جمال العربية.. ترنيمة نثرية لجبران: أحببتُكم جميعَكم

جمال العربية.. ترنيمة نثرية لجبران: أحببتُكم جميعَكم

ليس في الشعر وحده يكمن جمال العربية، لكن من النثر ما هو أجمل من الشعر، وأروع لغة، وأفسح آفاقًا، وأغنى بالصور والظلال، والإيقاع والمعنى. وفي كتابات جبران خليل جبران المبدع المهجري الكبير نصوص انسكبت فيها جمالات عدة، فقد اغتنى معجمها بلغة عصرية طازجة، لم تعتصرها أيدي القاطفين زمانًا بعد زمان، وفجّرت فيها هذه العصرية هندسة أسلوبية جديدة، ناطقة بأسلوب العصر، البعيد عن الزركشة والزخرفة والتقليد، المنفلت من ربْقة الآسن والسائد والمألوف، والباحث عن الجِدّة والابتكار والإدهاش.

من هنا، كانت كتابات جبران النثرية، إضافة ثرية، إلى عالمه الشعري المتوهج بالحضور، وتفجيرًا لمخزون فكره العميق، المتكئ إلى عوالم تأمله، واستغراقه في قراءة الكون من حوله. وكأنه في قراءته لكتاب الكون، صوفي يعيش لحظات الإشراق الروحيّ: وجدان مرهف تنفتح براعمه، وعقل واعٍ يقتحم فضاءات المجهول، وأنامل تعزف على أوتار الحياة والوجود، فتنطقها بأنغام سكرى وألحان نشوى وإيقاعات تواكب حركة النفس، وتغتني بأصوات السكون وإرهاف الحسّ.

يقول جبران في إحدى ترانيمه النثرية البديعة:

«في غَلس الليل العميق، وقد هب النسيم معطرًا بأنفاس الفجر الأولى، نهض من مقصورته وصعد إلى سطح بيته، وبعد أن وقف هناك طويلاً ينظر إلى المدينة الهاجعة في سكينة الليل. رفع رأسه وكأنما قد تجمعت حواليه أرواح أولئك النائمين المستيقظة، وفتح فاه وخاطبهم قائلاً:

يا إخواني وجيراني، ويا أيها الذين يمرون ببابي كل يوم، إنني أود أن أناجيكم في نومكم وفي وادي أحلامكم. أود أن أمشي مطلقًا عاريًا، فإن ساعات يقظتكم أشدّ غفلة من نومكم وآذانكم المثقلة بالضجيج كليلةٍ صمّاء.

لقد أحببتكم كثيرًا، وفوق الكثير قد أحببت الواحد منكم كما لو كان كُلّكم وأحببتكم جميعًا، كما لو كنتم واحدًا، ففي ربيع قلبي، كنت أترنم في جِنانكم وفي صيف قلبي، كنت أحرس بيادركم.

أجل، لقد أحببتكم جميعكم، جباركم وصعلوككم، أبرصكم وصحيحكم، وأحببت من يتلمس منكم سبيله في الظلام، كمن يرقص أيامه على الجبال والآكام.

أحببتك أيها القويّ مع أن آثار حوافرك الحديدية، ماتزال ظاهرة في لحمي.

وأحببتك أيها الضعيف، رغم أنك جفّفت إيماني، وعطّلت عليَّ صبري.

أحببتك أيها الغنيّ في حين أن عسلك كان علقما في فمي، وأحببتك أيها الفقير مع أنك عرفْتَ عاري وفراغ ذات يدي.

أحببتك أيها الشاعر المقلد، الذي يستعير قيثارة جاره ليضرب عليها بأصابعه العمياء، أحببتك كرمًا ولطفًا، وأحببتك أيها العالم الدائب عمره في جمع الأكفان الرثة من حقل الفخار الممقوت.

أحببتك أيها الكاهن الجالس في سكون أمسه، متسائلا عن مصير غدي.

أحببتكِ أيتها المرأة المتعطشة، وكأسها مملوءة أبدا، لأنني عرفتُ سرّك.

وأحببتك أيتها المرأة الساهرة لياليها مشفقا عليك.

أحببتك أيها الثرثار قائلا في نفسي: «إن للحياة كثيرا فتقوله».

وأحببتك أيها الأبكم قائلا في سرّي: «حبذا لو أسمع نطقا يعبر عما في صمته».

