مستقبل التنمية في الوطن العربي بعد كارثة الاحتلال

لم تعد البيروقراطية هي فقط العائق الأساسي في وجه التنمية في العالم العربي فقد أضيفت إليها أسباب أخرى مثل الانقسام السياسي والصعوبات الاقتصادية بعد كارثة حرب الخليج.. كيف يمكن للعرب عبور هذه العوائق؟.في الماضي القريب كنا نتحسر على الإمكانات المهدرة في الوطن العربي والتي لا توجه نحو تنمية اقتصادية جادة في أرجاء الوطن العربي، وكان الكثير من الاقتصاديين العرب يثيرون في وجوهنا انتقادات حول عدم توجه الأموال العربية نحو الاستثمار في مشاريع التنمية في مختلف البلاد العربية، إلا أن العوامل الجديدة التي جدت بعد عدوان وغزو واحتلال العراق للكويت أوجدت أوضاعا اقتصادية صعبة لعدد من دول الخليج، وخصوصا الكويت، جعلت من مسألة العون العربي قضية ذات أولوية متراجعة. الكويت الآن أصبحت في حالة اقتصادية صعبة، نتيجة لحرق آبار النفط وتخريب منشآت القطاع النفطي الأخرى، وكذلك تخريب منشآت القطاعات الاقتصادية غير النفطية، والأضرار التي لحقت بالبنية التحتية والأساسية مثل المواني والمطار والطرق والمنشآت الحكومية والخاصة. إذن هناك مهمات صعبة أمام الكويتيين عليهم إنجازها لإعادة تأهيل اقتصادهم، وجميع تلك الأعمال ستكلف بلايين الدولارات، وبعد ذلك يمكن للكويت أن تنتج وتصدر النفط. وقد تخصص جزءا من إيرادات التصدير لمواجهة التزامات ديون خارجية محتملة قد تكون قد اقترضتها، حيث هناك مفاوضات بهذا الصدد في الوقت الراهن، وذلك لمواجهة أعباء إعادة الإعمار والبناء.

هاجس الأمن

ومما لا شك فيه أن الكويت ستولي اهتماما كبيرا لبناء قواتها المسلحة لحماية أمنها الوطني، وكذلك ستعتني ببناء قوات الشرطة والأمن الداخلي، كل ذلك يعني المزيد من الإنفاق على أجهزة الجيش والأمن.

الهاجس الأمني سيزيد من إنفاق دول الخليج الأخرى، مثل المملكة العربية السعودية وغيرها، على بناء القوات المسلحة وأجهزة الأمن. ولو لم تكن هناك مغامرات من جانب النظام العراقي لكان بالإمكان توفير مبالغ هامة للإنفاق على أعمال التنمية المدنية، وقد يكون بالإمكان تخصيص جزء هام للمساعدات العربية. وفي الوقت الذي تتجه فيه العديد من الدول النامية والمتقدمة نحو تخفيض الإنفاق العسكري، وتوجيه المزيد من الموارد نحو أعمال التنمية المدنية، نجد أن هناك دولا عربية ما زالت تعتبر الإنفاق على السلاح واقتنائه، وزيادة أفراد الجيوش، أهم من الإنفاق على بناء بنية أساسية أو التعليم الأساسي والعلاج ورفع مستويات معيشة أفراد المجتمع.

أحلام التنمية

في العقد الأخير من القرن العشرين، وبعد تحرر جميع البلدان العربية وسيطرة معظمها على الثروات الوطنية، ألا يحق لنا أن نحلم باقتصاد مزدهر في سائر البلدان، وشعوب تنعم بالازدهار، وورش عمل منتجة في كل مدينة وقرية من أرجاء الوطن العربي؟ وألا يحق لنا أيضا أن نحلم بترابط المصالح الاقتصادية لجميع الدول، وتوسع في التبادل التجاري بينها، واستفادة مثالية من القوى العاملة بدون قيود تذكر، وكذلك تنسيق أفضل في إقامة المشاريع الاقتصادية، واستفادة من عمق الأسواق ذات الحجم؟ هذه الأحلام لم تتحقق ولا يبدو أنها ستتحقق!! هناك العديد من المؤسسات العربية التي أقيمت منذ عام 1964 عندما تم التوقيع على معاهدة السوق العربية المشتركة لكن النتائج لا تذكر!! من خلال الجامعة العربية أقيمت مؤسسات مثل مجلس الوحدة الاقتصادية العربية، وانبثقت شركات متخصصة مثل الشركة العربية للتعدين، والشركة العربية للاستثمار، والشركة العربية لتنمية الثروة الحيوانية، وهناك شركات متخصصة في البترول وشركات متخصصة في الملاحة، بالإضافة إلى ذلك أقيم العديد من مؤسسات العون التنموية، وعلى رأسها الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي، بجانب المؤسسات القطرية المشابهة مثل الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية والاجتماعية في البلاد العربية، وصندوق أبو ظبي، وغيرها من الصناديق.

