المسلمون.. والنظام العالمي المتغير

    من التحديات التي يواجهها المفكرون والباحثون - كما يواجهها القادة وصانعو السياسات في هذا الزمان- أن الحقائق قد صارت أغرب من الخيال. وأن السرعة التي تتلاحق بها الحوادث والتغيرات قد صارت أكبر من السرعة التي يكتب بها الكتاب، أو يفكر بها المحللون.

لا يكاد الباحث أو السياسي يرصد ظاهرة جديدة، أو يسجل وقوع حدث من الأحداث، ويستعد لتحليله وفهمه وإدخاله في حسبانه عند اتخاذ المواقف وإصدار القرارات حتى يقتحم الساحة حدث جديد يغير صورة الواقع القديم، ويقتضي الباحث وراسم السياسة ومصدر القرار أن يعيدوا حساباتهم في ضوء تلك التغيرات المتلاحقة والظواهر التي لا تكاد تثبت على حال.

ولقد شهد العالم خلال السنوات الثلاث الأخيرة سلسلة من التغيرات السياسية والاقتصادية الكبرى زلزلت أركان "النظام العالمي" الذي تكونت معالمه وتحددت قسماته عبر نصف قرن من الزمان في تطور محدد الوجهة موصول الحلقات.

مركز الزلزال

ولقد ظهر على الفور، مع بداية هذه التغيرات، أن مركز الزلزال يقع في عاصمة الاتحاد السوفييتي، الذي كان وجوده كقوة سياسية وعسكرية وأيديولوجية كبرى ركنا أساسيا من أركان النظام العالمي، الذي بدأ في الاستقرار بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. والذي قام على أساس انقسام العالم إلى عالمين، وانقسام القوى الفعالة سياسيا واقتصاديا إلى معسكرين كبيرين يتقاسمان النفوذ ويتوزعان السيطرة والتحكم في سائر شعوب الأرض. يدين أحدهما بالمذهب الفردي الحر في السياسة والاقتصاد، ويدين الآخر بالأيديولوجية الماركسية والفلسفة الاشتراكية في التنظيم السياسي والاجتماعي والاقتصادي. ومع بداية التحول الأساسي في علاقة المعسكرين الكبيرين ابتعادا عن الحرب الباردة واقترابا من الوفاق، بدأت شعوب العالم كلها تعيد النظر في حساباتها، وتتحسس مواطن الخطر على مصالحها، ومواطن الفرص الممكنة لخدمة تلك المصالح.

وقد تجددت الحاجة إلى إعادة الحسابات واستشراف صورة المستقبل، مع التطور السريع الذي تلاحقت به الحوادث خلال السنتين الأخيرتين والذي تمثل في سقوط الأنظمة الشمولية ذات الأيديولوجية الماركسية في جميع دول أوربا الشرقية، ثم في سقوط النظام الشيوعي في "الاتحاد السوفييتي"، وأخيرا في تفكك ذلك الاتحاد وانهياره التام سياسيا واقتصاديا. وإذا كان العرب والمسلمون يدخلون في نطاق ما اصطلح الباحثون على تسميته العالم الثالث، وإذا كانت هموم ذلك العالم تتشابه إلى حد كبير، فإن للشعوب المسلمة خصوصية تتفرد بها وهي تراجع حساباتها وتتطلع إلى تحديد علاقتها بالعالم في ظل نظامه الجديد.

وقبل أن نتحدث عن هذه الخصوصية، ونرتب على ذلك الحديث أهم نتائجه، فإننا نسجل- دون دخول في محاولة للفهم الكامل لما جرى - أنه من العسير، علميا وعمليا، الحديث عن نظام عالمي جديد. ذلك أن الأمر المؤكد أن تغيرات مهمة قد طرأت على خريطة القوى السياسية والاقتصادية في العالم، وأن عديدا من مكونات النظام القديم قد سقطت واختفت، وأن القوى الباقية في الساحة تتوجه إلى الاتفاق على صيغ وأساليب جديدة للتعامل، جوهرها الاعتماد المتبادل أو التعاون عام مواجهة الأخطار المشتركة الجديدة، أخطار نفاد الموارد، وتلوث البيئة، وانتشار الأوبئة، بدلا من التوجه القديم لخوض نزاعات مسلحة تسابقا على حيازة الموارد والثروات الطبيعية، وتنافسا - لذلك - على النفوذ السياسي الذي يكفل الاستئثار بتلك الموارد.