أحببتك أيها القاضي والناقد، ولكنكما عندما رأيتماني مصلوبا، قلتما: ما ألطف نزْف دمائه من عروقه، وما أجمل الخطوط التي ترسمها في مسيلها على جلده الناصع.

أجل، أحببتكم جميعكم، فتاكم وشيخكم. وأحببت قصبتكم المرتجفة كسنديانتكم الجبارة الراسخة. ولكن، واأسفاه! فإن قلبي الطافح بحبكم قد حوّل قلوبكم عني، لأن في وسعكم أن ترتشفوا شراب المحبة من القدح الصغير، ولكنكم لا تقوون على شربها من النهر الفياض.

إنكم تستطيعون أن تسمعوا صوت المحبة عندما تهمس مسرةً في آذانكم، ولكنكم تصمون آذانكم عندما تصيح المحبة مهللة بأعلى صوتها. وعندما رأيتم أنني قد أحببتكم جميعكم على السواء، تهكمتم قائلين: ما أسهل انقياد قلبه، وما أبعد الفطنة عن مسالكه! إن محبته هذه محبة متسول جائع قد تعوّد التقاط الفُتات ولو كان جالسا إلى موائد الملوك. بل هي محبة ضعيف حقير، لأنّ القويّ لا يُحبّ إلا الأقوياء.

وعندما رأيتم أنني أحببتكم حبا مفرطا قلتم: إن محبته هذه محبة أعمى، لا يميز بين جمال الواحد وبشاعة الآخر، بل هي محبة عديم الذوق الذي يشرب الخلّ كأنه يشرب الرحيق. بل هي محبة فضوليّ مدّعٍ، إذ أيّ غريب يستطيع أن يحبّنا كأبينا وأمنا وأختنا وأخينا.

هذه أقوالكم وغيرها كثير، لأنكم قد طالما أشرتم إليّ بأصابعكم في شوارع المدينة وساحاتها، وقلتم بعضكم لبعض ساخرين: بربكم انظروا الصغير الكبير الذي لا يعبأ بالفصول والسنين، فهو عند الظهيرة يلاعب أولادنا بالأُكَر، وعند المساء يجالس شيوخنا مُدّعيا الحكمة والفهم.

أما أنا فكنت أقول في قلبي: لا بأس في ذلك فإني سأحبهم أكثر، نعم أكثر فأكثر. ولكني سوف أُسدل على محبتي ستارا من البغض، وأستر عطفي بشديد كرهي. وسأتبرقع ببرقع من حديد ولا أسعى وراءهم إلا مُسلّحا مدرّعا.

وبعد ذلك ألقيت يدا ثقيلة على رضوضكم وجراحكم، وكما تعصف العاصفة في الليل، رعدْتُ في آذانكم».

***

هذا التدفق وهذا الانسياب سمة أساسية في نثر جبران، وفي نثر المهجريين جميعًا. وهو الذي يُضفي على أساليبهم مسْحة من الشاعرية الجاذبة، والرهافة الآسرة.

وكأن للغتهم أجنحة تحلّق بها، وتسري في فضاءات رحبة من بلاغة العبارة وتآلف السياق وروعة التناول للفكرة والمعنى، وتجسيد الأحاسيس والمشاعر، والاقتراب من شجون النفس ومكامن بوْحها واعترافها، وهو ما أضفى على هذه الترنيمة لجبران رُواءها الجديد، وسحرها البعيد عن أسْر التقليد والمحاكاة.

***

ثم يقول جبران:

«أجل، أيها الأصحاب والجيران، فإن المحبة خاطبتكم مسوقة بسياط ذاتها، والكبرياء قد رقصت أمامكم متعفرة بغبار خيبتها، مذبوحة بآلامها، وتعطّشي لمحبتكم قد ثار ثائره على السطوح. لكن محبتي كانت تسألكم صفحا وهي راكعة صامتة.

ولكن، إليكم المعجزة يا قوم! إن تستّري قد فتح عيونكم وبغضي قد أيقظ قلوبكم. والآن، فأنتم تحبونني! إنكم لا تحبون سوى السيوف التي تطعن قلوبكم، والسهام التي تخرق صدوركم، لأنكم لا تتعزّوْن إلا بجراحكم ولا تسكرون إلا بخمرة دمائكم.