يضاف إلى ذلك الشركات التي أقيمت في عدد من البلدان العربية ذات العجز، على أسس ثنائية، والتي تخصصت في عدد من القطاعات، كلفت 21 بليون دولار أمريكي، لكن نتائج مشاريع تلك الشركات كانت جد متواضعة.

هدر الموارد

من المسائل المقلقة أن الموارد الاستراتيجية في مختلف الدول العربية أسيء استخدامها، لدرجة أن المياه - وهي من أهم الموارد - أخذت في النضوب في أكثر البلدان العربية حتى في تلك الغنية بالمياه ومصادرها. فهذه الأردن تشكو من نقص المياه، وكذلك الحال في سوريا، والعراق التي حباها الله دجلة والفرات تشكو من ملوحة المياه في مناطق مثل البصرة، ومن تلوثها في عدد آخر من المدن. يضاف إلى ذلك شح المياه في بعض أوقات السنة، نتيجة للاستخدامات التركية المتوسعة، ولإقامتها عددا من السدود التي تحجب المياه عن كل من سوريا والعراق.

وتعتبر موارد المياه من أهم ركائز استمرار الحياة، وذلك للاستخدام الآدمي ولاستخدامات الزراعة. والزراعة في معظم الدول العربية آخذة في التراجع من حيث الأداء والنتائج، ومن حيث غياب المحاصيل الأساسية لصالح محاصيل قد تدر عائدا على أصحابها، ولكنها ليست ذات جدوى مجتمعيا، فمثلا تتراجع زراعة البن في اليمن لصالح "ألفات"، وبدلا من زراعة القمح في مصر تزرع بعض الفواكه، والبلاد العربية جميعها تستورد الحبوب، وبذلك تعجز إمكاناتها الزراعية عن الوفاء باحتياجاتها الغذائية. ولا يقتصر الأمر في المسألة الزراعية على تراجع الأداء، وسوء استغلال للأراضي الزراعية، أو عدم كفاية المياه، ولكن هناك أسبابا أخرى قد يكون لها آثار على نتائج الزراعة، مثل عدم توافر التمويل اللازم للاستثمار في القطاع الزراعي. وفي مسألة التمويل لا بد أن نشير إلى أن العديد من المستثمرين يعزفون عن توظيف أموالهم في قطاع الزراعة، نظرا لأن المردود لا يتناسب مع حجم المخاطر، أو مع ما يمكن جنيه من فرص أخرى في قطاعات أخرى، فكما هو معلوم فإن الاستثمار في هذا القطاع لا يحقق عوائد مالية سريعة بل يتطلب التريث في جني النتائج.

تنمية غير متوازنة

الزراعة أيضا كانت ضحية للاهتمام الكبير من قبل الأنظمة السياسية الجديدة، بتطوير المدن وإقامة عدد من المشاريع الصناعية حولها، والاهتمام ببنيتها التحتية على حساب القرى والأرياف، وبذلك أصبح حلم الانتقال إلى المدينة من أهم أحلام أبناء الفلاحين الشباب والذين تصوروا تلك المدن على أنها المنقذ، وفيها سيستطيعون العيش برفاه وكسب الرزق من خلال عمل حلال، لكن تلك الأحلام ما تلبث أن تتبخر أمام الواقع المر الذي تعيشه تلك المدن المتضخمة بالسكان والتي تعيش وهم التحضر والصناعة، وهي في واقع الحال تعاني من تردي الأوضاع الاقتصادية العامة وتدفع ضريبة التنمية غير المتوازنة في سائر أنحاء البلاد.

