التعددية اللغوية فخ جديد لتمزيق الهوية الوطنية

التعددية اللغوية فخ جديد لتمزيق الهوية الوطنية

هل جاء عصر يقوم فيه المستعمرون القدماء بتمويل مشاريع لإحياء اللهجات البدائية بهدف ضرب اللغة العربية في عقر دارها؟

جعل الله اللغة أداة للتخاطب ليتفاهم الناس بها بعضهم مع البعض الآخر، وليبنوا بواسطتها حضارة قائمة، ونظاماً مستتباً في مجتمع ينعم من خلاله الناس بالطمأنينة والراحة والأمن. ويبدو أن أصل اللغات، من حيث هي، كانت مجرد أصوات عشوائية استحالت بالتعامل اليومي، وتحت وطأة الحاجة إلى التفاهم، إلى أصوات منتظمة دالة على معانٍ ما في النفس. وهي على كل حال أصوات اعتباطية، غالباً، لا صلة للسطح بالجوهر لدى تحديد المضمون.

واللغات تتطور وتنحط، وتتقدم وتتأخر بحسب درجة الناطقين بها من الرقي الحضاري والتقدم الاجتماعي، ولذلك فهي ليست ظاهرة اجتماعية فحسب، ولكنها مرآة مجلوة لتسجيل درجة الوعي الحضاري لدى متحدثيها. وليست اللغة، من وجهة أخرى، مجرد ظاهرة اجتماعية فجة كما قد يتمثلها علماء الاجتماع، وإنما هي أداة تعبيرية طيعة حية تبلغ ذروتها حين يعمد الناطقون بها إلى التماس الجمال الفني في تعبيرهم بها، وفي التأنق في انتقاء ألفاظها عبر نظامها الصوتي والتركيبي، مما يجعل من تعابيرهم، أو قل إن شئت: مما يجعل من لعبهم باللغة: لوحات فنية من النسوج الكلامية تروق سامعها، وتبهر قارئها، فيقال: هذه لغة فنية، أو هذه لغة شعرية، أو هي شعر على قطع الوصف.

التعددية اللغوية شعارا

ولكي تبلغ أي لغة مرحلة التطور الأولى، وهي المرحلة الشعرية، قد تفتقر إلى ظروف تاريخية وجغرافية وحضارية طويلة لتبوؤ تلك المكانة. ولا تزال أي لغة حية ترقى، ثم ترقى، إلى أن تلتمس رقيها في التعبير عن المفاهيم العلمية الدقيقة والمعقدة بكفاءة مثيرة، بعد أن كان قصاراها مجرد التعبير عن معانٍ بسيطة ساذجة في مرحلة المهد، والتعبير بجمالية فنية في مرحلة ما بعد ذلك، في حين تعد القدرة على استيعاب المفاهيم العلمية والفكرية الشديدة التعقيد، المتناهية اللطف: ذروة التطور في حياة كل لغة من اللغات الحية.

ولقد يعني ذلك أن كل لغة تمر بمرحلة نمو وتطور طويلة في الغالب قد تكون خلالها موصوفة بمجرد اللهجة، وقد تظل، تحت حكم ظروف تاريخية وحضارية مجرد لهجة محلية ساذجة إلى يوم الدين، كما هو الشأن بالقياس إلى آلاف اللهجات الإفريقية البدائية، ومن العسير على أي قبيلة تنطق لهجة ما أن تستطيع تطويرها فترقى بها إلى مستوى اللغة الحية لمجرد الرغبة السياسية الجامحة في ذلك، أو لمجرد الرفض الحضاري لعطاء اللغة الحية السائدة إلى جانبها.

وبحكم أن اللغة جزء من كيان الناطقين بها فإن اختلاف الألسنة، داخل أمة واحدة، وعلى صعيد جغرافي معين: كثيراً ما يستحيل إلى مصدر صراع بين المتساكنين، ومنبع تنافر بين المتناطقين. ولذلك كثيرا ما يفضى مثل هذا الصراع إلى تمزيق شمل الأمم أو تعريض وحدتها السياسية للخطر والفرقة.

ولقد تبادر إلى ذهني كل هذا وأنا أفكر في المسألة اللغوية التي أمست، لدى كثير من الأمم، مصدراً للتمزق والاختلاف، بل منبعا للعداوة والبغضاء. فلم يجد الذين كانوا بالأمس يستعمرون كثيراً من الشعوب التي تكون على عهدنا هذا ما يسمى بالعالم الثالث شيئا أجدى عندهم لتمزيق تلك الشعوب، والنهوض بشراسة ضد تطورها واستقرارها، أفضل من التلويح بشعار التعددية الزائف، وهو شعار زائف لأنهم يدركون أن التعددية في الفكر هي ثقافة خاصة، ويجب أن تتمرس عليها الشعوب زمناً معيناً، وتحت بلوغ مستوى من الثقافة والعلم معين أىضا، ومن بين التعدديات التي يلوحون بها، مكرا وخبثا، لا إخلاصا وبرا، التعددية اللغوية التي أصبح الغرب يمول أذناباً له في البلدان التي تكابد ويلات هذا الشر، فتراهم يسعون إلى تأسيس الأبجديات للهجات بدائية لا تقدم الذين يتكلمونها فتيلاً، بل ربما تزج بهم في الدرك الأسفل من التخلف والمعاناة.