وكما يتجمع الفراش حول اللهيب ساعيا وراء حتفه تجتمعون أنتم في كل يوم إلى حديقتي، وبوجوه مرتفعة وعيون شاخصة تراقبونني وأنا أُمزق نسيج أيامكم، فتتهامسون فيما بينكم قائلين: إنه يُبْصر بنور الله ويتكلم بكلام الأنبياء المتقدمين، فيحسر القناع عن نفوسنا ويحطّم أقفال قلوبنا، وكما يعرف النسر مسالك الثعالب، يعرف هو أيضا طرقنا ومسالكنا.

إنني في الحقيقة أعرف طرقكم، ولكن كما يعرف النسر طرق فراخه. وإنني بمسرّة قلب قد كشفت لكم سرّي، ولكنني لحاجةٍ بي إلى قربكم أتظاهر بالجفاء، وخوفا مني على دنوّ قضاء محبتكم، أقوم على حراسة سدود محبتي».

***

وحين يتحدث جبران الناثر عن جبران الشاعر، نطالع نصًّا أدبيًّا بديعًا، ولغة فنية راقية، ونموذجًا للكتابة العصرية المتوهّجة بالجمال. هنا تصبح جمالات العربية عناقيد من صياغاتٍ أبدعتها ريشة فنان مقتدر، وسبائك في نفاسة الماس، تُشعّ بتفرُّد اللغة، وقدرتها على الإبانة والرسم والتصوير، وعبقرية جبران الناثر عندما يكتب عن الشاعر والغربة، ويقول:

«أنا غريب في هذا العالم..

أنا غريب، وفي الغربة وحدة قاسية ووحشة موجعة، غير أنها تجعلني أفكر أبدا بوطن سحري لا أعرفه، وتملأ أحلامي بأشباح أرض قصية، ما رأتها عيني.

أنا غريب عن أهلي وخلاّني، فإذا ما لقيت واحدًا منهم أقول في ذاتي: مَنْ هذا وكيف عرفته، وأيّ ناموسٍ يجمعني به، ولماذا أقترب منه وأُجالسه؟

أنا غريب عن نفسي، فإذا ما سمعت لساني متكلما تستغرب أذني صوتي، وقد أرى ذاتي الخفية ضاحكة باكية، ومستبسلة خائفة، فيعجب كياني بكياني، وتستفسر روحي عن روحي، ولكنني أبقى مجهولا مستترا مكتنفا بالضباب، محجوبا بالسكوت.

أنا غريب عن جسدي، وكلما وقفت أمام المرآة أرى في وجهي ما لا تشعر به نفسي، وأجد في عيني ما تكنُّهُ أعماقي، أسير في شوارع المدينة فيتبعني الفتيان صارخين: «هو ذا الأعمى فلنعطه عكازا يتوكأ عليه»، فأهرب منهم مسرعا، ثم ألتقي بسرب من الصبايا، فيتشبثن بأذيالي قائلات: «هو أطرش كالصخر, فلنملأ أذنيه بأنغام الغزل»، فأتركهن راكضا، ثم ألتقي بجماعة من الكهول، فيقفون حولي قائلين: «هو أخرس كالقبر، فتعالوا نُقوّم اعوجاج لسانه»، فأغادرهم خائفا، ثم ألتقي برهط من الشيوخ، فيشيرون نحوي بأصابع مرتعشة، قائلين: «هو مجنون أضاع صوابه في مسارح الجنّ والغيلان».

أنا غريب في هذا العالم..

أنا غريب، وقد جُبت مشارق الأرض ومغاربها، فلم أجد مسقط رأسي، ولا لقيت من يعرفني ولا يسمع بي.

أستيقظ في الصباح، فأجدني مسجونا في كهف مظلم، تتدلّى الأفاعي من سقفه، وتدبُّ الحشرات في جنباته، ثم أخرج إلى النور فيتبعني خيال جسدي، أما خيالات نفسي، فتسير أمامي إلى حيث لا أدري، باحثة عن أمور لا أفهمها، قابضة على أشياء لا حاجة لي بها. وعندما يجيء المساء، أعود وأضطجع على فراشي المصنوع من ريش النعام وشوك القتاد، فتراودني أفكار غريبة، وتتناولني ميول مزعجة مفرحة موجعة لذيذة، وحين ينتصف الليل يدخل عليَّ من شقوق الكهف أشباح الأزمنة العابرة، وأرواح الأمم المنسية، فأحدق بها، وتحدّق بي، وأخاطبها مستفهما، فتحيّيني مبتسمة، ثم أحاول القبض عليها، فتتوارى مضمحلة كالدخان.