وهذه التنمية غير المتوازنة خلقت تشوهات مجتمعية يمكن أن توصف بالكارثية، إذا حسبنا نتائجها المستقبلية البعيدة، فعلى سبيل المثال تذكر تقارير حديثة أن هناك ما يقارب المليون ونصف مليون طفل، تقل أعمارهم عن 12 سنة في مصر، قد "تسللوا" إلى سوق العمل في مجال الخدمات والصناعات اليدوية والتجارة والبناء. والمأساة أن هؤلاء يمثلون 27% من عدد الأطفال في مصر والذين يقدر عددهم ب 12. 5 مليون طفل. ومثل هذه الحالة تتنافى مع ميثاق "حقوق الطفل" المعتمد من منظمة اليونيسيف التابعة للأمم المتحدة والتي تحظر تشغيل من هم دون سن الثانية عشرة. وتفسر هذه الظاهرة الكارثية بانتماء هؤلاء الأطفال لأسر كبيرة تعيش في قاع المدينة، وتبحث عن مصادر الرزق الشحيحة، ولذلك تنعدم لديهم قيمة التعليم لصالح قيمة العمل من أجل دعم دخل تلك الأسر.

وهذه الظاهرة ليست مصرية بل هي عالم ثالثية وعربية أيضا، ويمكن تفسيرها بأنها نتاج لعملية التنمية غير المتوازنة بين المدينة والريف، حيث إن معظم أسر هؤلاء الأطفال هي من تلك التي هاجرت من الريف إلى المدينة، وأيضا هي نتاج التزايد السكاني الرهيب في هذه الدول، حيث لا توجد قيم متحضرة تؤدي للحد من النسل بما يتناسب مع الإمكانات الحقيقية لهذه الأسر وهذه المجتمعات الفقيرة. وتعتبر مسألة التزايد السكاني غير المنضبطة سببا ونتيجة لنمط التنمية السائد في العالم الثالث، ومن ضمنه الوطن العربي. فهي سبب يعرقل من التنمية، حيث تفوق معدلات النمو الطبيعية معدلات النمو الاقتصادية، ومن ثم تؤدي إلى تراجع مستويات المعيشة ومعدلات كفاءة الحياة. وهي نتيجة لعدم تمكن آليات التنمية من رفع مستوى المعيشة وتحسين القدرات العلمية والمهنية للسكان، وبذلك تبقى الطبقات الشعبية حبيسة ذهنية غيبية متخلفة لا تتناسب مع متطلبات الحياة العصرية.

نتائج الكارثة

عندما غزت القوات العراقية دولة الكويت واحتلتها، ثم قرر النظام العراقي ضم الكويت، أثيرت "قضية عدم عدالة توزيع الثروة" وأن "الكويتيين وغيرهم من خليجيين يستأثرون بالثروة العربية، وهم أقلية في الوطن العربي، على حساب بقية الشعوب العربية، التي تعاني من الفقر ونتائجه". واستطرد النظام العراقي في أطروحته بإضفاء أوصاف "ما أنزل الله بها من سلطان "وادعى" أن هؤلاء الخليجيين يستغلون الشعوب العربية الأخرى ويعتدون على حقوقها في الثروة العربية، بالرغم من عدم تحضرهم". ولكن نتيجة الاحتلال ماذا كانت؟ حتى قبل التحرير اضطر مئات الآلاف من العرب الذين عملوا في الكويت والعراق للهرب إلى أوطانهم، بعد أن تردت أحوالهم المعيشية، وبعد أن فقدوا وظائفهم ومدخراتهم وقاسوا من عذاب التضخم الذي أصبح هيكليا في الاقتصاد العراقي، وبالنتيجة في الاقتصاد الكويتي، الواقع تحت الاحتلال العراقي، حيث تندر السلع الأساسية وتتدهور أسعار صرف العملة المتداولة.

ولقد كان رحيل هؤلاء العرب وغيرهم من مواطني العالم الثالث الذين عملوا في الكويت مأساة إنسانية في نهاية القرن العشرين. العديد منهم قاسى الأمرين في رحلة العودة، وكثير منهم نهبت أمتعتهم المتواضعة وهم يمرون في العراق باتجاه الأردن، والذي كان المنفذ الوحيد أمامهم للعودة إلى بلدانهم. وبدلا من أن يكونوا عونا لأهليهم وشعوبهم من خلال تحويلاتهم أصبحوا بين ليلة وضحاها عبئا على أقاربهم، والتزاما كبيرا على اقتصاديات أوطانهم. وبذلك فقد أدى النظام العراقي خدمة كبيرة في عدالة توزيع الفقر بين الشعوب العربية، وزاد من طوابير العاطلين وفاقم من معاناة فقراء وشغيلة العرب، وبذلك أصبح الهدف لمعظم هؤلاء التعساء العرب هو "الهروب من النفط" وليس "الهجرة إلى النفط" كما أشار إلى ذلك الدكتور نادر فرجاني في دراسة قيمة له عن هجرة العمالة العربية إلى الدول العربية المنتجة للنفط.

