أحمد السقّاف شاعر العروبة والثورات.. سعدية مفرح

أحمد السقّاف شاعر العروبة والثورات.. سعدية مفرح

هو واحد من قلة من الشعراء العرب الذين اختاروا طريق الالتزام الثوري منهاجا شعريا لهم، فكان ديوانه الشعري حافلا بكل عناوين الثورات العربية التي عاصرها أو عايشها أو ربما اشترك فيها، كثورة رشيد عالي الكيلاني العراقية، والثورة الفلسطينية المستمرة، وثورة الاستقلال في الجزائر والثورة اليمنية وثورة يوليو المصرية وغيرها من الثورات التي ساهمت في تشكيل وجدانه القومي وأفكاره الشعرية.

إنه الشاعر الكويتي أحمد السقّاف الذي ولد في العام 1919م، وفي أغسطس 2010م، انتهت رحلته الحياتية الثرية بالكثير من الأفكار والمواقف والمعاني والمهمات والكتب والقصائد، فكان الرجل مزيجا من كل هذا، وفوقه كان الأب الحنون ليس لأبنائه وحسب بل لأجيال من أدباء ومثقفي الكويت الذين آنسوا له وأحبوا طريقته في التعامل معهم، وتوجيه النصح لهم بما يشبه الاقتراحات اليسيرة. وأتذكر هنا ما قاله لي في ختام أمسية شعرية ألقيتُ فيها بعض قصائدي، قبل سنوات عديدة، وكان حاضرا يسمع باهتمام بيّن، وما أن انتهت الأمسية حتى أخذ بيدي بحنو بالغ وبصوت عال حرص على أن يسمعه جميع من وقفوا لتحيته من الحاضرين أشاد بتجربتي الشعرية، وبطريقتي في الإلقاء، ثم ابتعد بي قليلا عن الجميع ليخفض صوته كثيرا وهو يقول لي بما يشبه الهمس «ولكنك يا بنيتي أخطأت في نطق بعض المفردات، أحرصي على تشكيل القصيدة حرفا حرفا وتدربي على إلقائها قبل أن تلقيها على مسامع الناس». وقد رافقتني كلماته الذهبية تلك بعد ذلك دائما، فكنت أستحضرها كلما هممت بإلقاء قصيدة.. وكانت همساته الحنونة رفيقتي في تدربي على قراءتها.

ويبدو ان السقّاف الذي توزعته مروحة واسعة من الاهتمامات السياسية والصحافية والشعرية بقي دائما مخلصا للقصيدة، والتي كانت معينه في أداء استحقاقات بقية المهمات التي حفل بها. فكانت رحلته الشعرية حافلة بالكثير من القصائد التي كانت قضيتها الأولى العروبة والقومية وتجلياتها المختلفة، وعلى الرغم مما يلاحظه المتلقي لأشعاره من كلاسيكية تقترب بها من التقليدية الجامدة عند حدود اللغة الرصينة والمفردات الجزلة فإنه كثيرًا ما كان ينجح في وضع ذلك كله ضمن إطار حداثي سلس يراوح ما بين عمود الشعر وتفعيلته. ويتضح ذلك على وجه الخصوص في تلك القصائد الحماسية التي بثها في ثنايا الثورات العربية التي تكاثرت في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، وأشعل من خلالها الوجدان القومي بحماسة إبداعية متناغمة من فكره القومي الذي لم يحد عنه، حتى بعد أن ادلهم ليل العرب، وأظلمت سماواتهم القومية بالكثير من الغيوم السوداء من دون أن تمطر بأي إنجازات حقيقية.

والسقّاف الذي نشأ على حب اللغة العربية، ودرس على يد شيوخ دين قواعد تلك اللغة حتى هضمها، أكمل طريقه التعليمي بواسطة ذلك الحب المهيمن على الروح لتلك اللغة، وكل ما يتعلق بها وما تفضي إليه، كما تلقى دروسا في الدين والشريعة الإسلامية وحصل على إجازة تدريس اللغة العربية، كما درس في كلية الحقوق. وعندما عمل معلمًا في المدرسة الشرقية في الكويت في أربعينيات القرن الماضي لم يكتف بما كان يعلمه لتلاميذ المدرسة، بل وجد في نفسه قدرة على توسيع دائرة التعليم، وإن بطريقة أكثر سلاسة وعفوية، فأقام ندوة أدبية أسبوعية. وبعد أن استنفدت تلك الندوة اغراضها بعد عدة أعوام، وجد نفسه في خضم مشروع ثقافي إعلامي كان فريدا من نوعه في الكويت آنذاك، فقد أنشأ العام 1948 بالتعاون مع صديقه عبدالحميد الصانع أول مجلة أدبية ثقافية عامة تصدر وتطبع في الكويت، هي مجلة «كاظمة» التي توقفت العام 1949 لأسباب خارجة عن إرادتهما. لكنها كانت قد أشعلت في نفسه الطموح حماسة وقادته تجاه العمل الإعلامي، فانتقل من التعليم للعمل في دائرة المطبوعات والنشر، فأشرف على مطابع الحكومة الكويتية. ومن خلال موقعه فيها شارك العام 1958م في تأسيس أهم مجلة ثقافية عربية صدرت في ذلك الوقت ومازالت تصدر حتى هذه اللحظة بتصاعد مطرد في مستواها، وأعني بها مجلة «العربي» التي بين أيدينا الآن، والتي لم تكن إنجازه الإعلامي الوحيد، بل سبقتها إنجازات ولحقتها إنجازات تصب كلها في خدمة الثقافة العربية في كل مكان، كمساهماته في إنشاء النادي الثقافي القومي، ورابطة الأدباء ومجلة «البيان».

أما إنجازه الأهم في الخدمة العربية العامة فقد تجلى في عمله مديرا عاما للهيئة التي أنشأتها الكويت في منتصف ستينيات القرن الماضي بهدف مساعدة بعض الدول العربية باسم «الهيئة العامة للجنوب والخليج العربي»، وقد اعتنى من خلالها ببناء المدارس والمستشفيات والمستوصفات والكليات في اليمنين الشمالي والجنوبي قبل وحدتهما والإمارات العربية أيضاً قبل وحدتها والبحرين والسودان. وقد أفنى أحمد السقّاف في هذه الهيئة سنوات طويلة من عمره والكثير من الحماسة والعمل الدءوب، إلاأن ذلك كله لم يكن ليشغله عن التأليف والنشر، فقد ترك للمكتبة العربية عدة عناوين شعرية ولغوية وفكرية وسياسية أيضا، منها «شعر أحمد السقّاف»، و«نكبة الكويت»، و«المقتضب في معرفة لغة العرب»، و«أنا عائد من جنوب الجزيرة العربية»، و«الأوراق في شعر الأديرة النصرانية»، و«حكايات من الوطن العربي الكبير»، و«العنصرية الصهيونية في التوراة»، و«سيف الغدر العدوان العراقي»، و«قطوف دانية في الشعر الجاهلي»، و«أحاديث في العروبة والقومية»، و«الطُّرَف في المُلَح والنوادر والأخبار والأشعار»، و«أحلى القطوف في الشعر الأموي»، و«أغلى القطوف في الشعر العباسي».

 

 

 

سعدية مفرح