في نجران أيضا.

وكذلك غدت "للكتابة" و "الفقه" و "الإفتاء" و"إمامة الصلاة " و "الأذان" عمالات وولايات، ضمن ولايات دولة الإسلام..

أما كتب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ورسائله، ومعاهداته وعهوده، التي حملت في ثناياها الدعوة إلى الإسلام، والتي بعث بها إلى الملوك والولاة ورؤساء القبائل والعمال ورؤساء الأديان الكتابية، فإن المحفوظ من آثارها وأخبارها يقترب من الثلاثمائة رسالة وعهد ومعاهدة.

ولقد غدت المدينة - عاصمة الدولة والدعوة - قبلة الوفود الآتية من أقطار شبه الجزيرة، وغدا مسجدها ساحة مناظرة وحوار بين الدعوة الإسلامية ومختلف ألوان الفكر الموروث!..

***

ولقد تميزت الدعوة إلى الإسلام، عبر تاريخ هذا الدين، بحركتها الحرة التطوعية، فلم تقم لها مؤسسات- كما كان حال الدعوة في ديانات أخرى - ربما لانتفاء الكهانة والرياسة الدينية من نهج الإسلام - فلم تكن "حرفة" في أغلب تاريخها وعند أغلب أعلامها، وإنما كانت فرض كفاية ينهض بها نفر من أبناء الأمة نيابة عن أمة الإسلام وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون التوبة - 122. وكذلك الدعوة إلى المذاهب الفقهية، على العكس من الدعوة للسياسة المذهبية، فقد عرفت المؤسسات والاحتراف.

ففي بدء الدعوة كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، هو [داعي الله]..وبعد أن انتقل إلى رحاب بارئه أصبحت الدعوة مهمة العلماء، ذلك أن ختم رسالات السماء إلى الأرض برسالة محمد، قد أنهى طور النبوات والرسالات المتجددة، فأصبحت الدعوة إلى دين الله الواحد - دين الإسلام - هي مهمة العلماء. وهذا هو معنى المأثورة النبوية التي تتحدث عن علماء الدعوة الإسلامية فتشبههم بأنبياء بني إسرائيل - "علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل" - فهم ليسوا مثلهم في "النبوة"، وإنما في حمل رسالة الدعوة إلى الدين، فتلك مهمة الأنبياء، في بني إسرائيل، كلما هلك نبي خلفه نبي، وهي قد غدت - في الإسلام - مهمة علماء الدعوة الإسلامية، لأنه لا نبي بعد محمد، صلى الله عليه وسلم، ولأن هؤلاء العلماء - كما جاء في المأثورة النبوية - هم - في هذا الميدان - "ورثة الأنبياء". والأنبياء لم يورثوا درهما ولا دينارا، وإنما ميراثهم هو الدعوة إلى دين الله.