ونحن هنا عندما نذكر ما حل بالعرب وغيرهم - ومن بينهم عراقيون عملوا في الكويت لسنوات طويلة- يجب ألا ننسى ما حل بالكويتيين الذين فقدوا سيادة وطنهم وأصبحوا في حالة رعب دائمة في ظل حراب محتل غاشم، فلقد استبيحت بلدانهم ونهبت متاجرهم ومؤسساتهم الحكومية وبيوتهم وعرباتهم وممتلكاتهم المنقولة، الخفيفة منها والثقيلة، بل إن الكثيرين منهم اضطروا للهروب والشرود إلى خارج الحدود، تاركين الأهل والأقارب والأحباب - بالإضافة إلى الممتلكات - تحت رحمة الغزاة.

وعندما أزفت الساعة وبدأت الحرب البرية في عملية حرب التحرير، نفذ النظام العراقي ما سبق أن هدد به ألا وهو حرق آبار النفط الكويتية، وهي جريمة لا يقدم عليها إلا من فقد كل إحساس قومي. النفط الكويتي، بالرغم من أنه ملك لشعب الكويت، فإن العرب شاركوا في الانتفاع منه من خلال عملهم وكسب رزقهم في الكويت، أو من خلال المساعدات أو الاستثمارات الكويتية الهامة في بلاد العرب دون استثناء. ومع الأسف فإن عددا من قادة ومثقفي الأمة العربية هللوا لهذه الجريمة وكأنها تجري على أرض أعداء العرب.

إذن أمام هذه الكارثة الاقتصادية، هل تستطيع الكويت أن تواجه التزامات التنمية في العالم العربي؟ وهل يمكن أن نتوقع من الدول العربية الغنية الأخرى أن تخصص جزءا من إيراداتها لمواجهة تلك الالتزامات، في ضوء ما نشأ عن أزمة الكويت من التزامات وطنية، وكذلك ما نتج عنها من مشاعر سلبية تجاه القضايا العربية، ولذلك فإن الموقف من المساهمة في جهود التنمية سوف يكون واهنا.

إذن هل يمكن أن تعتمد الدول العربية، كل على حدة، على إمكاناتها الاقتصادية الذاتية لتطوير برامج التنمية وإنجاز متطلباتها؟

للإجابة عن مثل هذا السؤال يجب أن نتعرف على تلك الإمكانات وهل هي في الحقيقة متوافرة! كما هو معلوم أن معظم الدول العربية تعاني من مديونيات خارجية كبيرة تؤدي إلى التزامات هامة تجاه خدمة هذه الديون. وقد انعكست أزمة المديونية المذكورة على الهياكل الاقتصادية مما أدى إلى توقف الإنفاق الحكومي على المشاريع الأساسية، وبذلك فقد تضررت برامج التنمية كثيرا، كذلك أدت المديونيات الخارجية إلى تراجع الأداء الاقتصادي، وتمخض عن ذلك تدهور في أسعار صرف العملات الوطنية مما خلق نوعا من القلق لدى أصحاب رءوس الأموال، دفعهم إلى تهريب الأموال إلى خارج الحدود، ليتم توظيفها ضمن الاقتصاديات الرأسمالية المتقدمة. ويشير تقرير للمؤسسة العربية لضمان الاستثمار إلى أن التوظيفات المالية المملوكة من قبل القطاع الخاص في دول العجز العربية في الأسواق المالية الدولية يعادل 200 بليون دولار أمريكي في عام 1989.

وتقدر بعض المصادر المصرفية أن ديون الدول العربية قد تجاوز مبلغ ال 200 بليون دولار، دون احتساب ديون العراق، حيث لا توجد بيانات رسمية منها، لكن هناك من يقدر الديون العراقية بين 80 - 100 بليون دولار أمريكي قبل كارثة غزو الكويت، ولا بد أن تكون هذه الديون العراقية قد تجاوزت الآن مبلغ ال 200 بليون دولار، إذا احتسبنا تعويضات الاحتلال التي نصت عليها قرارات الأمم المتحدة.

