القلم واللسان جابر عصفور

القلم واللسان

أوراق أدبية

لولا الكتب المدونة لبطل أكثر العلم ولغلب سلطان النسيان سلطان الذكر. وفي هذا المقال يواصل الكاتب رحلته في أعماق التراث الشعري العربي ليرصد التطور الذي أصاب الوعي العربي مع تحوله من الشفاهية إلى النزعة الكتابية.

كان الدفاع عن "الطبع" في التراث النقد القديم دفاعا عن "الشفاهية" بأكثر من معنى، وذلك بتقارب يمكن فهـمه في علاقته بالموقف النقيض الذي وضع الدفاع عن "الصنعة" موضع الدفاع عن "النزعـة الكتابيـة". وإذا كان الشعراء المحدثون، في العصر العبـاسي الأول، قـد تطـورا على وعي كتـابي واعد، صدروا عنه في نظمهم الجديد الذي أكد أهمية الصنعـة، فإن هذا الوعي وصـل إبـداعهم بالحكمة الجديـدة، الفلسفة، وكـان دفاعـا مضمنا عن حضور الشاعر، ومجلى جديدا من مجالي النموذج الأصلي الذي ارتبط بـالحكمة الجديـدة التى لم تعد مقصـورة على العرب، والتي أصبحـت "ضالة المؤمن" يبحث عنها في كل قطر مـن أقطار المعمورة الانسـانيـة. هذه الحكمـة الجديـدة وصلت الشعـراء المحـدثين (بشار، أبو نواس، صالح بن عبدالقدوس، أبوتمام.. وغيرهم) بالمعتزلة والفـلاسفة في الأفق والرؤى، وأقعت صفة "الحكيم" على الشاعر من قبل أن يقال إن أبا تمام والمتنبي "حكيمان".

لكن مجلى "الشاعر الحكيم" الذي صاغـه الشعراء المحـدثون، منـذ القرن الثاني للهجرة، استجـابـة إلى وعيهم الكتابي بالعالم، ظـل مجلى هامشيا، في مقـابل المجلى الشفاهي الذي ظل سائدا، تدعمه الثقافـة الرسمية الغالبة، وتلوح به في دفـاعها عن التقاليـد السـابقـة التي انطـوت على دلالات عـرقيـة لا تفارقها. ولذلك ارتبط هـذا المجلى بنقائض الوعي الكتابي، وبسط ظلـه على تجليات الشاعر فاختزلها في صورة سائدة، صورة تستعيد الذكرى الأولى للبدوي الذي ينثال عليـه الكلام انثيالا، وينطق لسانه الحكمة التي ترددها الألسنة، بعد أن تحتويها الذاكرة الشفاهية. وحين أكـدت هـذه الصـورة المعنى الشفـاهـي للعلم المقصور على العرب، في تعارضه مع المعنى الكتـابي المنفتح على كل الأمم، ارتبطت بدلالة "اللسـان" التي أصبحت نقيضـا لـدلالة "القلم"، وفي الوقت نفسه أصبح "القلم" عـلامـة على الكتابـة التي غـدت، بدورها، نقيضا للشعر.

القلم.. أداة للمعرفة

وفي مقابل ذلك، اكتسبت صورة "الكتاب" و"القلم" دلالة جـديـدة، فى سيـاقـات الـوعي المدينى الذي استشرف أفـاق المعمورة الإنسـانية. وتجلى كـلاهما أداة وشعارا للمعرفة الجديدة التي تتواصل بها الأمم في حلم تتميم النـوع الإنسـاني الـذي تحدث عنـه الكندي الفيلسوف. ولم يكن من قبيل المصـادفة أن يـدافع الجاحظ الذي توفي قبل الكندي بخمس سنوات عن " لكتابة" و"الكتاب" دفاعه عن الوسيلة التي يتعرف بها الإنسان أخاه الإنسان في كل مكـان، ويتواصل بها الأدنى والأقصى في كل الأرجاء، وينقل بها الخلف عن السلف من كل حدب وصوب، خاصة بعد أن أصبحت "الحكمة ضالة المؤمن"، يسعى وراءها أينما وجدها.

