الحواجز السوداء سمر روحي الفيصل

الحواجز السوداء

مجموعة قصصية من تأليف: ليلى العثمان

"ملأ العدو شوارع الكويت بالحواجز السوداء. عندها عانينا من الاضطهاد والظلم والألم الذي يصل أحيانا لدرجة البكاء. ورغم الرشاش المحمول والخوف من المجهول كنا نتصرف معهم بكبرياء وأدب مما يثير حنقهم وحقدهم" هذه هي كلمات المؤلفة وهذا هو المناخ الذي كتبت فيه أحداث هذه المجموعة القصصية.

ذكرتني مجموعة "الحواجز السوداء" لليلى العثمان بقضية "أدب المناسبات"، وهي قضية تحتاج إلى إنعام نظر في الأدب العربي الحديث، لأن هناك نقاداً رسخوا المعنى السلبي لمصطلح "أدب المناسبات"، بحيث أصبح دالاً على النصوص المنفعلة بالوقائع والأحداث الخارجية دون أن يكون لها نصيب كبير من الفن. ولا شك في أن هؤلاء النقاد اتخذوا من الفن معيارا للحكم على النصوص الأدبية، ولكن هذا المعيار عام وليس خاصاً بأدب المناسبات. وإذا كانت هناك نصوص ضعيفة ارتبطت بإحدى المناسبات، فإن هناك نصوصاً جيدة ارتبطت بالمناسبة ذاتها، كما هي الحال في النصوص التي كتبت عن هزيمة يونيو أو حرب أكتوبر أو الحرب الأهلية اللبنانية... فبعض هذه النصوص جيد، وبعضها الآخر ضعيف. وهذا يدل على أن المناسبة ليست دائما السبب في ضعف النصوص وجودتها. ولابد من أن يبحث الناقد عن مسوغ آخر غير الارتباط بالمناسبة يعلل به تفاوت النصوص الأدبية. والظن أن المناسبة الخارجية يجب أن تتحول لدى الأديب إلى مناسبة داخلية تحفزه إلى الصدق الفني في التعبير الأدبي، وتخلصه من طغيان الانفعال ووهج العاطفة المصاحبين للمناسبات العامة، الوطنية والقومية.وأدعي، هنا، أن ليلى العثمان واجهت مناسبة "الغزو العراقي للكويت" على هذا النحو، بحيث بدت فاعلة فيها وليس فقط منفعلة بها. وأخشى، بادئ الأمر، أن يفسر المراد من "الانفعال" تفسيراً مغايراً للسياق الخاص بالمناسبات. ذلك لأن الأديب لا يستطيع الكتابة عن حدث ما إذا لم ينفعل به. ولكن "الانفعال" وحده غير كاف للتعبير الفني عن المناسبة، وخصوصاً المناسبة العامة الوطنية والقومية. فالانفعال عاطفة لا بد من أن تهدأ وتستقر، سواء أكان هدوؤها يحتاج إلى زمن طويل أم قصير، وحين تستقر العاطفة تتفتح البصيرة نتيجة الجهد الذي يبذله الأديب لتمثل المناسبة. وليس هناك تمثل للحدث من غير معرفة به، أو تجربة مباشرة معه. وكأن الثقافة "تعقلن" الانفعال وتبقيه في الحدود الأدبية المطلوبة. وقد بحثت عن هذه "العقلنة" في قصص "الحواجز السوداء" لسببين، أولهما: أنني لا أشك في أن ليلى العثمان انفعلت بالغزو العراقي للكويت. وثانيهما: أنني مؤمن بأن "مرجعية" النص القصصي تكمن داخله، وتستمد مصداقيتها من القوانين الأدبية التخييلية.

