اللغة حياة.. أمن اللبس لا يسوِّغ الخطأ

اللغة حياة.. أمن اللبس لا يسوِّغ الخطأ

ماذا تظنّ في من يقول لك: نشرتْ مجلةَ العربيِّ مقالةٌ؟

إن كان عالماً في اللغة فستعتقد أنّه يمزح؛ أمّا إذا كان قليل العلم فيها أو جاهلاً لها فستضحك منه أو ترثي له. لكن ستُفاجأ أكبر المفاجأة حين يؤكّد لك لغويّ كبير، وهو في كامل قواه العقليّة، أنّ العبارة صحيحة، وأنّها ممّا أقرّ بعض النحاة استعماله. وحين تتبيّن أنّ كلامه دقيق، فهل تقبل ذلك الاستعمال؟ لا أحسبك فاعلاً.

فلقد تحدّث ابن هشام في «مُغني اللبيب» عمّا سماه «تقارض اللفظين في الأحكام»؛ يعني أن يعطِيَ لفظٌ من الألفاظ حكمَه في الرفع أو النصب للفظٍ آخر ليس ذلك حكمه، ويأخذ هو حكم ذلك اللفظ، وكأنّهما يتبادلان قَرضاً.

ومن ذلك التقارض المزعوم عنده «إعطاء الفاعل إعراب المفعول وعكسه، عند أمْن اللبس»؛ ويمثِّل ابن هشام لذلك بعبارة: «خَرَقَ الثوبُ المسمارَ؛ وكَسَرَ الزجاجُ الحجرَ». موحياً أنّ المسلّم به عند الناس أنّ المسمار هو الذي يخرق الثوب، وأنّ الحجر هو الذي يكسر الزجاج، أياًّ كانت حركة الإعراب التي نجعلها على ذينك اللفظين، فالأمر لا يمكن أن يلتبس على القارئ أو السامع أبدًا.

ومن الشواهد على ما سمّاه «عكسه»، أي إعطاء المفعول إعراب الفاعل، شطرُ بيتٍ شعريّ يقول: «قد سالمَ الحيّاتِ منه القَدَما» وهو بيت متنازَع بين سبعة شعراء، فهو محلّ شكّ. واللافت أنّ ابن هشام اختار رواية الكوفيّين أو البغداديّين للبيت في نصب «الحيّات» والزعم أنّ «القَدَما» مثنّى القدم، حُذفت منه النون للضرورة، وفق تقدير بعضهم، وتَرَكَ رواية سيبويه برفع «الحيّات» وبها يستقيم المعنى والتركيب، ويُترك الإيغال في التقدير والتأويل. علمًا أنّ ابن هشام ذكر شواهد أخرى لا وضوح للتقارض فيها! فليس من شاهد موثوق على التقارض المزعوم في حاليه، وذلك أمر لا يسمح ببناء قاعدة متّبعة.

ونؤكّد أنّ أحدًا من المعاصرين لا يكاد يخالفنا في أنّ هذا المبدأ النحويّ الذي لم يقل به غير ابن هشام، في ما نعلم، غير مقبول، ويجافي طبيعة اللغة، لسببين: عرفيّ وبلاغيّ؛ وإن كان يريح بعض الإعلاميّين والساسة الذين لا يفرّقون في الإعراب بين المنصوب والمرفوع والمجزوم والمجرور.

فالعلامات في آخر الكلمات كالألفاظ في العبارات، لكلٍّ منها معنى مخصوص، أو معان مخصوصة؛ فكما أنّ للبيت، مثلاً، في اللغة العامّة معنى أصليًا هو المسكن، ومعاني مجازيّة منها الشرف والعيال والمصراعان المتكاملان في العروض، كذلك للضمّة وما يقوم مقامها معنى أوّل في اللغة النحويّة هو الرفع، ويدلّ، في الأصل، إمّا على ما يسند إليه الفعل (الفاعل ونائبه واسم الفعل الناقص)، أو على ما يكون من الأسماء مجرّدًا من العوامل اللفظيّة (أي من الفعل ومشتقّاته ومن النَّسخ والجرّ) كالمبتدأ والخبر وخبر الأحرف المشبّهة بالفعل، أو على الفعل المُشْبه للاسم والمجرّد من العوامل (الفعل المضارع)؛ وأنّ للفتحة وما يقوم مقامها معنى النصب، ويدلّ أصلاً على الفَضلة (وهي التي تُكمل جملة المسند والمسند إليه) إذا عمل فيها فعل أو شبهه، كما يدلّ على الفعل المضارع المسلّطة عليه أحرف النصب. وللجرّ معنى، وللجزم معنى، وللبناء معنى... إلخ. فإذا أبدلنا هذا العرف متذرّعين بأمن اللبس، اضطرب النظام اللغويّ، وفسد العقد الاجتماعيّ الناظم له، واستعصى الفهم، وفشت الفوضى، واختلطت العاميّة بالفصحى، ولم نعد نفرّق بين العربيّ والأعجميّ.