هذا هو الشيء الوحيد المؤكد. أما صورة النظام الجديد، وحقيقة القوى المشاركة فيه، والوزن النسبي لكل منها، فلا تزال أمورا يصعب الحديث العلمي فيها، ما دامت التغيرات الكبرى لا تزال تتوالى، وما دامت الصورة المستقرة للأوضاع السياسية والاقتصادية في العديد من مناطق العالم لم تتضح معالمها بعد. لهذا فإن الحديث عن النظام العالمي في أيامنا هذه ينبغي آن يكون حديثا عن "نظام عالمي متغير" بدلا من أن يكون حديثا عن "نظام عالمي جديد".

ثورة التقنية والنظام العالمي الجديد

وإذا كنا قد أشرنا إلى خصوصية العرب والمسلمين في مواجهتهم لهذا النظام العالمي المتغير. فإننا نحاول الآن وضع النقاط على الحروف توضيحا لهذه الخصوصية، وسعيا إلى تحديد أسلوب التعامل الأمثل مع قوى هذا النظام العالمي المتغير.

1 - إن زلزال التغيرات الحادة التي طرأت على موازين القوى السياسية والاقتصادية، قد وقع ولا يزال يقع في عصر بلغت فيه الثورة التقنية في مجالات الانتقال والاتصال والمعلومات ذروة لم يسبق لها مثيل، وهي ثورة أدت - خلال سنوات قليلة - إلى سقوط الحواجز وانهيار الستر الحديدي، وتقارب الزمان والمكان وتشابه الهموم والشواغل والاهتمامات، مما جعل كثيرا من الساسة والمفكرين يتحدثون عن ثقافة عالمية ذات طابع إنساني تشارك فيها جميع الأمم والشعوب، تكون أساسا مشتركا للحياة العقلية والنفسية لشعوب العالم وهي تتهيأ لإقامة نظامها العالمي الجديد. إن مرحلة التطور الحضاري التي يسميها كثير من المؤرخين مرحلة الثورة الصناعية الثانية قد عمت خصائصها أركان العالم كله تستوي في ذلك الدول التي شاركت مشاركة فعالة في تحقيق تلك الثورة الصناعية، والدول التي اقتصر دورها على استيراد ثمرات تلك الثورة واستخدام منتجاتها. ولذلك توحدت - إلى درجة كبيرة - مشاكل أكثر الشعوب، كما توحدت آمالها وتطلعاتها. والسؤال الذي يطرحه المسلمون اليوم على أنفسهم، كما يطرحونه على سائر الأمم والشعوب هو التساؤل عما إذا كان المسلمون شركاء في أساسيات الثقافة العالمية، وأنهم لذلك ينبغي أن يكونوا شركاء في تحديد معالم الأساس الثقافي والأخلاقي للنظام العالمي الجديد، أم أن ثقافتهم ورؤيتهم العامة للحياة ولأنفسهم وللآخرين تجعل منهم كيانا مختلفا مقطوع الصلة - في تاريخه وحاضره - بهذه الثقافة. وأنه لا سبيل - بسبب ذلك - لاندماجهم ومشاركتهم في هذا الجهد الجديد.

2 - إن الإجابة عن هذا التساؤل المبدئي لم تتم حتى الآن في إطار موضوع قائم على تحديد الخصائص والمعالم الأساسية للثقافة الإسلامية والبحث الجاد عن عناصر اللقاء بينها وبين عناصر الثقافة التي تتجمع هذه الأيام لتكون رؤية مشتركة واختيارا جديدا لشعوب العالم. لقد تمت المقابلة بين عناصر الثقافة الإسلامية وعناصر الثقافات الأخرى، وخصوصا ثقافة الغرب في أوربا وأمريكا في إطار تاريخي صنعته ظروف الصراع والمنافسة، وملابسات حقبة الاستعمار السياسي والاقتصادي، وحقبة الحروب الدينية والتبشيرية التي عاصرت - زمنيا على الأقل تلك الحقبة الاستعمارية. وكان من ثمرات ذلك أن رسمت للإسلام في الفكر الغربي والعالمي صورة بالغة التشويه جوهرها أن المسلمين شعوب متخلفة تحركها رؤى غيبية خالصة، وعقائد جبرية مطلقة، تكفر بقوانين السببية، وتنكر دور الإرادة الإنسانية الحرة. كما أضيفت إلى تلك الصورة عناصر أخرى تدور كلها حول "العدوانية" و"الإرهاب" وإكراه الآخرين على العقيدة والفكر والسلوك. واختزلت في هذا السياق فكرة الجهاد الإسلامي وشوهت حقيقتها لتغدو حربا عدوانية شاملة على العالم كله. ولم يكن غريبا أن تكون الثمرة النهائية لتلك التصورات كلها إحساسا بالغربة التامة، وشعورا باستحالة التواصل الحقيقي، والتعاون المتبادل لإقامة نظام عالمي جديد مشترك. ولذلك كان الجواب القاطع عن السؤال الذي طرحناه جوابا بالنفي مؤداه أن المسلمين هم "الغير"، كذلك كانوا على امتداد تاريخهم، وكذلك ينبغي أن يظلوا خلال المرحلة الجديدة، التي تصوغ فيها الشعوب الأخرى نظاما عالميا جديدا يحكم علاقاتها في المستقبل.