الخير والشر

إذا دققنا في القصص التي تضمها مجموعة "الحواجز السوداء" لاحظنا أنها كلها مبنية استنادا إلى قانونين لا ثالث لهما: قانون الطباق وقانون المقابلة. أما قانون الطباق المستمد من البلاغة العربية فقد استعملته ليلى العثمان لتوفير الصراع في قصصها، وربطته بمكان واحد هو "الكويت"، وببطلين: كويتي وعراقي. وكانت، دائما، تنطلق من البطل الكويتي وتنتهي به، وتحرص على أن تجعله يلتقي البطل العراقي بين البداية والنهاية لتجسد التضاد بينهما، وترسخ في القارئ صفة الخير الملازمة للبطل الكويتي، وصفة الشر الملازمة للبطل العراقي المضاد. وعلى الرغم من أن اللقاء يتم أحيانا أمام الحاجز الذي وضعه العراقي في الطريق ليتمكن من توقيف السيارات وتفتيشها، فإن قصص المجموعة لا تقتصر على الحاجز المادي، بل تمتد لتشمل الحواجز المعنوية الماثلة في حيلولة الغزو دون حرية الكويتي في الحصول على حاجاته المعيشية، وشعوره بالأمان في وطنه. ففي قصة "البطاقة" صورة للحاجز المادي، تفتتحها ليلى العثمان بإشارة العسكري إلى سيارة البطلة بالتوقف، وتختتمها بالسماح لها بمتابعة السير. وما بين البداية والنهاية حوار وظيفي، خارجي وداخلي، يؤدي مهمة توضيح التضاد بين البطلين. فالبطلة كويتية متشبثة بكويتيتها، والعسكري عراقي متشبث بعراقية الكويت. وإذا كانت بطاقة الهوية تعني تحقيق الشخصية فهي لدى البطلة دليل كويتيتها، وهذا الدليل غير ذي معنى عند العسكري، لأنه يريد من البطلة أن تغير هويتهـا لتصبح عراقية. ولئلا يوحي التضاد بين البطلين بشيء من التعادل النابع من أحقية كل منهما في التشبث بموقفه، فإن ليلى العثمان حرصت على ذكر أمور أخرى. فالبطل عسكري، يحمل سلاحا، ويقف على أرض غير أرضه، ويستعمل يده في "شد شعر" البطلة، ويطلق لسانه في شتيمتها، وهذا ما أضفى عليه صفة "الشر". أما البطلة فهي امرأة مسالمة تركب سيارتها وتسير في شارع من شوارع مدينتها، ويكاد داخلها يتميز غيظا ولكنها لا تظهر للعسكري غير الاحترام المشوب بالسخرية، وهذا ما أضفى عليها صفة "الخير". وقد اتضحت "عقلنة" الانفعال في عدم اللجوء إلى المبالغة في الحدث، ولا الحرص على استعمال اللهجتين الكويتية والعراقية في الحوار، وفي السعي إلى الإفادة من التجربة الشخصية مع الحواجز في الإيحاء بالغزو والاحتلال. والشيء نفسه واضح في الحواجز التسعة التي ضمتها قصة "حواجز مختلفة الوجوه". بل إن عنوان القصة دال على أن القارئ مقبل على الحواجز المادية نفسها وإن اختلفت وجوهها، فالعسكري في الحاجز الأول يريد تغيير أسماء الأمكنة الكويتية، وفي الحاجز الثاني يطلب قراءة الصحف العراقية... وهو- في الحالات كلها- عسكري مسلح، يشتم ويستعمل يده ويقف على أرض غير أرضه. حواجز ولكن معنوية.

يبرز الحاجز المعنوي في قصة "للعباءة وجه آخر". فاللقاء في هذه القصة يتم أمام الجمعية التعاونية بين نسوة جئن يبحثن عن حاجات أسرهن المعيشية، وعسكريين غزوا الجمعية قبل النسوة وسمحوا لهن بعد الإهانة والانتظار بالحصول على ما بقي فيها. ولم تكتف القصة بذلك، بل راحت تجعل العسكري يسلب البطلة لوحي "الكيت كات" اللذين يدخلان الفرح على قلبي ابني البطلة إذا جلبتهما معها إلى المنزل. وهذا "السلب" يعزز "سلب" العسكريين محتويات الجمعية، وينهض إلى جوار "الفوضى" ليرسخ "الشر" في صورة العسكريين الغزاة. في حين وقفت النسوة في "الطابور" حرصا على النظام، وسعت كل منهن إلى إرشاد الأخرى إلى ما يمكن الإفادة منه في المنزل لإسكات جوع الأطفال، وهذا ما عزز صورة التعاون والحب بين النسوة.

أما القانون الثاني، قانون المقابلة، فقد استعملته ليلى العثمان استعمالين مختلفين شكلاً متحدين مضمونا. ويمكنني اختزال الأشكال المختلفة للمقابلة في شكلين: مباشر وغير مباشر. اتضح الشكل المباشر في المقابلة بين البطلة والعسكري أمام الحواجز المادية والمعنوية، وكان لصيقا بالطباق ضروريا للإيحاء بالدلالة القصصية. وإذا جاوزنا هذا الشكل المباشر إلى شكل آخر غير مباشر عنيت به ليلى العثمان، ورفعته إلى مستوى القانون الأدبي البنائي، فإننا نلاحظ في قصص "للعباءة- وجه آخر" و "الجراد ينهش المدينة" و "ما قاله أبو صالح، و "الطاعون يفاجئ المدينة" و "وجه الذئب" مقابلة ذات وجهـين: ماض وحاضر، ماضى البطلة وحاضرها، وماضي المدينة (والمراد في سياق القصص: الكويت، وحاضرها، وماضي التقاليد والعادات وحاضرها... حتى أن استدعاء الماضي لمقابلته بالحاضر شكل الوضوح في البنيتين الزمانية والمكانية للكثرة الكاثرة من قصص مجموعة "الحواجز السوداء". وأمثلة المقابلة غير المباشرة وافرة، ولكن نموذجين منها يستحقان شيئا من إنعام النظر.