ولو كانت الديون قد استثمرت في مشاريع الإنتاج ومشاريع البنية الأساسية لهان الأمر، لكن الدول العربية استخدمت تلك الأموال بشكل أدى إلى الهدر ومن أوجه إنفاق تلك الديون استخدامها في اقتناء الأسلحة أو الإنفاق على المؤسسة العسكرية. ومظهر آخر للإنفاق هو تمويل مشاريع غير ذات بال أو جدوى، وبدون أن يكون لها عائد اجتماعي، مثل إقامة مبان فاخرة، أو فنادق في مدن لا يزورها سائحون.

المعضلة الرئيسية التي تواجه الدول المدينة في العالم الثالث - ومن ضمنها الدول العربية- هي عدم تمكن الصادرات من تحقيق إيراد كاف لمواجهة التزامات خدمة الديون، وفي نفس الوقت تسديد قيمة احتياجات البلاد من واردات سلعية. وتتجاوز خدمة الديون لدى بعض هذه البلدان 50% من حصيلة الصادرات، مما يؤكد عمق الأزمة وصعوبة الخروج منها بأقل التكاليف. ولذلك فإن إمكان تحقيق تراكم رأسمالي لدى هذه الدول أصبح معدوما، وينتج عن ذلك عدم التمكن من توفير موارد ذاتية لاستخدامها في تمويل مشاريع التنمية الأساسية.

الديون الخارجية لبعض البلدان العربية تفوق أحيانا قيمة الناتج المحلي الإجمالي السنوي، أي أن جهد عام كامل لا يكفي لتسديد قيمة تلك الديون. كذلك تصل معدلات الدين لكل فرد في المجتمع إلى معدلات قياسية. والحلول التي تواجه الدول المدينة في الوقت الحاضر لا تشير إلى علاجات ميسرة، ذلك أن المؤسسات الدائنة، وعلى رأسها صندوق النقد الدولي، تفرض شروط إعادة هيكلة تتسم ببرامج للتقشف وصرامة في استخدام الأموال تهدف إلى زيادة الصادرات من أجل تحصيل عملات صعبة، وكذلك لتخفيض برامج الدعم الحكومية، وتخفيض القروض الائتمانية من أجل محاربة التضخم، وكذلك من أجل تقليص العجز في الموازنة. وفي البلدان التي تعاني من شظف المعيشة تعتبر تلك البرامج قاسية، وقد تؤدي إلى تململ اجتماعي تنتج عنه حالة من عدم الاستقرار السياسي.

وتعني تلك البرامج تعطل الإنفاق العام على برامج التعليم والعلاج. ومعنى ذلك أن هذه البلدان التي يتزايد فيها السكان بنسبة عالية سوف ترتفع فيها نسبة الأمية، ويزيد عدد غير القادرين على الحصول على الحد الأدنى من العلاج، وهكذا تزداد المعاناة من الجهل والمرض والجوع، نتيجة لأخطاء الإدارة السياسية والاقتصادية في استخدام الموارد الاقتصادية.

مأساة العمالة العربية

الظواهر الهيكيلية في الاقتصاديات العربية والمشار إليها نتجت عنها بطالة سافرة وأخرى مقنعة تأخذ بخناق الشباب العربي. ونتيجة للتزايد السكاني في البلدان العربية أصبح من الطبيعي أن تكون المجتمعات العربية مجتمعات شابة حيث إن حوالي 70% من السكان تقل أعمارهم عن 25 سنة. وبذلك تزداد نسبة الذين هم في سن العمل، ولا تستطيع القطاعات الاقتصادية الوطنية استيعابهم، نظرا لانخفاض حجم الاستثمار الرأسمالي للأسباب السابق ذكرها. وفي الماضي القريب كان متاحا أمام العمالة العربية - في مختلف التخصصات التوجه نحو العراق ودول الخليج المصدرة للنفط، للانخراط في مختلف الوظائف ضمن مختلف القطاعات، وكانت الدول الخليجية قبلة العاملين في مصر وسوريا ولبنان وفلسطين والأردن واليمن والسودان. وقد بلغ عدد المصريين العاملين في تلك الدول المضيفة أكثر من ثلاثة ملايين استطاعوا تحويل مبالغ هامة من دخولهم إلى مصر خلال سنوات السبعينيات والثمانينيات. أما العمالة في شمال إفريقيا في المغرب والجزائر وتونس فقد توجهت نحو الدول الأوربية.