الانحياز الغربي لإسرائيل

3 - ولقد شهدت السنوات التي أعقبت قيام دولة إسرائيل إضافة جديدة إلى قائمة "الحواجز" بين المسلمين وبين سائر الشعوب. وذلك بما لجأت إليه الدعاية الصهيونية داخل شعوب الغرب من إثارة فكرة "الميراث اليهودي المسيحي المشترك Judes Christian Heritage لتتوصل به إلى ضمان انحياز الغرب شعوريا وعقائديا، ومن ثم سياسيا وعمليا إلى جانب الدولة الصهيونية في صراعها مع العرب والمسلمين. ولقد كان من ثمرات نجاح هذه الفكرة أن انحاز الغرب شعوريا وسياسيا إلى إسرائيل لسنوات طويلة انحيازا أثر كثيرا على مسار الصراع السياسي بين العرب وإسرائيل، ونشطت في ظل هذا الانحياز كنائس مسيحية كثيرة في الولايات المتحدة تبشر "بالصهيونية المسيحية"، من منطلقات ظاهرها الاعتقاد المسيحي الديني، وحقيقتها الوقوع تحت تأثير أفكار ومصالح تروج لها وتدافع عنها دوائر صهيونية ذات جذور وعلاقات واسعة داخل المجتمع الأمريكي. والذي يعنينا أن هذا العنصر الإضافي الذي ولد داخل ساحة الصراع العربي الإسرائيلي قد ساهم في زيادة تشويه صورة العرب والمسلمين وفي تعميق الشعور بالغربة "والغيرية" نحو الإسلام والمسلمين. إلى حد لا يزال يجعل كثيرا من العقلاء والمنصفين في الغرب يتساءلون- وهم صادقون مع أنفسهم - عما إذا كان للشعوب المسلمة مكان أو دور تؤديه في إقامة النظام العالمي الجديد.

4 - وعلى الجانب الإسلامي، فإن ملابسات الصراع الحضاري والسياسي قد حملت معها إحساسا قويا بالخطر الذي يتهدد الهوية الإسلامية كما يتهدد العناصر الأساسية للوجود الحضاري والتميز الثقافي لأمة المسلمين، وكان رد الفعل الطبيعي أن ترتفع- على الجانب الإسلامي- دعوات العزلة والمحافظة على القديم الأصيل، والمبالغة - لذلك - في توكيد تميز الحضارة الإسلامية، واختلاف التصور الإسلامي عن نظائره في سائر الحضارات والشعوب. فاستقر لدى كثير من المسلمين إحساس قوي بالاختلاف الجذري وباستحالة اللقاء مع الآخرين. وأديرت المنافسة الحضارية، كما أدير الصراع السياسي في كثير من الأحيان، على أساس النفي المتبادل، واستحالة العمل المشترك، حتى صارت الدعوة إلى مثل هذا العمل المشترك تصور على أنها تنازل حتمي عن خصوصية الإسلام، وإهدار لوظيفته الأساسية في الدعوة إلى الحق الذي يمثله المسلمون وحدهم. وأنها بذلك كله بداية استسلام المسلمين لخصومهم وفنائهم في الحضارة الأخرى الغازية.

