التابعون الجدد.. د. سليمان إبراهيم العسكري

التابعون الجدد.. د. سليمان إبراهيم العسكري

حين أتأمَّل الأحاديث التي تتواتر في المجالس والديوانيات، العامة والخاصة، أو أقرأ التعليقات المنشورة، في الصحف والدوريات، وأستمع إلى الأخبار التي تبث بالراديو والتلفزيون، أشعر كأننا نعيش في حلقة مُفرَّغة، وكأنَّ جميع تلك المعلومات والأخبار تصبها يدٌ واحدة من إناء وحيد في آنية كبيرة. إنها لعبة جديدة للإعلام الذي يُلحُّ علينا بجُمَله وعباراته، ويكرِّرُ على مسامعنا مفرداته ومصطلحاتِه، حتى تصبحَ شائعاته وثائق، وتتحول أخطاؤه إلى حقائق. كأننا نحن - التابعون الجدد للهيمنة الإعلامية - ليس لدينا سوى صحن للاستقبال، وإرهاف للسمع مع بلاغة الطاعة ووسيلة التصديق.

  • أصبح صُناع الحدث كتيبة من الخارجين على القانون، والمتاجرين بالأقوات، ومرتكبي الجرائم، في عصر أصبحت الشهرة فيه محكّا للحكم على القيمة، والقيم!
  • تحوَّلت مهنة كتابة التاريخ اليوم إلى محنة مأساوية، أبطالها هؤلاء الذين يظهرون ليصوغوا لأنفسهم أدوارًا وهمية في صناعة التاريخ، يحاورهم مذيعو فضائح، يملأون ساعات الإرسال الممتدة باللغو واللغو المضاد!
  • نريدُ أن نقرأ وثائقنا بعيون عربية، كما نتمنى أن تتاح أرشيفات الثورات الوطنية لأبناء البلدان العربية، لتطّلِع الأجيال الجديدة على تاريخها الوطني من دون تفسير مغرض، أو فرض رأي مسبق
  • يالها من مفارقة حين يعتمد أساتذة التاريخ على مصادر الأعداء والمنافسين وغير الحلفاء في دراسة تواريخ فتوحهم واحتلالهم واستقلالهم!

يتحدث كل هؤلاء وهم يستدعون مصادر أخبارهم، كأن ما تقوله إذاعة ما، أو تنشره جريدة بعينها، أو يظهر على شاشة محددة قد أصبح حقيقة غير قابلة للنقاش، أو هو بمنزلة يقين لا يعوزه الجدل. وهكذا أصبح قاموسنا مستمدًا من معجم الغرب الإعلامي، فمن وَصَفه الغرب بالإرهاب، هو الإرهابي، ومن ادعى الغرب عليه بالديكتاتورية، هو الديكتاتور، ومن وسمه الغرب بالمروق، هو المارق، وأصبح الإسقاط المعاصر للحديث في السياسة، وكذلك بالفن والأدب، وحتى في الرياضة، يستلهم تلك المفردات والأوصاف والألقاب، التي جعلتنا أسراها.

مصدر الأخبار

قبل نحو القرنين، وبالتحديد في العام 1828م، بدأ تاريخ الصحافة العربية مع صدور الوقائع المصرية، وبالرغم من كل ما طال صحافتنا العربية من تطوير، في تقنية الطباعة، واتساع النشر، وتصميم الشكل، وبالرغم أيضا من إنشاء وكالات وطنية للأنباء في كل دولة عربية، فلا نزالُ نعتمدُ فيما ننشره على ما تلقيه إلينا وكالات الأنباء الأجنبية، لأن وكالات الأنباء العربية لا تخلق أخبارها، فكيف بها أن تفرض نفسها مصدرًا لها؟!

والحديث نفسه عن الأنباء المصورة، فعدا ما تحمله الشاشة إلينا من أنباء محلية روتينية، فإن سيلا غارقا من الأنباء العالمية تصدره إلينا وكالات أنباء الغرب، يصبح هو محور الحدث، والحديث.

