تعدد صور الشاعر

تعدد صور الشاعر

لا فارق بين الشاعر الكاهن أو الشاعر صانع الطقوس في شعر محمد عفيفى مطر، ما ظلت القصيدة علامة كالشعيرة، أو شعيرة كالعلامة التي تغدو شرنقة تنطوي على حلم القيامة الذي يرى بذرة الزمن الآتى في طمي الزمن الحاضر، خصوصا عندما يتحدث الطمي ويبوح بأسراره إلى شاعر ينسرب وعيه في ماء النهر الذي يحيطه غرين الخصب، في لحظات الطمث الأسطوري وهي لحظات لا يمكن إغفالها لمن يتأمل ديوان شهادة البكاء في زمن الضحك حيث نقرأ فاتحة تقول:

أبتهل إلى أقمار الطمث المخصب والأشعار
أن تضرم في كلماتي النهار
أن تحرقني وتبعثرني
أن تجعلني أمثولة هذا الصمت الأسود
أن تربطني شارة عار في عنق السجان
أن تجعلني لفظا مرا في أفواه الدجالين الكذابين

واختلاط الأسطوري بالسياسي يوازي بين كلمات صانع الطقوس وكلمات الكاهن الذي يشبه الشامان في هذا السياق، وتتجاور أقمار الطمث الدالة على الخصوبة مع النار التي هي عنصر من عناصر الكون، في لحظة الخلق المؤدي إلى النور بدل الظلام، ويبدو السياسي واضحا في تحول حضور الشاعر إلى وصمة عار في عنق السجان، ولكن يتضافر مع ذلك شعور إسلامي عميق، يدفع إلى تضمين الإيقاع القرآني، والإفادة الدلالية من تراكيبه التي ينتهي بها التضمين إلى الكلمة القفل آمين، وهو نفس الشعور الذي يعقب الفاتحة بمعوذة نقرأ فيها:

أعوذ بالشعر من الجنون
لولاه ما كنت ولا تفتحت تحت مشارط الشمس
مسالك الرؤية في العيون
لولاه ما تكوّرت وانبسطت جوانب المهجور والمسكون
لولاه لانتحرتُ تحت مطر الدهشة بالصمت أو الخيانة

و الشعر لا يغدو شعيرة طقسية جالبة للخصب في هذا السياق فحسب، بل يبدو منجاة من الجنون وفقدان العقل الذي هو فقدان للوعي والرؤيا المخصبة على السواء ولذلك فهو الترياق الروحي الذي يفتح مسالك الرؤيا المغلقة، ويجعل الأعين أحدّ بصرا والقلوب أرهف بصيرة، بعيدا عن اليأس الذي يؤدي إلى الانتحار بالصمت أو الخيانة، ولا فارق بين الاثنين، فالصمت على الظلم خيانة، وعدم المشاركة في شعائر الخصوبة والسكوت عن الأداء الطقسي للشاعر الكاهن والعراف خيانة من النوع نفسه، لكن على مستوى مواز، هو المستوى الذي يتجاوب فيه وعي الرفض الأسطوري والسياسي من منظور مفعم بالشعور الديني الإسلامي على وجه التحديد أعني هذا الشعور الذي يرتقي في معراج مضفور من الحلم والأسطورة والحس الصوفي على السواء، فيبدأ التمايز الحاسم بين النزعة التموزية والنزعة الإسلامية المختفية تحت ملامح من الوجه الأمبيذوقليسي، ونقرأ:

تعلو قامتى في جسد الحلم،
أضىء الشجر الطالع في وجهي
معقود، ودمع طازج الخضرة
مكتوب على وجهي ينابيع وأقواسًا
من الماء الهلالي
وتعلو قامتي في جسد الحلم,
سهيل وردة خافقة في عروة القلب،
ينابيع دم معتمة تصحو،
خيول طلعت من جزء...
اتسعت دائرة الأرض
سلام هي حتى مطلع...