5 - والهدف من كتابة هذه السطور كلها يتلخص في كلمتين تقال أولاهما للقادة والدعاة المسلمين، وتقال الأخرى للقادة والباحثين والمثقفين خارج العالم الإسلامي ممن يطرحون على أنفسهم السؤال عن مكان المسلمين من الجهد العالمي لبناء ثقافة عالمية جديدة تكون "بنية تحتية" للنظام العالمي الجديد تزوده بمنظومة أخلاقية جديدة ذات طابع فردي وجماعي ترسم أسس التعامل بين الأمم والشعوب على أساس التعاون والاعتماد المتبادل بدلا من الصراع والسباق إلى التسلح والدخول في حروب باردة وساخنة. كما تفتح مجالا جديدا للعمل المشترك يتوجه به العمل الثقافي - من جديد - إلى حماية الإنسان وصيانة حقوقه وحرياته وترشيد مسيرته على طريق التقدم والبحث عن الرخاء.

مهمة المسلمين أن يكونوا حاضرين

(أ) فأما الكلمة التي توجه إلى المسلمين فإنها تذكير بوحدة الخالق، ووحدة الخلق، ووحدة رسالة الإسلام الذي أوحى به الله لجميع الأنبياء والمرسلين رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل- وما أرسلناك إلا كافة للناس - قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا.

وهي تذكير كذلك بأن الحق لا يصل إلى الناس إلا من خلال بشر مثلهم وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه وأن العزلة هي العدو الأول للدعاة. وأن الاغتراب مقدمة للعزلة. وهي أمر لم يعد ممكنا ولم يعد جائزا، وهي تذكير لهم - كذلك - بأن مسيرة الحضارة الإنسانية قد وصلت بالأمم والشعوب إلى مفترق طرق. تبحث عنده عن مسار ثقافي وأخلاقي جديد يتدارك الآثار الجانبية المدمرة للحضارة المادية الشيئية التي حل فيها الاستكثار من الثروة محل الحرص على مودة الناس وتعميق الصلات بين الإنسان والإنسان، وإقامة العدل، وتقديم الفضل، وإشاعة الرحمة وإفشاء السلام. وأنه إذا كان الإسلام قادرا على الإسهام في تثبيت هذه القيم الغائبة التي يبحث عنها اليوم أكثر الناس فإن مهمة المسلمين أن يكونوا حاضرين مع تلك الشعوب، وأن يقولوا للناس جميعا في بر ومودة وتواضع "نحن هنا" ونحن معكم على هذا الطريق. وبغير الإصرار على هذه المعية، وترجمتها بالقول والسلوك، فسيبقى المسلمون في عزلتهم، وتبقي سائر الشعوب في حيرتها. إنه إذا كانت مرحلة المواجهة في عصر الاستعمار قد أوجبت إصرار المسلمين على تميزهم وحفاظهم على هويتهم، فإن رحلة انهيار الحواجز بين الشعوب، والتوجه لإقامة نظام عالمي جديد تقتضي المسلمين أن يقتربوا، وأن يشاركوا وأن يقدموا كل يوم ألف دليل على أنهم شركاء وليسوا غرباء. وأنهم إخوة وأصدقاء، وليسوا خصوما ولا أعداء، وألا يدخروا جهدا في إزالة الصدأ الكثير عن وجه الإسلام المشرق الجميل الذي أراده الله رحمة للعالمين، فتصوره البعض - وصوره آخرون - على أنه نقمة وحرج وشقاء.

على أن الأمر في ذلك كله لا يمكن أن يكون أمر كلمات تقال أو نداءات توجه إلى الآخرين، يبقى معها واقع المسلمين شاهدا على نقيض ما يقال، وإنما يحتاج الأمر إلى أن يبدأ المسلمون- داخل حدودهم- مسيرة نهضوية جديدة يصبح واقعهم بعدها مؤيدا لما يوجهونه للعالم من نداءات وما يزعمونه عن أنفسهم من ادعاءات، والمسيرة النهضوية التي نتحدث عنها لا بد أن تشمل المحاور الثلاثة الآتية:

1 - براءة سريعة من كل صور انتهاك الحقوق والحريات، والتزام جديد باحترام الإنسان وتكريمه وتحويل هذا الالتزام الذي يجد أصوله الواضحة والصارمة في توجيهات الإسلام ومبادئه إلى واقع معيش في الحياتين السياسية والاجتماعية على السواء، فلا تنتهك حقوق الأفراد والأقليات، ولا يستخف بحق المخالفين والمعارضين في أن يعلنوا رأيهم ويجهروا بخلافهم وهم آمنون، كما لا يستخف بحق الجماهير في أن تشارك في إدارة شئونها مشاركة حقيقية لا حجر عليها ولا التفاف من حولها.