الباحث عن أسباب افتقار المصادر العربية للأنباء لا يتوه كثيرًا في العثور عليها، فنحن نعاني - في مجال الإعلام المرئي والمسموع والمكتوب - من غياب للجدية في البحث عن المعلومات والحصول عليها، فضلا عن نشرها.

لقد أصبحت الصحافة تكتفي بقشور الأخبار التي لا تغني ولا تسمن، وطغت الصحافة الصفراء - بفضائحها وجرائمها ونماذجها - على كل ما عداها، وأصبح صناع الحدث العربي هم كتيبة من الخارجين على القانون، والمتاجرين بالأقوات، ومرتكبي الجرائم، في عصر أصبحت الشهرة فيه محكا للحكم على القيمة، والقيم.

لقد تناسلت برامج الحديث على الهواء، Talk Shows، وبات ضيوف هذه البرامج نجوما يشاركوننا الحياة في كل آن، فهم حديث الصباح والمساء، وحديث الصحافة والأنباء، ومحور النقاش في كل مجلس، وباتت مهمة هذه البرامج اجترار الحدث يومًا بعد يوم، ويتحول الضيف - من نجوم المجتمع والسياسة والفن والرياضة - إلى (فقرة) في تلك البرامج، تتلقفه كخبز طازج، ويدور بين الأيدي، حتى يأتي حدث آخر يجبه، ويجرفه إلى مستنقع النسيان، كما تجرف المياه غسيل الطرقات، لتفسح المجال للطاحونة أن تدور، وندور نحن، كتابعين جدد، معها، ونحن لا ندرك أنها تطحننا كما تطحن القيم، وتدوسنا كما تدهسها.

محنة كتابة التاريخ

ومثلما أدين تلك الآلة العمياء في تناولها لحياتنا، فلستُ أعفي البحث التاريخي من التبعية، وأقولها عن تجربة في دراسة التاريخ، وتدريسه، في مؤسساتنا التعليمية والعلمية. فالناظر إلى الكتب الكثيرة التي يدرسها طلابنا يجد أنها تستند إلى مصادر تاريخية، حتى في دراسة تاريخنا العربي والإسلامي! ويالها من مفارقة حين يعتمد أساتذة التاريخ على مصادر الأعداء والمنافسين وغير الحلفاء في دراسة تواريخ فتوحهم واحتلالهم واستقلالهم! وهي مفارقة تصبح مأساوية حين يصبح ذلك التاريخ الذي صاغ الغرب سطوره معيارًا لدراسة الشرق.

لقد تركنا نصوصنا التراثية والتاريخية والأدبية أداة في أيدي الآخرين لدراسة موقعنا من العالم، ونظرتنا إليه. وهنا لا أبحث عن اتهام للآخر بأن كل ما كتبه كان مغرضا، ولكنني أهيب بمراكزنا البحثية والتاريخية الوطنية بأن تجدد ذواتها، وأن تخرج من عباءة قرَّاء التاريخ الأجانب، لتكتب قراءتها الذاتية.

انظروا إلى هوامش دراساتنا التاريخية، ستجدونها مدونة على اساس من المصادر والمراجع الأوربية الاستشراقية، حتى تلك الدراسات التي تتناول أساطين الفلسفة العربية، وفقهاء الدين الإسلامي، وصناع التاريخ الحديث، وكأن هؤلاء لن نستطيع قراءتهم إلا بسلطان الغرب!

إن ذلك ما كان ليحدث لو لم نفتح أرشيفنا الوطني للبحث العربي العلمي والتاريخي، نريدُ أن نقرأ وثائقنا بعيون عربية، كما نتمنى أن تتاح أرشيفات الثورات الوطنية لأبناء البلدان العربية، لتطّلع الأجيال الجديدة على تاريخها الوطني من دون تفسير مغرض، أو فرض رأي مسبق.