غريب في العالم

أنا غريب في هذا العالم..
أنا غريب وليس في الوجود من يعرف كلمة من لغة نفسي، أسير في البرية الخالية فأرى السّواقي تتصاعد متراكمة من أعماق الوادي إلى قمة الجبل، وأرى الأشجار العارية تكتسي وتزهو وتُثمر وتنثر في دقيقة واحدة، ثم تهبط أغصانها إلى الحضيض، وتتحول إلى حيات رقطاء مرتعشة، وأرى الأطيار تنتقل متصاعدة هابطة، مغرِّدة مولولة، ثم تقف وتفتح أجنحتها، وتنقلب نساءً عاريات محلولات الشعر ممدودات الأعناق، ينظرن إليَّ من وراء أجفان مكحولة بالعشق، ويبتسمن لي بشفاه وردية مغموسة بالعسل، ويمددن نحوي أيادي بيضاء ناعمة، معطرة بالمنّ واللبان، ثم ينتفضن ويختفين عن ناظري، ويضمحللن كالضباب، تاركات في الفضاء صدى ضحكهن مني واستهزائهنّ بي.

أنا غريب في هذا العالم..

أنا شاعر أنظم ما تنثره الحياة، وأنثر ما تنظمه، ولهذا أنا غريب وسأبقى غريبا، حتى تخطفني المنايا، وتحملني إلى وطني».

ويقول جبران خليل جبران:

«يا ليل العشاق والشعراء والمنشدين يا ليل الأشباح والأرواح والأخيلة يا ليل الشوق والصبابة والتذكار.

أيها الجبار الواقف بين أقزام غيوم المغرب وعرائس الفجر، المتقلد سيف الرهبة، المتوّج بالقمر، المتِّشح بثوب السكوت، الناظر بألف عين إلى أعماق الحياة، المصغي بألف أذن إلى أنة الموت والعدم.

أنت ظلام يرينا أنوار السماء، والنهار نور يغمرنا بظلمة الأرض.

أنت أملٌ يفتح بصائرنا أمام هيبة اللانهاية، والنهار غرور يوقفنا كالعميان في عالم المقاييس والكمية.

أنت هدوء يُبيح بصمته خفايا الأرواح المستيقظة، السائرة في الفضاء العُلْويّ، والنهار ضجيج يثير بعوامله نفوس المنطرحين بين سنابك المقاصد والرغائب.أنت عادل يجمع بين جُنْحي الكرى أحلام الضعفاء، بأمانيّ الأقوياء، وأنت شفوق يُغمض بأصابعه الخفية أجفان التعساء ويجعل قلوبهم مشدودة إلى عالم أقلّ قساوة من هذا العالم.

بين طيات أثوابك الزرقاء يسكب المحبون أنفاسهم، وعلى قدميْك المغُلّفتين بقطر الندى يهرق المستوحشون قطرات دموعهم، وفي راحتيك المعطرتين بطيب الأدوية يضمّ الغرباء تنهدات شوقهم وحنينهم، فأنت نديم المحبين، وأنيس المستوحدين، ورفيق الغرباء والمستوحشين. في ظلالك تدبّ عواطف الشعراء، وعلى منكبيك تستفيق قلوب الأبرياء؛ وبين ثنايا ضفائرك ترتعش قرائح المفكرين، فأنت مُلقّن الشعراء، والموعز إلى المفكرين والمتأملين. هنالك رأيتك أيها الليل، شبحا جميلا منتصبًا بين الأرض والسماء، متشحا بالسحاب، ممنطقا بالضباب، ضاحكا من الشمس ساخرا بالنهار.

لقد صحبْتُك أيها الليل حتى صرتُ شبيها بك، وألفْتك حتى تمازجت ميولي بميولك، وأحببتك حتى تحوّل وجداني إلى صورة مصغرة لوجودك، ففي نفسي المظلمة كواكب ملتمعة ينثرها الوجد عند المساء، وتلتقطها الهواجس في الصباح، وفي قلبي الرقيب قمر يسعى تارة في فضاء متلبد بالغيوم، وطورا في خلاء مفعم بمواكب الأحلام. وفي روحي الساحرة سكينة تُبيح بتفاعيلها سرائر المحبين، وترجّع خلاياي صدى صلوات المتعبدين، وحول رأسي غلاف من السحر تمزقه حشرجة النازعين، ثم تخيطه أغاني المتشبثين. أنا مثلك أيها الليل، وكلانا متهم بما ليس فيه!».

 

 

فاروق شوشة