النموذج الأول: منها المقابلة بين الآباء والأبناء. وتمثله قصتان من قصص المجموعة، هما: "ما قاله أبوصالح" و "الطاعون يفاجئ المدينة"، على الرغم من أنه واضح في قصص أخرى، كقصة "الجراد ينهش..." وتمثله قصتان من قصص المجموعة، هما: "ما قاله أبوالتي تصور مقابلة بين غادة الكويتيين لقديمة حين كان الجراد الحقيقي يدهم مدينتهم، وحالهم في الحاضر حين دهم مدينتهم الجراد المجازي. بيد أن المقابلة في هذه القصة افتضحت بالمباشرة في أثناء الحديث عن الحاضر، في حين اتسمت في قصتي "ما قاله أبو صالح" و "الطاعون يفاجئ المدينة" بتقديم صورتين ممزوجتين بشيء من النقد الاجتماعي.

الحكمة تليق بالعجائز

ولاشك في أن الآباء والأمهات والأجداد يتسمون في الثقافة العربية القصصية بالحكمة والعقلانية. ولا تمثل الرؤية القصصية لليلى العثمان خرقا ذا شأن لهذه القيمة الثقافية وإن كانت هناك محاولة لإحداث هذا الخرق في القسم الأول من قصة "الطاعون يفاجئ المدينة". فالرؤية القصصية تشير إلى أن الابنة أكثر تشبثا من أمها بالمنزل، وكأنها ترد في حاضر الغزو على ما فعلته أمها في الماضي حين رحلت بها وبأخواتها إلى الصحراء هربا من أبيهم الذي تزوج أخرى وهدد بانتزاع الأولاد من أمهم.

النموذج الثاني: نموذج المقابلة بين العادات السابقة واللاحقة. فالبطلة في قصة "للعباءة وجه آخر" كانت قد خلعت العباءة قبل الغزو بعشرين سنة وتحررت منها، ولكنها في أثناء الغزو تلفعت بها لتتمكن من الذهاب إلى الجمعية التعاونية دون أن يضايقها أحد. والمغزى من هذه المقابلة الإيحاء بأن الغزو دفع الكويتيين إلى العودة إلى العادات والمفهومات التي كانت سائدة قبل عشرين سنة، فأعاق تقدمهم واتجه بهم- لولا الوعي- إلى التشكيك بالرابطة العربية. وقد اعتادت البطلة في قصة "ما يزال الحداد قائما" الدلال قبل الغزو، فلا تعمل في البيت كأي امرأة، ولكنها بعد الغزو أحست بمتعة كبيرة في تنظيف بيتها وطبخ طعامها، وكأن الرؤية القصصية تشير إلى التغيير الإيجابي في السلوك اليومي نتيجة المحنة. وهناك قصة أخرى، لعلها أجمل قصص المجموعة، تطرح مقابلة أشد إيلاماً ووقعاً في النفس، هي المقابلة بين عادة الطفل قبل الغزو وفي أثنائه. فقد اعتاد الرضاعة من ثدي أمه قبل الغزو على الرغم من أنه جاوز مرحلة الرضاعة. ولكن أمه، في أثناء الغزو، خبأته في زاوية مخبأ التكييف خشية اعتداء الغزاة عليه، ونبهته إلى عدم الخروج من مخبئه وإن رأى الغزاة يعتدون على أبيه وأمه. وإذا جاوزنا المقابلة الجميلة بين اعتقاد الطفل بأن ثدي أمه خاص به وحده، ورؤيته أباه- الرجل المحترم- يسطو على هذا الثدي في غرفة النوم، وتفسيره حرص أبيه على فطامه بأنه رغبة منه في الانفراد بثدي أمه... فإن المقابلة التي تبدو أشد إيلاما هي رؤية الطفل من مخبئه أحد الغزاة يلعب بثدي أمه في أثناء محاولته اغتصابها، وإحجامه عن الدفاع عنها تلبية لأوامرها بالبقاء في مخبئه، مما جعله يشعر بأن رجولته سُلبت منه.

الشخصيات والمكان

وقد عنيت ليلى العثمان في أثناء المقابلة بين الآباء والأبناء والعادات بتحديد أمكنة القصص (الكويت)، وتسميتها: "دسمان- كيفان- الشامية- الفحيحيل..."، بقية بناء فضاء قصصي مرتبط بالكويت أو بلفظة "المدينة" التي ترمز إليها. والمعروف أن الفضاء القصصي ليس مكانا جامداً، بل هو حركة الشخصيات وطبائعها وأمزجتها كما تنعكس في مكان جغرافي محدد. ولهذا السبب انصرفت المقابلة إلى ما يجعل المكان القصصي فضاء، وشرعت ترصد حركة الشخصيات، وتعلن مواقفها وآراءها بغية تحديد انتمائها. وإذا حاولنا، هنا، ربط المقابلة بالطباق فسنلاحظ قدرتها في قصص ليلى العثمان على أن يرتفعا إلى مستوى القانون الأدبي البنائي؛ ذلك القانون الذي يدل على أن كتابة قصص مجموعة "الحواجز السوداء" لم تنبع من الانصياع لوهج الانفعال بحدث الغزو، بل نبعت من التفكير بزوايا المعالجة، ومن التجربة الشخصية في أثناء الغزو، بحيث أصبحت هذه المجموعة قادرة على تأريخ الغزو بلغة الفن القصصي وقوانينه.

 

سمر روحي الفيصل

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




ليلى العثمان





غلاف المجموعة القصصية الحواجز السوداء