ولعلي أسألُ: متى يطالع العرب رسائل الزعماء ومذكراتهم؟ ومتى تتاح لدارسي التاريخ الصفحات التي نسجها هؤلاء الذين صاغوا تاريخنا العربي المعاصر، ليشرق فجر جديد، من الشفافية والمصداقية؛ فجر لا تلونه قراءة أحادية للتاريخ، من أجل نهار لا تلوثه كتابة مشوهة للتاريخ؟

في كل عام، ومع مرور سنوات بعينها، تُفتح الأرشيفات الأجنبية للباحثين، من مختلف الجنسيات، ومثلما يعدُّون ذلك الأرشيف كنزا يجب الحفاظ عليه، فهم يعدونه أيضا تراثا يجب الاهتمام به، ودستورا يجب التعرف عليه. ولعلنا حين ندشن تلك المشروعات القارئة لتاريخنا نفتح صفحة جديدة في مستقبلنا.

لقد تحولت مهنة كتابة التاريخ اليوم إلى محنة مأساوية، أبطالها هؤلاء الذين يظهرون ليصوغوا لأنفسهم أدوارًا وهمية في صناعة التاريخ. إنهم يطلون علينا بتجاعيد الزمن، وإمارات الوهن، وذاكرة للنسيان، يحاورهم مذيعو فضائح، لا يريدون من التاريخ وجهه المضيء، ولا يرغبون من الوثائق جانبها الحي، وإنما يملأون ساعات الإرسال الممتدة باللغو واللغو المضاد.

ولعلي أسأل: هل بات قدرنا أن يصبح العالم فقيها في أمور غائبة عنا، وأن يكتب الغرب تاريخنا، وأن تُغيِّب آلة الإعلام بطاحونتها العملاقة أجيالا بعد أجيال؟

نحو عقد جديد

لا أرى من الصورة جانبها المعتم وحسب، ولكنه الجانب الأعم، الذي غطى على ما سواه من تجارب جدية، حتى كادت أن تتوه وسط زحام الإعلام المهيمن وركامه، بخطابه المخادع الذي يصور للناس قيمه ومصطلحاته ومفرداته على أنها الخير القويم.

إن الإعلام الذي يطغى أينما يممنا هو ذلك الإعلام الإعلاني الشيطاني النبت المروِّج لآلهة أرضية تصنعهم نجومًا لتفسد بهم الحياة. ولست أستثني المروجين لهؤلاء من أدعياء العلم بالدين الحنيف الذين يشغلون الأمة عن قضاياها الحقيقية لتنشغل بما لا طائل منه، وتُعنى بما لا فائدة فيه.

والحقيقة أننا نحن نبحث عن بداية صادقة لنقد الواقع الإعلامي، كدين أرضي مزيف، من أجل تحرير أتباعه الجدد، من ذلك الزيف، ولعل البداية تكون في اعتبار التحرر من الإرهاب الفكري أساسا لعقد جديد للإعلام. ذلك الإرهاب الذي يمارسه أساطين الإعلام باعتبارهم مصدرًا وحيدًا للمعرفة.

العقد الجديد يبدأ مع البحث عن مصادر جادة ومتجددة. ولعل أفضل بداية تكون مع دراستنا لأخلاقنا النقدية، في السياسة والمجتمع والثقافة والفن، من أجل البحث عن روح التسامح في تراثنا، والقيم الحقيقية في تقاليدنا، دعونا نبحث عن بذور البناء، لا جذور الهدم، دعونا ندعو للحمة وطنية تشمل كل الألوان والأطياف، مثلما ندعو لفهم أفضل لذواتنا، فهي البداية الحقيقية لفهم كل شيء.

علينا أيضا أن نُخرج الحوار بين الأطراف المتنازعة من إطاره السلبي، فلا يكون مجرد تنابذ بائس بالسباب، ولا يقتصر على مقارعة ضوضائية بالأسباب، أو يقف عند التناول الفج للشخصي على حساب العام، بل أن يكون ذلك الحوار أساسا للبناء، وهو ما يغيب عن آلة الإعلام الطاحنة للمتحاورين فيها من أجل صنع خلطة تمتزج فيها الدماء بالطين!