وإذا كان الكتاب وعاء مليئا علما، فيما يقول الجاحظ، وظرفا حشي ظرفا، فإنه صار وعاء العقل الأعرابي والرومي، والهندي، والفارسي، واليوناني القديم، والمولد، العقل الإنساني الذي ينقل المعرفة من أمة إلى أمة، وقرن إلى قرن، ولسان إلى لسان، فالكتاب هو الذي يجمع لنا الأول والآخر، فيما يقول الجاحظ، الناقص والوافر، الخفي والظاهر، الشاهد والغائب، الرفيع والوضيع، الغث والسمين، الشكل وخلافه، الجنس وضده. والحضور الدال لمعنى "الكتاب"، الذي يتحدث عنه الجاحظ على هذا النحو، وفي سياق يؤكد انحيازه إلى الثقافة الكتابية، حضور يغدو به "الكتاب" شعارا لفكر إنساني يجاوز معنى العرقية، وعلامة على جهد انساني مشترك، تستوي فيه رغبة الأمم، وتتشابه فيه العرب والعجم. ويعني ذلك أن دلالة " الكتاب " المقصودة، هنا، وإن كانت تشير إلى كتاب عربي أعرابي، اسلامي، جماعي، إلا أنها تشير إلى كتاب قد أخذ من طرف الفلسفة، وجمع بين معرفة السماع وعلم التجربة، وأشرك بين علم الكتاب والسنة وبين وجدان الحاسة وإحساس الغريزة، وبين علوم الهند وميراث الفرس وفلسفة اليونان، كتاب أخذ يتطلع إليه الفتيان كما يتطلع الشيوخ، ويشتهيه الفاتك كما يشتهيه الناسك، ويشتهـيه اللاعب ذو اللهو كما يشتهيه المجد ذو الحزم، ويشتهيه الغفل كما يشتهيه الأريب، ويشتهيه الغبي كما يشتهيه الفطن.

الكتاب والوعي بالزمن

هذا الوعي الأجد، بدوره، وعي بالزمن ومقاومة له، في مقابل ما تشير إليه النزعة الشفاهية البدوية. إن الاعرابي ينسى الكلمة التي سهر في طلبها ليلة، فيما يقول الجاحظ، فيضع في موضعها كلمة في وزنها ينشدها الناس. لكن الكتاب لا ينسى شيئا ولا يبدل كلاما بكلام. ولولا الكتب المدونة لبطل أكثر العلم، وغلب سلطان النسيان سلطان الذكر، ولما كان للناس مفزع إلى موضع استذكار. ولو تم ذلك لحرمنا أكثر النفع. ولولا ما أودعت لنا الأوائل في كتبها، فيما يقول الجاحظ، وخلدت من عجيب حكمها، ودونت من أنواع سيرها، حتى شاهدنا بها ما غاب عنا، وفتحنا بها المستغلق علينا، فجمعنا إلى قليلنا كثيرهم، وأدركنا ما لم نكن ندركه إلا بهم، خس حظنا من الحكمة، وضعف سبيلنا إلى المعرفة. ولو لجأنا إلى قدر قوتنا، ومبلغ خواطرنا، ومنتهى تجاربنا لما تدركه حواسنا وتشاهده نفوسنا، لقلت المعرفة، وسقطت الهمة، وارتفعت العزيمة، وعاد الرأي عقيما، والخاطر فاسدا، ولكل الحد وتبلد العقل. ولذلك كانت الكتب عند الجاحظ، أولى من بنيان الحجارة. وآية ذلك أن الكتابة تستقل عن صاحبها، وتخلق حضورها الذاتي المغاير لحضوره، وحياتها المنفصلة عن حياته، وتبقى على مدى الدهر، وتحفظ مالا تحفظه بنيان الحجارة وحيطان المدر. والكتابة تفضل صانعها، ويتقدم الكتاب مؤلفه، ويرجع حكمه على لسانه، فالكتاب يقرأ بكل مكان، والكتابة تظهر ما فيه عن كل لسان، وتوجد مع كل زمان، على تفاوت ما بين الأعصار، وتباعد ما بين الأمصار.