ويبدو أن أهل الغرب بعامة، والفرنسيين خاصة، يستعذبون ممارسة هذا الشغب لمحاولة الإبقاء على نفوذهم اللغوي في البلدان التي كانوا بالأمس القريب يحتلونها، وخصوصا في إفريقيا الشمالية. ذلك بأنهم لما رأوا بعض تلك الشعوب تسعى إلى استرجاع شخصيتها الوطنية، وهويتها القومية: ثارت ثائرتهم، وجن جنونهم، ونزا شيطانهم ففكروا، ثم دبروا، ثم قرروا أن ينادوا برفع قميص عثمان جهاراً، وأن يبثوا روح الشقاق والخلاف بين المتساكنين في بلدان المغرب العربي بحجة منح الحقوق للأقليات، وتمكينها من ممارسة حقوقها، وأول ما يأتي في رأسك اللائحة الطويلة، التي هم كانوا أول السالبين لها حين كانوا يتحكمون في رقاب الشعوب المغاربية: التعددية اللغوية.

فخ لغوي

ذلك أن الفرنسيين الذين هم، فيما يبدو، لا يبرحون يحنون إلى الهيمنة التي كانوا يمارسونها بالأمس على تلك الشعوب، يعلمون حق العلم أن بعث لهجة من اللهجات الميتة من رمسها البالي لا يعني إمكان تطويرها، ليقع النفع بها، فيما بعد، لأهلها، ولكنه سعي يعني فقط الحيلولة بين متكلمي تلك اللهجة وما يريدونه من تطور وتقدم. وهم أثناء ذلك، ينصبون لهم الفخ اللغوي الذي يعني الاضطرار إلى ترك تلك اللهجات حين يجد الجد، والفزع إلى الفرنسية يكرعون منها، ويرضعون من لبنها، على أنها لغة الحضارة والعلم والتكنولوجيا، ومن مزاحمة اللغة العربية في عقر دارها، وبين أشياعها وأنصارها، وجعل اللهجات المحلية ضرات لها، ولو لم تكن قط إلا أخوات ودودات عبر أربعة عشر قرناً من التعايش اللغوي، حيث يذهب الشيخ محمد المبارك الميلي في كتابه: (تاريخ الجزائر في القديم والحديث) إلى أن البربرية، في إفريقيا الشمالية، ظلت بجانب اللغة العربية كالعامية بجانب الفصحى اليوم. فلقد ظلت أختا لها توادها، لا ضرة لها تضارها.

تقارب اللغات وتباعدها

حقا، إن هناك أمما كثيرة في العالم تتعدد لغاتها مثل كندا، وسويسرا، وبلجيكا، ولكن تعدديتها اللغوية تنهض على استعمال لغات متقاربة في الرقي والتطور، فكندا تتحدث شعوبها لغتين اثنتين: الإنجليزية والفرنسية، ومع ذلك فإن وجود اللغتين الاثنتين في الاستعمال اليومي والفكري للكنديين أفضى إلى الشروع في تمزيق الكيان السياسي للكنديين على نحو دفع سكان (كيبيك) إلى المطالبة بالاستقلال عن الدولة الكندية، ولقد بلغ الأمر من الجدية إلى درجة تنظيم استفتاء حول الانفصال على أساس لغوي محض، ولكن الأغلبية كان ينقصها عدد قليل من الأصوات لكي يتم هذا الانفصال.. ويقال: إن هناك كرة أخرى من هذا النوع ستجري مستقبلا لحسم مسألة الانفصال السياسي الذي هو في أصله لغوي.

بينما نجد ما يمكن أن نطلق عليه (الاستقرار اللغوي) في دول أخرى مثل سويسرا التي يتحدث سكانها ثلاث لغات، هي في أصلها لغات الشعوب المجاورة لهم، وهي: الإيطالية، والألمانية، والفرنسية.

إن التعددية اللغوية لدى أي أمة من الأمم على عهدنا هذا نقمة من نقم التاريخ، ولاسيما إذا كانت مجرد لهجات بجانب لغة عالمية كالعربية التي على كثرة متحدثيها في العالم بفضل الإسلام والقرآن، فإنها لا تبرح مفتقرة إلى جهد مضن تبذله مجامع اللغة العربية مشرقا ومغربا من أجل تطويرها تطويرا عالياً، كيما تستطيع منافسة اللغات الحية المتطوري أهلوها، والمؤثرين في سير أحداث التاريخ المعاصر في العالم: مثل الإنجليزية والفرنسية.

لقد ظلت اللغة العربية هي اللغة العلمية الأولى، إذ كانت لغة العلوم والتكنولوجيا والطب طوال تسعة قرون من الدهر على الأقل، أفلا يسعى العرب اليوم، إذ قصرت بهم هممهم عن أن يكونوا قادة العالم سياسيا، كما كانوا: أن تكون لغتهم على الأقل في مستوى اللغات العالمية الكبيرة حتى تتخلص من الطفيليات التي تعلق بها، هنا وهناك، من هذه اللهجات التي لم تنشئ قط حضارة، ولا قادت إنسانية، ولا أشعّت بدين، ولكن بشّر بها مستعمرو الأمس ليبثوا الشقاق وسوء الأخلاق بين الشعوب التي كانت ابتليت باحتلالهم، لتتمزق هي، من حيث يتفرجون هم عليها، ويتشفون منها، كيما ستود لغاتهم وحدها.

 

عبدالملك مرتاض

 
  




في الدنمارك لغات متعددة يتعامل بها البشر ولكن بتوجس





في بولندا مثال آخر لتعدد اللغات داخل الدولة الواحدة





في بلجيكا تسود التعددية اللغوية ولكن بدرجة تطور متقاربة