في هذا العقد الإعلامي الجديد ستبرز أهمية إعطاء مساحة قصوى لمؤسسات المجتمع المدني، التي أثبتت أنها - عوضا عن مجالس صورية غائبة أو مغيبة - أصوات الشعوب الحقيقية، وأننا لو منحناها الفرصة لأصبحت أساسا متينا لحفظ النظام، وتشكيل الوعي، وتنوير الأمة، وبناء قاعدة عريضة من متمردين على التبعية الجديدة التي يسعى الإعلام المهيمن لصوغها.

كما لا نريد، في ذلك العقد الإعلامي الجديد، أن تُصك الشعارات التي يسوقها الإعلام من أجل القضاء على الأصوات العقلانية، فالمصلحة العامة للأمة لا تعني قمع الأصوات المغايرة، بل الاستماع إليها، وإلى آرائها، لعل فيها ما يُصلح هذه الأمة بالفعل، من اجتهادات واختلافات، وهو الأمر نفسه مع اصطلاحات أخرى تتخذ من (المصلحة العليا)، و(الأمن القومي)، و(أنياب الديمقراطية) سبلا للقمع والإرهاب والاضطهاد.

صوت جديد

كما لا يمكن، ونحن نتصور عقدًا إعلاميًا جديدًا، أن نظل أسرى احتكار المصادر والأخبار. فالسطوة التي تمارسها وسائل الإعلام شديدة، وهي مثل كرة الثلج حين تهبط من أعلى التل، تكبر حتى تدمر ما يعترض طريقها، دون رحمة، ولذلك علينا أن نبحث عن صوت جديد يكون لنا، يعلو قويا وسط كل هذه الأصوات العالمية للإعلام.

لقد أثبتت التجربة أن المال ليس العقبة التي يمكن أن تقف أمام طموحاتنا، فنحن ننفقه على أبواب عديدة، فلم لا يكون الإعلام أحد أوجه هذا الإنفاق المبرر؟

لم يعد الإعلام مقصورًا على قنوات التلفزيون وصفحات الجرائد وشبكات الإذاعة، بل أصبح يتسلل عبر كل نهر مفتوح عبر الهواء، فهنا أخبار على الإنترنت، وفي أجهزة الهواتف المحمولة، أيضا.

من هنا لا أعتقد أن قناة تلفزيونية واحدة تكفي لتكون صوتنا المسموع وسط هذه الغابة الإعلامية، بل لعلي أعدها طائرًا وحيدًا لا يصل صوته أبعد من شجرته! كما لا أنصح بشراء الصفحات الإعلانية في وسائل الإعلام الغربي ووسائطه، فصناع القرار، والمتأثرون به، ليسوا ممن يبنون تصوراتهم على إعلاناتنا الخطابية.

إن صوتنا الجديد يمكن أن يكون مسموعًا إذا اتسم بالمصداقية، والشفافية، حتى ولو كان صوتًا عربيًا، فساعتها ستسعى آلات الإعلام لترجمته، والنقل عنه، والترويج له، لأنه يسبق الحدث، بل ويصنعه. ولكن لن يتمكن هذا الصوت من ممارسة حرية وجوده إذا لم تتح له مصادر المعرفة، وإذا لم يُسمح للقائمين عليه بممارسة حقوقهم التي تنص عليها الدساتير، وإذا لم يتح للجموع الوصول الميسر إلى هذه الأصوات.

على التابعين الجدد أن يتحرروا، وعلينا نحن - في فضاءات الإعلام والتاريخ والحقيقة - أن نمد أيدينا إليهم. في البدء كانت الكلمة التي غيرت الكون، وكانت الدعوة الأولى للخالق عز وجل لأمتنا الإسلامية بالقراءة، التي تعني التدبر والتبصر، من أجل فكر ثاقب وبصيرة نافذة. فلنبن مستقبلنا الذي يتحرر من ربقات التبعية، التي استبدلت باستعمار الجيوش استعمار العقول، واستلابها، وهي أثمن ما نملكه، وأهم ما نستخدمه لنبني مجتمعاتنا العربية الجديدة.

 

 

 

سليمان إبراهيم العسكري