إضاءات الذات

وما يلفت الانتباه، أولا، التجسيد الذي تنطق به الأسطر لصعود وعي متصوف ما بين درجات «البداءة» و «اللوامع» التي يصعد بها الرائي إلى حيث يرى المشهد النوراني الذي ترسمه الأسطر. وثانيا التدوير العروضي الذي يجعل من الأسطر المتتابعة سطرا واحدا ممتدا، تتدفق فيه الدلالة بلا وقفات، تدفق الصوت الصادر من القلب بلا فواصل. وثالثا وجود التضمين البلاغي الذي يعيدنا إلى إيقاع سورة القدر التي تتصل بنزول القرآن في ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، حيث تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (آية 4 - 5). والموازاة بين الرؤيا الصوفية التي تجسدها الأبيات وآيات سورة القدر لافتة ومناطها النور الذي يتجلى للمؤمن بها، الصادق في إيمانه، والموعود بأن يكون في غمرة هذا النور القدسي، في ساعة موعودة في ليلة القدر، فيغدو هذا النور كأنه لحظة كشف صوفي، ترى فيه الذات نفسها صاعدة من الماء الهلالي، وهو رمز إسلامي يعلو مآذن المساجد كالعلامة، فتضيء الذات الصاعدة من الماء الطهور، كأنها مرآة للضوء المنعكس عليها، فترى حضورها نورانيا في رؤيا تتصالح فيها الأشياء، ويغدو سهيل النجم وردة خافقة في عروة القلب، والدم الساكن في العروق تصحو ينابيعه وتتدافع وتتسع دائرة الأرض للرائي الذي يشهد ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ومع اتساع مثل هذه الرؤيا التي لا تحدث إلا في ليلة كليلة القدر لا بد أن تضيق العبارة. ويخلق الشاعر علاقات جديدة بين الكلمات، كي تتجسد بها خصوصية رؤياه التي رأى فيها اتساع دائرة الأرض، والسماوات تتفتق عن خاصرة النهر الحي، وهو يطالع ما يعلو على الوعي، أو ما هو دون الوعي في اللاوعي، من نافذة مفتوحة تحت سراويل البحر، في استعارات طازجة متتابعة، تحاول القبض على ما يروغ من الأصابع كالماء، ومالا تمسكه اليد كالهواء، ولا سبيل إلى إدراكه أو توصيل إدراكه إلا بالاستعارات والمجازات التي وظيفتها تجسيد كل ما يند على التجسيد، ويروغ من شباك الكلمات وقبضتها:

والإشراقيون والهرامسة والعرفاء
يقيمون وليمة الجدل النوري
السهروردي يتنفس ملء الفضاء
ويأكل ملء الفوضى ويشرب ملء
الفيض الذي لا ينقطع

ومن الذي يستطيع أن يناقش لغة الفيوض بالعقل التحليلي البارد إنها لغة تقول لقارئها تذوّق ولا تحلل، انظر بعيني البصيرة لا بعينى البصر، حلّق على جناح خيال متدافع وسايرها، تدرك مغزاها في اندفاعك معها، دون أن يكون المنطق العملي ممسكا بجموحك الشعوري، فالمنطق العملي قشرة تسجن هواجس القلب وتجهض بذرة التجلي، أما الشعور بما وراء كلمات الرؤيا وإشعاعاتها في الروح، فهو مفتاح الدخول إلى ما يندر دخوله، حيث:

«فجأة... تلتقط الأذن إيقاع آية من القرآن مرتعشة بالصدى، تخترق كتلة الأجساد وقشرة الأشياء، تهدم أسوار الضجة الخرساء، وتجعل المنفى وطنا مغسولا بمطر الفهم، وتقلب فوضى العالم، وتعيد ترتيب كل شيء، ويتجسد إيقاعها أزمنة وخيوطا تحدد علاقة الأشكال والوجوه وتعابير العيون كل شيء يصبح حوارا معها وجزءا من معناها الكلي، تمتد نسيجا وقناعا ورؤية، تصبح مفتاحا صوتيا يشق الأبواب ويكشف خبايا السرائر، يصبح العالم صوتا وصدى بالسير فيها نفهم، ونتعلم التحديد والتقسيم وإطلاق الأسماء».