2- توقف عن روح الانطواء، وقذف الآخرين بالحجارة لمجرد أنهم مختلفون، وبحث جاد صادق عن عناصر الاتفاق والالتقاء بين المسلمين وسائر الشعوب، وتوقف عن معالجة العزلة الحضارية التي فرضت على العرب والمسلمين عن طريق المبالغة في توكيد تميز الحضارة العربية الإسلامية وإدانة سائر الحضارات إدانة عامة مسبقة تضيع معها فرص التعاون على الخير، وتبادل الاعتماد.

3 - تحرير المجتمعات العربية والإسلامية من واقع التخلف والتبعية الاقتصادية، وهو واقع يصعب معه على الآخرين أن يتعاملوا مع العرب والمسلمين في إطار الشعور بالندية والتكافؤ.. في عصر يوشك فيه تحديد الوزن النسبي للشعوب على أساس ما تملكه من أسلحة الدمار أن يختفي ليحل محله معيار جديد هو معيار القوة الاقتصادية لتلك الشعوب.

(ب) وأما الكلمة التي توجه للقادة والمثقفين والباحثين ورجال الإعلام خارج العالم الإسلامي فخلاصتها أن سوء فهم خطيرا للإسلام قد تراكمت عناصره عبر السنين، وأن فجوة ظالمة وجفوة مصطنعة قد زرعت في أرض العلاقة بين المسلمين وبين سائر الشعوب. وأنه إذا كان المسلمون يكونون- إحصائيا- سدس سكان العالم، فإن المصلحة والأمانة والموضوعية والحرص على مستقبل الشعوب، كل هذا يجعل إعادة فتح ملف الإسلام والمسلمين في إطار نظرة إنسانية موضوعية منصفة أمرا لا غنى عنه ولا بديل له.

إننا ندعوهم - في هذه السطور - إلى أن يلاحظوا أمورا ثلاثة:

الأصولية ليست هي التيار الغالب

1 - أن المسلمين في النهاية ناس من الناس، وأنهم أبناء عصرهم أدركوا ذلك أو لم يدركوه. وأن مشاكلهم في عصر انهيار الحواجز بين الشعوب هي مشاكل تلك الشعوب، وأنهم - مثلهم - يسعون إلى تحقيق العدل والتقدم وحماية حقوق الإنسان وصيانة حياته على هذا الكوكب المرهق بتخريب الإنسان، وأنهم يسعون- في النهاية- إلى تحقيق الاعتماد المتبادل وإشاعة السلام بين جميع الأمم والشعوب.

2 - أن ما يسمى "الأصولية" ليس هو التيار الغالب بين المسلمين، وإنما هو رد فعل له أسبابه، وله نظائره وأشباهه المعروفة داخل سائر الديانات، وعلى ساحة بقية الحضارات. وأن الغالبية العظمى من المسلمين لا تقبل أن تسلم قيادها للمتشددين الذين تغيب عن عقولهم وقلوبهم وظيفة الدين الأساسية في تحقيق "الانعتاق" وتوفير الحب والطمأنينة للناس.. كل الناس، وأنه من الظلم والخطأ الفادح التعامل مع الشعوب المسلمة كما لو كانت كلها جيشا من الأصوليين. وإن حصان هذا اللفظ واردا من الغرب غريبا على تراث الإسلام والمسلمين.

3 - أنه قد آن الأوان لوقف الحملة على الإسلام والمسلمين، حملة التشويه والتشهير اللذين تضيع معهما الحقيقة، وتتراجع فرص الاقتراب واللقاء، ذلك أن هذه الحملة لم يعد لها دور ولا وظيفة في ظل الأوضاع العالمية الجديدة، والحروب الدينية قد صارت جزءا من التاريخ، وموقف الإسلام في هذا لا شبهة فيه ولا غموض، جوهره أن لا إكراه في الدين وخطابه لنبيه (ص): أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ولقد بقي من عالمية الإسلام أن أبوابه مفتوحة لمن شاء، وأن دعوته إلى الخير موجهة لجميع الناس، وأن يد أتباعه ممدودة بالخير والسلام إلى جميع الشعوب أن "حي على الفلاح" "وتعالوا إلى كلمة سواء" و تعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان. وما نظن توجه البشرية في عالمنا هذا الجديد إلا توجها إلى هذه القيم التي نادت بها سائر الأديان، ودعا إليها سائر المنصفين والعقلاء. فهل تجد هذه الدعوة صدى؟ وهل يستجيب أحد على جانبي الساحة لهذا النداء؟