والقلم أداة الكتاب ووسيلة الكتابة. وضعه الله عز وجل في مكان رفيع، لما له من دلالة مرتبطة بحضورها، ونصره الله بذكره في كتابه العزيز حين قال  سورة القلم ، الآية: 1 ن والقلم وما يسطرون فأقسم بالقلم كما أقسم بما يخط بالقلم، ويعقب الجاحظ على ذلك مقارنا، بين القلم رمز النزعة الكتابية واللسان رمز النزعة الشفاهية، فيقول إن اللسان لا يجري مجرى القلم، ولا يشق غباره أو يتكلف بعد غايته، فأثره ضائع، وحضوره مؤقت، ومداه موصول بمدى الصوت الذي سرعان ما ينقطع، أما القلم فهو علامة الحضور المتصل والزمان الممتد للكتابة. وذلك لأن حضور القلم حضور مدينى، يرتبط بما هو معلوم من أن حاجات الناس بالحضرة (المدينة) أكثر من حاجاتهم في سائر الأماكن، وهي حاجات يغدو معها القلم حياة، ولأزمة من لوازم المعرفة في أمور الغيبة النائية وأحوال الحاضرة المعقدة. ولولا ذلك ما اختصت الدواوين بالقلم الذي هو أبسط عندها، وأثره أعم في حواضرها. والمقارنة بين ما تنطوي عليه دلالته الرمزية من أبعاد مدينية حضرية، مقابل "اللسان" الدال على النزعة الشفاهية البدوية، مقارنة يمكن أن يكشف عنها قول الراجز الساخر:

تعلمن أن الدواة والقلم

تبقى ويفني حادث الدهر الغنم

ومن الممكن أن نرى هذه الدلالة الرمزية للقلم في مصادر كثيرة يزخر بها تراثنا العرب. وحسبي، في هذا المجال، الإشارة إلى ما جاء في كتاب أبي بكر الصولي عن "أدب الكتاب" حيث نقرأ إن أول ما أنزل من القرآن هو قوله تعالى: سورة العلق، الآيات 1 ـ 5 اقرأ باسم ربك الذي خلق* خلق الانسان من علق* اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم* علم الانسان ما لم يعلم، فجعل تبارك اسمه أول ما أنزل في القرآن ذكر التفضيل على عباده بخلقه لهم، واتبع ذلك بذكر الإنعام عليهم بما علمهم من الكتاب الذي به قد أتم أمر دينهم ودنياهم واستقامة معائشهم وحفظها. ولولا أن من لا يحسن الكتابة يجد ممن يحسنها معونة وإبانة عنه لما استقام له أمر ولا تم له عزم ولحل محل الصور الممثلة والبهائم المهملة.

أول أمر قرآني

ويبدو أن هذه الدلالة الرمزية للقلم هي التي جعلت البعض يفترض أن الانتقال من النزعة الشفاهية إلى النزعة الكتابية، على مستوى الابداع والفكر، قد حدث مع نزول القرآن الكريم، وأن القرآن الكريم نفسه هو النموذج الكتابي الأول الذي يفارق النماذج الشفاهـية بإعجازه، وينتقل بالعقل العربي الذي يتلقاه ويتوجه إليه من حال البداوة إلى حال الحضارة، من حال الوعي بالقبيلة إلى حال الوعي بالأمة، من حال الاستجابة العفوية إلى الطبيعة إلى حال البناء المعقد للثقافة. ويكتمل معنى هذه الدلالة الرمزية حين نضع في اعتبارنا أن أول ما أنزل من القرآن الكريم كان أمرا بممارسة فعل القراءة الذي هو الوجه الآخر لفعل الكتابة. ولكي تكتمل دلالة المعجزة توجه الأمر إلى النبي الأمي لإبراز تميزه عن غيره. لكن في الوقت الذي نصت الآية فيه على القراءة، لتبرز دلالتها وأهميتها في الدين الجديد، فإنها أكدت أن الله سبحانه وتعالى "علم الإنسان ما لم يعلم" بواسطة القلم، فكان هذا النص علامة على الطبيعة الكتابية للإسلام بوصفه دينا وعلما على السواء. والمسافة بين هذا النص العلامة ومعنى الكتابية في الاسلام هي المسافة التي يحتلها حضور القلم. أعني حضوره بالمعنى الذي انطوت عليه عبارات الصولي التي قالت إنه بالكتابة جمع القرآن، وحفظت الألسن والآثار، ووكدت العهود، وأثبتت الحقوق، وسيقت التواريخ، وبقيت السكوك، وأمن الانسان النسيان، وقيدت الشهادات. ويمكن أن نضيف: وتم الميثاق بين المخلوق وخالقه في الإسلام الذي أكد كتابه الأكبر حضوره الكتابي.