ولو صحّ أنّ أمن اللبس يسمح بتجاوز القاعدة لجاز قولنا: الرجال يجيئوا، والنساء يجيئوا، أو يجيئون، والطلاب لم يحضرون، وإنّ في البيت رجلٌ، وأشباه ذلك. فكلّ هذه الجمل مفهومة ولا يعتور اللبس معناها، وقد يقولها المتكلّم في العاميّة، أو يقول ما هو أكثر منها اضطرابًا، ومع ذلك يفهمه الآخرون، لكنّ اللغة الفصحى لا تقبله؛ فمزيّة الفصحى أنّها لغة متعارفة متطوّرة تستطيع، بسبب تجربتها التعبيريّة المديدة والمهذّبة بطول المراجعة والتنقيح والتوليد، أن تستجيب للحاجات التعبيريّة المختلفة في الأدب والعلم، ولو جرّدنا مصطلحاتها من دلالاتها لتعرّضت للموت. ثم إنّ ابن هشام نفسه يقول في كتابه «قطر الندى» حرفيّاً :«قد مضى أن الفاعل مرفوع أبدًا، واعلم الآن أنّ المفعول منصوب أبدًا». فجعل الرفع للفاعل والنصب للمفعول شاملين، ولم يستثن أيّ حالة خاصة.

وأمّا السبب البلاغي، فهو أنّ المنشيء قد يتعمّد قلب نظام الجملة، إمّا هزلاً، أو طلبًا للابتكار والغرابة. وقد يكتب شاعر سرياليّ ما يشبه العبارتين النثريّتين اللتين مثّل بهما ابن هشام، لكن على سبيل التخييل، فيجعل الثوب خارقًا للمسمار، والزجاج كاسرًا للحجر. وربّما وردت العبارة الأولى منهما في دعاية للزُّجاج الصلب،كأن تستعملها بعض الشركات الصناعية لتوحي أنّ الحجر يتحطّم إذا اصطدم بالزجاج الذي تنتجه؛ بل إنّ بعض الأحجار الضعيفة قد يتفتّت حقاً إذا ارتطم بزجاج صُلب سميك، مقوّى بموادّ أخرى، كزجاج بعض السيّارات، ولاسيّما السيارات المصنوعة للشخصيّات المهمة، أو الزجاج الذي يتّخذ جدارًا خارجيّا في بناء سكنيّ أو تجاريّ. فالذي لم يكن ابن هشام يفكّر فيه أو يتخيّله صار محتملاً في الشعر وفي الصناعة.

واللافت أنّ ذلك اللغويّ الكبير لم يذكر هذه الحالة الشاذّة في غير «مغني اللبيب»، فأهملها في سائر كتبه التي نعرفها. ثمّ إنّ النحاة إذا أرادوا إقرار نصّ يشذّ عن القاعدة العامّة وجدوا له تعليلاً، أو ردّوه إلى أصل مستعمل، أو بيّنوا مسوّغات ما يحتمل من الحذف؛ أي قدّروا ما يدور في ذهن المستعمل من تفكير حمله على مخالفة القاعدة والعرف. فحين يجيزون الجزم والرفع والنصب في المعطوف على جواب الشرط، مثلاً، يعلّلون الجزم بالتبعيّة العطفيّة، ويعلّلون الرفع بالاستئناف، ويعلّلون النصب بتقدير «أنْ» محذوفة وجوبًا. وأقرب من ذلك إلى موضوعنا، تعليل الرفع لنائب الفاعل، وهو أن الفاعل محذوف، وأنّ المفعول حلّ محلّه فاكتسب منه حكم الرفع؛ فما بال ابن هشام لم يعلّل انتقال حكم الفاعل إلى المفعول والمفعول إلى الفاعل في ما سمّاه تقارض الأحكام؟

إنّنا إذا نفينا صحّة التقدير بناء على التوهّم، واعتبرنا ذلك من اختراع النحاة، مع أنّ للقائلين به تعليلات عرضنا لها في مقالة سابقة عنوانها: «التوهّم اللغويّ خطأ أو شذوذ» (العربيّ، العدد 609، أغسطس 2009)، فالأجدر أن ننفي القول بتقارض الأحكام، لانفراد ابن هشام به، في ما نعلم، ولافتقاره إلى تعليل مقنع، وقيامه على أبيات شعريّة مشكوك في بعضها، وملتبس موضع الشاهد في بعضها الآخر، ولتعريضه نظام الجملة العربيّة للخطر.

 

 

 

مصطفى عليّ الجوزو