هكذا تخيل محمد عفيفي مطر لحظة الكشف المعرفي والشعري على السواء والمسافة قريبة بين هذه الرؤيا وبحث الشاعر عن مخلّص، يكون مرآة له ورمزا عليه وإشارة له في آن، مخلص نعرف بعض ملامحه، حين نقرأ:

أحلم يا مدينتي الفارغة العينين
بالفارس الذي تنشق عنه الزَّحمةُ المغلَّلة
يرقص رقصة الموت ورقصة الزفاف
يخرج من جيوبه البيارق
فبيرق تصبغه الدماء
وبيرق تنبت في أطرافه السنبلة الخضراء
وبيرق يثمر فيه البرق والرعد ويسقط المطر

حضور «المخلّص»

ودلالة «الحلم» لافتة، فهي تصل في مداها الدلالي بين رؤية الحلم ورؤيا الكشف، وذلك في البرزخ الذي يتحد فيه معنى الفارس بمعنى الخلاص الذي يحيل الجدب إلى خصب، والموت إلى حياة والعدم إلى وجود، كأنه العلامة التي ستطلق من الأفق الشرقي سخونة الأرحام وطقوس الولادة الجديدة أما الفارس المنتظر الذي يأخذ شكل الخلاص أو بشيره أو رمزه متعدد الوجوه، فهو رمز موروث من الحركة الرومانسية، سواء في تجلياتها الأوربية أو العربية؛ أعني التجليات التي كان أبو القاسم الشابي فيها يتحد بصورة المخلص المجهول، شأنه شأن جبران الذي لم يكف عن تصور شخصية النبي الآتي بالخلاص لكل بني الإنسان.

ومن تجاوب دلالات «النبوة» و«الألوهة» بمعناها الوثني في الأساطير القديمة، انبثقت صور أقنعة وحضور المخلّص في شعر الخمسينيات، ابتداء من قصيدة بدر شاكر السياب «المسيح بعد الصلب» التي كانت البداية التي انطلق منها الجميع إلى استدعاء أساطير الخصوبة النهرية في مصر إيزيس وأوزيريس وما بين النهرين جلجامش وعشتار وبلاد الفينيق في الشام أدونيس وأفروديت، وتجاوبت مع الأشكال الأسطورية لشعائر الخلاص، متعددة المظهر متحدة الجوهر، وبعث عليها صعود «المد القومي» الذي أذن صدقا أو كذبا بانبثاق فجر الخلاص القومي، ومجيء الخلاص على يدي فارس قومي السمات، رمزي الملامح، يتحد معه الشاعر، ويوازيه أداء في الفضاء الشعري الذي احتفى احتفاء خاصا بأساطير الولادة الجديدة، والفينيق، أو ما حلم به محمد عفيفي مطر من أن السنوات القومية الصاعدة سوف تطلق «من الأفق الشرقي قمر اليتم والفجيعة مؤذنا ببدء سخونة الأرحام وطقوس الولادة الكونية» وظل على هذا الأمل، إلى أن حطمت هزيمة 1967 كل توقع وأمل، فأدرك وأيقن ما صاغه بكلماته، «ليست المسألة أن نرقِّع الثوب، المسألة أن نستبدل الجسد» وكانت البداية في رؤى عالمه الشعرى الحلم بفارس الخلاص أسطوري السمات صوفي الملامح الذي غدا هو إياه وكانت البداية أفق الحلم الذي تنشق عنه المدينة فارغة العينين، في كون جدبها، كى تنشق عن حشودها المقيدة بالأغلال اندفاعة فارس يكسر القيد، حاملا بيارق الخلاص الخضراء، لكن المسنونة كالحراب كي تنغرس في قلب التنين الوحشي الذي لا يفارق حضوره الجدب ولافت للانتباه تجاور لون الخضرة الرامز إلى الخصب والولادة الجديدة للأرض والكون، ولون الدم الذي لا مفر منه لانتزاع هذه الخضرة التي لا تأتي بالتمني بل بالفعل.