ولا غرابة، والأمر كذلك، لو وصفنا سياق العلاقة بين القلم (الكتابة) واللسان (المشافهـة) بأنه سياق علاقة متوترة، تنطوي على تعارض بين نمطين من الحضارة والتفكير، ونموذجين متقابلين من رؤية العالم والكون. وفي إطار هذا السياق المتوتر يجب أن نفهـم التضاد الذي أقيم بين الشعر الذي غدا مرتبطا باللسان، والعلوم القديمة المولدة التي غدت مرتبطة بالكتاب، وعلى رأسها، أو في موازاتها، فنون الكتابة. أعني أن التقابل بين المشافهة والكتابة قد تحول، في جانب من جوانبه، إلى تقابل بين العلم والشعر، كما تحول في جانبه الثاني إلى تقابل بين المعرفة المقصورة على أهلها والمعرفة الانسانية التي يتبادل فيها البشر الأخذ والعطاء.

وكان الجاحظ يقارن بين النظم والكتابة، في هذا السياق، فيضع الشعر في مرتبة أدنى من مرتبة الكتابة في تواصل العلم الانساني، ويصل الشعر بمحاولة العرب في تخليد مآثرها، وتحصين مناقبها بالاعتماد على الشعر الموزون، والكلام المققى الذي كان ديوانها. وإذا كانت العجم قيدت مآثرها بالبنيان، فيما يقول الجاحظ، فإن العرب قيدت مآثرها بالنظم الذي يفيد فضيلة البيان على الشاعر الراغب والمادح، وفضيلة المأثرة على السيد المرغوب إليه والممدوح به. لكن الكتب بوجه عام أولى من بنيان الحجارة وحيطان المدر والشعر على السواء. فالحجارة قابلة للدمار والهدم، لأنه من شأن الملوك أن يطمسوا على آثار من قبلهم، وأن يهدموا ما بناه أعداؤهم. والشعر العربي الذي جعله المدافعون عنه "ديوان العرب" وجامع حكمتها ومعارفها حديث الميلاد، صغير السن، بالقياس إلى معارف الأمم وحكمتها التي أودعتها كتبها، فكتب ارسطاطاليس ومعلمه أفلاطون ثم بطليموس وديمقراطس وغيرهم قبل بدء الشعر بالدهور قبل الدهور، والأحقاب قبل الأحقاب. وفضيلة الشعر مقصورة على العرب، وعلى من تكلم بلسانهم، فالشعر بوجه عام لا يستطاع أن يترجم، ولا يجوز عليه النقل. ومتى حول تقطع نظمه وبطل وزنه، وذهب حسنه، وسقط موضع التعجب به. وليس ذلك الحال في الكلام المنثور الذي يتميز على الشعر في ذلك الجانب من حفظ المعارف ونقل العلوم، فالكلام المنثور الذي يبتدي المعرفة وينقلهـا مباشرة أحسن وأوقع من المنثور الذي تحول من موزون الشعر. ولا عبرة في ذلك بمن حاول نقل الشعر نظما، فقد ترجم المنثور بأن أضيف إليه ما ذهب بالكثير من أسرار الإصل، كما حدث في ترجمة كليلة ودمنة، أو غيرها من منظومات العلوم التي كانت محاولة للامتداد بشفاهية النظم إلى ما ليس من جنسها. وإذا كان النثر لغة العقل في مقابل النظم الذي صار لغة الوجدان، فالنثر لغة الحكمة والمعرفة الممتدة المتنقلة بين الأمم.