لكن ماذا حدث لتلك العمالة المهاجرة سواء للخليج أو لأوربا؟ الخليج يزداد تقلص النشاط الاقتصادي فيه، ومن ثم تنخفض الحاجة إلى العمالة الوافدة. ومن بركات الاحتلال العراقي للكويت أن أصبح وجود بعض فئات العمالة العربية غير مرغوب فيه في عدد من دول الخليج، نتيجة للهاجس الأمني وتردي العلاقات بين دول عربية معينة ودول الخليج. أما في أوربا فتزداد العنصرية يوما بعد يوم بسبب الركود الاقتصادي، وتمارس ضغوط متزايدة على المهاجرين العرب، ويكاد يصبح وجودهم في تلك الدول الأوربية غير مرغوب فيه. وبذلك تسد الأبواب أمام هجرة العمالة الفائضة في مختلف الدول العربية، ويتوقف إمكان زيادة التحويلات، أو حتى الإبقاء على مستوياتها السابقة أو الحد من تراجعها.

هل هناك مستقبل للتنمية؟

بعد هذا العرض يطرح تساؤل هام: وهو ما هي التوقعات لإمكانات التنمية في ظل المعطيات المذكورة والتي لا تدعو للتفاؤل؟ ومن الأهمية بمكان أن تكون الإجابة عن التساؤل واقعية ومستندة على ما هو ممكن. وعلاج أزمة التنمية الاقتصادية العربية بعد كارثة مغامرة النظام العراقي في الكويت يتطلب مصارحة عربية على المستويين السياسي والاقتصادي. فعلى المستوى السياسي يجب أن يعي العرب الذين يسعون للمساعدة وطلب التمويل أنهم لا بد أن يحترموا حقوق عرب النفط في ثرواتهم، وأن ينظروا للثروة ليس بعين الحسد وألا يحاولوا الابتزاز سياسيا وعسكريا للاستفادة من تلك الثروة، ولكن من خلال إقناع عرب النفط بأهمية ربط المصالح لبناء مستقبل اقتصادي واعد. وفي الجانب الاقتصادي يجب أن يشعر المستثمر أو الممول العربي بأنه إذا وظف أمواله في أي من البلدان العربية ذات العجز، فإنها ستكون مضمونة كما لو أنه وظفها في الأسواق المالية الدولية الحرة، وأنها تستطيع أن تحقق عوائد مناسبة تغطي تكاليف الفرص البديلة وبأن تلك الأموال ستكون قادرة على تحسين قيمتها.

هذه الشروط لا يمكن تحقيقها في ظل الحقائق السياسية والاقتصادية السائدة في الوطن العربي، ولكي نصل إلى ما نصبو إليه لا بد من خلق أنظمة سياسية مستقرة تشيع الأمان والاستقرار، وتطمئن المواطنين قبل المستثمرين الوافدين من الخارج. ومثل هذه الأنظمة المستقرة سياسيا لا بد أن تحظى بموافقة شعبية عبر وسائل ديمقراطية. والخيار الديمقراطي لا بد أن يستند إلى تمثيل للمصالح الاجتماعية المختلفة حسب أوزانها شعبيا، كما أن هذا الخيار لا بد أن يعتمد على المساهمة الحرة للقطاع الخاص في مختلف الأنشطة الاقتصادية دون تعد على مصالح الطبقات الشعبية. كذلك فإن الديمقراطية ستؤدي إلى تخفيف التوترات الاجتماعية، لكن ذلك لا بد أن ينتج أيضا عن ارتفاع في مستويات المعيشة وتحسن هام في نوعية الحياة.

ومثل هذه النتائج لا بد أن تعتمد على تطوير أساليب العمل الاقتصادي وبرامج التعليم والعلاقات الاجتماعية، معتمدين على مبتكرات العصر الحديث تكنولوجيا ومؤسسيا، ومستفيدين من تجارب الأمم المتقدمة بدون تطرف أو رهبة. والتقدم والتنمية في نهاية المطاف لا بد أن يعتمدا على نهج العقلانية في اتخاذ القرارات ونبذ التزمت. ولكي نصل إلى هذه المرحلة المتقدمة لا بد من فترة مخاض سياسية عسيرة!!