هكذا، كان مخلّص محمد عفيفى مطر منتسبا إلى تجليات صور مخلّص شعر الخمسينيات ومتميزا عنها في آن، فمخلصه فارس يستعيد تداعيات عربية إسلامية، ويبعثها في الذاكرة، وهو لا يخلو من ملامح أهل الطريقة، حاملي البيارق الخضراء بلون الزرع والحمراء بلون الدم، والجامعة بين اللونين في مدى البرق والرعد وأنشودة المطر التي أنشدها قبله السياب ومارس شعائرها، وكان محمد عفيفى مطر بذلك يؤكد انتسابه إلى شعراء الخمسينيات والستينيات بالقدر نفسه، خصوصا أولئك الذين كان حضور «المُخلِّص» ملمحا أساسيا في شعرهم، وقد اتخذ هذا الملمح نزعة تموزية فينيقية عند عدد من الشعراء أبرزهم أدونيس، مقابل بدر شاكر السياب الذي اكتفى بالأساطير التموزية المتغلغلة في الميراث الأسطوري لبلاد ما بين النهرين، بينما أخذ المخلّص سمات قومية لا تخلو من ملامح بعثية أو ناصرية عند أحمد حجازي على سبيل المثال، وكان التركيز على المخلص المنقذ، رمزيا، في الشعر، هو نوع من الموازاة لواقع المخلص، البطل، الزعيم المنتظر الذي يجمع العرب بعد تشرذم، كأنه إيزيس التي جمعت أشلاء أوزوريس، فلما اكتملت أعضاؤه قادت رحلة الخلاص من أمثال «ست» الشر القديم والمعاصر، ولذلك كانت أغلب أقنعة شعراء الخمسينيات أقنعة مخلِّصين، أو أقنعة تموزية، إذا شئنا استخدام لغة جبرا إبراهيم جبرا، ولكن «مخلص» محمد عفيفي مطر له خصوصيته في هذا السياق، صحيح أن انبثاقه يقترن بانبثاق الحرية في عروق الجدب وفي عروق الشعب المغلول، وينطوي على جدلية الخصب والجدب، الموت والحياة، لكنه يظل مخلصا لا يخلو من ملامح إسلامية صوفية، يأتي بأعلام الحرية، لكن في هيئة «بيارق» كالتي يحملها أصحاب الطرق الصوفية في مصر.

أحوال الكشف

هذا المخلص الذي صاغه محمد عفيفى مطر من ملامح خاصة، تتراوح ما بين أسطورة الخلق والتهديم، وصوفية الحضور والغياب، يغوي بالاتحاد معه أو به، ومن ثم الصعود في مدارج العارفين، فنقرأ عن شاعر يصعد إلى مرتبة التجلي التي نراها، كما لو كانت في رؤى النوم، أو أحوال الكشف، فلا نعجب من كلماته التي تضعنا في حضرة هذه الرؤيا:

رأيت الغمامة حبلى ومن خلل الماء فيها
رأيت شرارة برق تطير بزيتونة الحلم،
تهوي بأفرعها الموقدة،
تشق الحجارة عن ساكني القبر،
أمي تجر بقايا الكفن،
ويصعد هيكلها الشجي وتصرخ جوعا لكسرة خبز
وحفنة ماء،
وتصرخ تصرخ يرفعني صوتها من غواشي المنام،
فيسقط عني قناعي،
وأدخل مملكة الجوع،
تاجي على الرأس، والصولجان رتاجٌ وقفل صدئ،
بين التصوف والسريالية

إن رؤيا المنام الحلم تختلط بالرؤيا الصوفية في هذا السياق، كلاهما يغدو رديفا للآخر، ومماثلا له في علاقات الصور المجازية التي تدخل حدودا مفارقة للوعي، بالمعنى الذي يدخلنا في مدى السريالية التي تتبادل الصفات مع الرؤى الصوفية والأحلام على السواء، خصوصا حين نكون في حال تتحطم فيها الحواجز العملية بين الأشياء، ويحل الحلم محل المنطق، وينبثق رؤيا تصنعها استعارات تتجسد بها الغمامة، وتتولد النار من الماء، ويثمر الحلم زيتونة تهوي بأفرعها المشتعلة، فتنشق القبور، ويصعد الموتى جائعين، فيسقط القناع عن وجه الحالم أو الرائي، ويدخل مملكة الجوع، رسولا متوجا بشوك الجوع، حاملا صولجانا، هو باب مغلق وقفل صدئ، وناتج هذه الرؤيا شاعر يولد منها، شاعر لم يولد كما ولد شاعر على محمود طه الذي:

هبط الأرض كالشعاع السني

وإنما هو شاعر يولد من وسط الجوع والموت والأرض الخراب، مملكته هي الجوع، وتاجه صدئ، وطريقه مسدود بالقمع الذي جاء منه والذي سوف يتوجه إليه، متضرعا إلى قمر الأمومة الحاني، كي يمنحه بصيرة الهدم ومهرة الدماء، كي يمنح الجوعى، فلا يجيبه سوى صدى كلماته، فيبدل الشعيرة صارخا:

يا مهرة الدماء
انطلقي من قفص الضلوع
واغتسلي من عطش الجموع
يا مهرة من عطش الجموع

ولكن مهرة الدماء لا تنطلق، وتظل كالحلم المستحيل المحبوس في دائرة الرغبة المقموعة، أما الشاعر نفسه فلا يكف عن تقمص دور المُخَلِّص الذي يختفي في ثياب صانع طقوس، يدخل الطرق التائهة الغريبة، متلاعبا بالمجازات والاستعارات التي هي علامات السحر وتعاويذ الخرافة، وتغدو هوية الشاعر المغترب الحضور والكلمات مراوغة في كلمات تصفه على النحو التالي:

أنا مسافر مغترب، غسلت طينتي في مطر الفصول
أرقص في الأعراس أو أنشد في مدائح الفحول
أو أقرأ المرثية التي أعددتها لأي مأتم
أو أعصر النبيذ للذي يدفع من عصارة الدم
حنجرة أنا لكل نابح وصاهل وشاحج
للندب والطبول
مؤتمن على الحريم، عالم في شجر الأنساب ...
أدخل متخما بالطبع في أزمنة المجاعة
أجعلها حديقة مثمرة أو غيمة ممطرة، في
كتب التأريخ والشريعة
أنا مسافر أدخل في البوابة الممنوعة
وشارتي التي أرفعها قصائدي الطيعة المطيعة

هذا هو نوع الشاعر الذي أراد محمد عفيفى مطر أن يكونه، وقد كانه بالفعل وباقتدار لم يشابه فيه غيره، أو يمشي في طريق مفروض عليه. واللافت في بطاقة الهوية التي تحملها الأسطر السابقة اقتراب السفر بالاغتراب، واقتران الاغتراب برغبة التطهر في مطر الفصول، حيث يكمن معنى التحول المقترن بالسحر والخرافة وهي صورة تتواشج مع الفخر التقليدي الساخر من الشعراء الذين يدورون بشعرهم الذي يتيحونه لكل راغب في الأعراس أو مدائح الفحول، أو مراثي الموتى، كما لو كان الشعر حنجرة يستأجرها كل نابح كلب وصاهل فرس وشاحج بغل كأنه الندابة، أو حامل الطبل في التجمعات لكن، بعيدا عن هذه السخرية، فهو شاعر متعفف، فارس يستعيد تقاليد الفروسية العربية ويتعمد بها، عالم في شجر الأنساب، وتستبدل بالمجاعة حدائق مثمرة، ينطوي على كتب التاريخ والشريعة، لكنه يدخل الأبواب الممنوعة بقصائده التي تبدو كأنها أفراس طيّعة مطيعة، فلا فرس جموح يتأبى على هذا الفارس الذي يعرف كيف يروض حصانه، فلا يشكو إليه بعبرة وتحمحم، بل يظل أطوع له من بنانه، في اندفاعه نحو خضرة الخصب وحمرة الدم التي هي ثمن الخضرة وشرط الخصوبة وسخونة الأرحام الكونية باختصار، نحن إزاء شاعر ينقطع عن جذوره الجاهلية التي يستبدل بها أصولا مغايرة من التاريخ العربي والشريعة الإسلامية، كي يرفض الجدب في كل زمان ومكان، مغتربا في تاريخه المهزوم عن تاريخه المنتصر، غير مؤمن إلا بالشريعة التي تعني العدل والإيمان، والنفس التي تصفو من كل ما يجذبها إلى الوعي لترقى إلى حيث يمكن أن يقول هذا الشاعر:

أرى الأرض والطبقات القديمة
تلملم أبعادها
ثم تغسل كنز ركازاتها في الدِّما والدموع
أراها تقيم وترقص رقصتها الدموية بين الضلوع
وشمس، وأشجار ريح، وفاكهة الزمن الداخلي الحميم
تظلُّ على شجر القلب
تشرب مني.

------------------------------

ما أنسَ لا أنسَ «المعظَّم» زاخراً
بالغيدِ، والأمواهِ، والأزهارِ
يجلو الهمومَ عن القلوبِ بحُسنِه
فيزيدُ في حُسنٍ وفي أعمارِ
ولهُ مع الآصال أجملُ مَنظرٍ
بظهورِ أسْراب من الأقمارِ
يَخرجنَ للشطِّ الرَّحيب لِنُزهةٍ
وكأنَّهُن حَمائمٌ وقُماري
لكنَّ في ألحاظهِن بواتراً
فَحذَارِ مِن نظراتِهنَّ حذارِ

أحمد السقاف

 

 

جابر عصفور