سياق مغاير للأقدمين

هذا الذي يقوله الجاحظ أو ينقله يضع الشعر في موضع جديد، ويدخل بالنموذج الأصلي للشاعر في سياق مغاير لسياقه الأقدم، وذلك من منظور التعارض بين الشعر والعلم الذي هو الوجه الآخر للتعارض بين النزعة الشفاهـية والنزعة الكتابية. ولم يعد الأمر مقصورا على التعارض بين المكانة الاجتماعية للشاعر مقابل المكانة الاجتماعية للكاتب الناثز، في هذا السياق، بل تجاوز الأمر المكانة الاجتماعية إلى القيمة المعرفية للنموذج الأصلي للشاعر الذي أخذت تناوشه المعارف الجديدة للحكمة الانسانية التي أخذت تجمع بين العرب وغيرهم من الأمم، في وعي المدن التي اتصلت بأقرانها في أركان المعمورة الانسانية. وتلك معارف نقلت المفاضلة بين الشعر والنثر إلى مستوى مغاير، يرتبط بالمفاضلة بين الكتابة والقلم من ناحية، مقابل اللسان والمشافهة من ناحية ثانية.

مؤكد أنه قد وجد من دافع عن الشعر، في هذا السياق الجديد، وحاول إعادة الاعتبار إلى التجليات الجديدة للنموذج الأصلي للشاعر العربي. ومؤكد ان المدافعين عن الشعر كانوا يدافعون فيما يدافعون عن "ديوان العرب" في مواجهة علوم الأعاجم، وعن قدرة النظم العربي على نقل المعرفة المتوارثة بالقياس إلى المعارف المجتلبة، وكفاية هذا النظم في المعرفة. وقد نقل الجاحظ نفسه عن بعض من ينصر الشعر ويحوطه ويحتج له قوله إن الترجمان لا يؤدي أبدا ما قال الحكيم على خصائص معانيه، وحقائق مذاهبه، وخفيات حدوده، إلا أن يكون في العلم بمعانيهـا مثل مؤلف الكتاب وواضعه، فكيف تكون الكتب المترجمة أنفع لأهلها من الشعر المقفي.

لكن الجاحظ يذكر، في مقابل هذا المدافع، المدافع المضاد الذي يقول: إذا كان الأمر على ما قيل من نقص الترجمة بالقياس إلى الأصل، أليس معلوما أن شيئا هذه بقيته، وثبات قوته على ذلك الفساد، حري بالتعظيم، وحقيق بالتفضيل والتقديم على شعر إن هو حول تهافت، ونفعه مقصور على أهله، وهو يعد من الأدب المقصور وليس بالمبسوط. ومن المنافع الاصطلاحية والتي ليست بحقيقة بينة. وكل شيء في العالم من الصناعات والأرفاق والآلات، فهي موجودات في هذه الكتب دون الأشعار، وها هي بيننا وبينكم، مثل كتاب إقليدس، ومثل كتاب جاليتوس، ومثل المجسطي، مما تولاه الحجاج، وكتب كثيرة لا تحصى فيها بلاغ للناس، وإن كانت مختلفة ومنقوصة مظلومة ومغيرة، فالباقي كاف شاف، والغائب منها كان تكميلا لتسلط الطبائع الكاملة. فأما فضيلة الشعر فعلى ما حكينا، ومنتهى نفعه أحد حيث انتهى بنا القول. ويعنى الجاحظ القول الذي يقلل من قيمة الشعر بالقياس إلى نقيضه الصاعد في عصره، وهو النثر وهو القول نفسه الذي يقلل من قيمة اللسان الذي يضيع تلفظه في أمواج النسيان بالقياس إلى القلم الذي يبقى ما ينقشه على مدى الأزمان، فالقلم حضور وتحويل للمشافهة إلى كتابة تبقى، وتتنزع الحضور من عدم النسيان. وسكت الجاحظ عن الكلام المباح في المفاضلة بين القلم واللسان التي هي مفاضلة المكتوب المنثور والمنظوم المحفوظ.

 

جابر عصفور

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات