قصص على الهواء

قصص على الهواء

قصص لأصوات شابة تنشر بالتعاون مع إذاعة بي. بي. سي العربية
لماذا اخترت هذه القصص الست؟
-------------------------------------------

ترى ماذا قدمه قراء «العربي» في محاولاتهم لتقديم الخيال العلمي؟.. هل استطاعوا محاكاة الأنواع الغربية من هذا الأدب، والأهم: هل استطاعوا خلق طابع خاص للخيال العلمي العربي؟. قمنا باختيار ست قصص بدت لنا هي الأفضل، وكما قلنا: لم توضع بعد مقاييس نقدية صارمة لأدب الخيال العلمي نتحرك على أساسها، لذا اعتمدنا في هذا الاختيار على مقاييس القصة القصيرة، وذائقتنا الأدبية، وتماسك القصص لغويًا، وقدرتها على الإمتاع ودفعك للتفكير. كثير من القصص المقدمة لا يندرج بتاتًا تحت خانة الخيال العلمي، حتى وإن كان بعضها جيدًا جدًا، فاضطررنا لعدم تقييمها.

  • بلا قلب (عبدالصمد الغزواني) - المغرب

من المغرب العربي يقدم لنا عبد الصمد الغزواني تجربة ناضجة، تدل على سيطرة كبيرة على أدواته. وهو إلى حد ما يخلق عالمًا شبيهًا بعالم إيزاك أزيموف في العناية بمشاعر الروبوت وقوانين الروبوتيات Robotics. له قصتان أخريان هما (بين جيلين) و(مجنون نفسه) تعكسان مستوى ثابتًا وجدية لا شك فيها.

  • الروليت الطبي - (محمد السيوطي) - مصر

يطالعنا الكاتب بعدة قصص قصيرة ممتعة تجرب عدة أنواع من الخيال العلمي، وفي هذه القصة نرى أحد وجوه نقيض اليوتوبيا: عالم المسابقات المستقبلية القاتلة حيث تتحول حياة الإنسان إلى فقرة تلفزيونية ممتعة، وقد رأينا بوادر هذه النبوءة في برنامج (عامل الخوف) وسواه. من ضمن قصصه التي تستحق النشر (دعوة حضور) و(ترشيد الاستهلاك) و(فلورا تتحدث) و(تسامي)..

  • الشليطة تغمر المدينة - (عيسى بن محمود) الجزائر

القاص الجزائري عيسى بن محمود يقدم لنا رؤية سريالية خلابة في هذه القصة. إنه بالضبط هذيان الكوابيس، وقد تم نقله إلى الورق، كأن القصة لوحة بريشة سلفادور دالي يتم التعبير عنها بالكلمات. ولعلها تندرج تحت نوعية (مدن المستقبل).

  • تقرير تاريخي - (فؤاد محمد فرج) - سورية

هذه القصة الطريفة التي تتناول بشيء من السخرية الفارق بين نظرية الغربيين والشرقيين للأمور. أضف لهذا الإطار الشائق الشبيه بمخطوطة ضاع أكثرها، كما هو الحال مع ملحمة (جلجاميش) البابلية التي لم نعرف نهايتها قط. النقطة الأهم هي أن هذه من القصص النادرة التي تفصح عن وجهة النظر العربية للأمور.

  • دموع ألبرت أينشتاين - (هاني عبدالرحمن القط) - مصر

هذا القاص يرينا نموذجًا - من قصص ما بعد المحرقة، وهي النغمة التي يعزفها كثير من كتاب الخيال العلمي: العلم شيء لا يوثق به، والإنسان لم يخترع سلاحًا قط إلا وجربه..

  • الكنز الأخير - (كاميلياء أحمد معلم) - الجزائر

من المهم أن نقدم كذلك نموذجًا لأدب الخيال العلمي الذي تكتبه الأديبات العربيات، والقصة التالية للأديبة والرسامة الجزائرية كاملياء أحمد معلم، وقد قامت برسمها كذلك، مما جعل القصة مزيجًا من الخيال العلمي وأدب الأطفال. أو الخيال العلمي الذي يمكن أن يستمتع به الأطفال. إذ إنها لا تكتفي بالخيال الغرائبي لكنها تطوف في أرجاء واسعة من العالم وتجمع بين مختلف البشر.

----------------------------
بلا قلب
عبدالصمد الغزواني - المغرب

الآن أدركت أنني مريض فعلا، فمنذ أن بدأت تلك الوخزات تهاجمني، وأنا أشعر بأن هنالك خللاً ما بداخلي، تصرفاتي كلها لم تعد كما كانت، لاحظ صديقي غرابة تصرفاتي تلك، فانسل بين الجسور وقال لي:

«- أنت مريض يا صاحبي، عليك باستبدال قلبك»

استنكرت في البداية، لكني فيما بعد أدركت أن صديقي كان على حق، أنا مريض فعلاً، ولا حل أمامي الآن سوى أن أستبدل قلبي. أراد صديقي مواساتي، فحضني على الإطمئنان، وأكد لي أنه بعد استبدال قلبي سأصبح أحسن مما كنت، إظهارًا وإسماعًا وأداء، لكني رغم ذلك، استمر توجسي، فيما حالتي تزداد سوءاً أكثر فأكثر، حتى أتى ذلك اليوم، يوم استبدال قلبي.

استيقظت، فطالعني وجه صديقي المخضر. قال لي:

«- تشجع أيها المتمرد»

فابتسمت من بين ثنايا قلبي المنهك، فهذه هي كلمة السر التي تجعلني أنشط رغم مرضي، وصديقي يعلم ذلك. المتمرد، نعم أنا متمرد، إنها كلمة تقترن لدي دائما بالاختلاف.. بالتغيير.

«- بعد قليل ستبدأ عمليتك، لن يستغرق الأمر طويلا.. بعد الانتهاء، ستشعر أنك قد ولدت من جديد، ستشعر بوضوح ساطع يغمرك.. لقد بدأ التفريغ، ستشعر الآن بوعيك ينساب منك.. وسـ.. هـ..

لم أسمع ما تبقى من كلامه، لأني كنت قد أصبحت وقتها مسودًا.

***

أنين حاد ثم استيقاظ. طالعت وجه الفتى المركز بيديه المتحركتين هنا وهناك، جلت ببصري بسرعة باحثا عن صديقي فوجدته، أردت التقدم إليه عبر الجسور، لكني عزفت عن ذلك، فيما أنين حاد يتصاعد من قلبي.. الأنة بعد الأنة وأنا أطالع وجهه المسود، نزلت ببصري إلى الأسفل، رأيت ذلك التجويف، فارتعدت، بعد أن أدركت أنه.. بلاقلب!.. اختلطت علي معلوماتي، تداخل كل شيء في قلبي فيما حقيقة ملونة ترتسم بوضوح بين إطاري إظهاري، لقد ضحى صديقي بنفسه، من أجلي، ومنحني قلبه، لأستمر أنا، ويستمر أنيني، وتستمر ألواني.

وقتها فقط، زادت حرارة قلبي، انمحت لوحة إظهاري وغاب عني كل أنين.. وكل وميض.

***

الحجة، قوة المنطق وحدها هي التي يمكنها أن توصلك إلى هدفك، وإلى قلب الآخر. هذا ما أدركه مهندس الحاسوب (راشد) وهو يقف أمام آلتيه. بموصل بين الإثنين. بخوارزمية منطقية، أحال هذين إلى شيئين يعرف كل واحد منهما الآخر، صحيح أن الأمر تطلب تدخله في نزع قلب واحد وزرعه في الآخر، لكن خوارزميته أقنعت الأول أن الثاني ضحى بنفسه من أجله ومنحه قلبه.

تأمل آلتيه في شرود، أخذ نفسا طويلا محملا بنسمة احتراق، وبتؤدة، توجه إلى الباب وراءه، وغادر الغرفة في صمت تاركا وراءه حاسوبين منطفئين، أحدهما بقلب محترق، والآخر.. بلا قلب!

----------------------------
الروليت الطبي
محمد السيوطي - مصر

بدأت مقدمة البرنامج في الحديث بصوتها الرنان وابتسامتها المعسولة.. كلام كثير عن شجاعتي، وتضحيتي من أجل مستقبلي، والهدف النبيل من البرنامج.. إلخ.. إلخ..

طبعاً كل هذا كلام فارغ.. أنا أعرف وهي تعرف والجمهور يعرف أنه كلام فارغ..

و بعد انتهائها من الكلام الزائف، جاء وقت شرح قواعد اللعبة:

«على المتسابق أن يختار واحدا من المحاقن الستة.. كل محقن يحمل احتمالاً معينًا، وتتراوح الاحتمالات من لا شيء على الإطلاق، مرورًا بالمرض، وانتهاء بــ....الموت»

عند الكلمة الأخيرة دوت موسيقا مخيفة توحي بالخطر، حتى لشعرت أن دقات اللحن هي دقات قلبي ذاتها، بينما أطلق البعض شهقات مصطنعة.. هل يسخرون مني؟ أنا أعلم أنهم يستمتعون بهذا كثيراً.. فلأحرص إذاً على إمتاع هؤلاء الأثرياء إلى أقصى حد..

«و في جميع الحالات يحصل المتسابق أو ورثته- على مبلغ وقدره.....»

ضاعت الجملة الأخيرة وسط التصفيق الحماسي..

لماذا تنظر لي باحتقار هكذا؟ هل تظن أنني قد أفكر ولو لحظة - في تغيير رأيي؟ لقد تأخر الوقت كثيراً على هذا.. أنت لم تجرب عضة الفقر..

«لنر ما الاحتمالات التي تقدمها لنا اللعبة اليوم»

هنا فقط بدأت أنصت في ترقب.

«الاحتمالات هي: فيروس الالتهاب الكبدي سي.. بكتيريا الدرن.. فيروس الإيدز HIV.. جرعة قاتلة من مادة الـ «بربتيوريت» Barbiturate..المحقن الآمن (وهو ماء مقطر).. وأخيراً المخدر»

و من جديد دوت موسيقا الخطر لينقبض قلبي معها..

«الآن.. هلا نبدأ اللعبة؟»

وجدت رأسي تهتز، هل أنا أومأت بها أم هو تأثير الرجفة؟

بدأت المحاقن الستة الدوران داخل الجهاز الزجاجي الموجود على الطاولة أمامي.. وعندما توقف الجهاز برزت من مكان ما إحداهن في زي الممرضات.. تقدمت بثقة ونزعت غطاء الجهاز وأشارت لي كي أختار محقناً، كأنها تدعوني لانتقاء قطعة «بنبون» من صندوق الحلوى..

هل هذه يدي حقاً تلك التي امتدت نحو الجهاز مرتجفة؟ هل هذا هو أصبعي الذي لامس ذلك المحقن؟ هل يحمل فيروس سي، أم الدرن، أم الإيدز؟

هل هو المخدر؟ هل هو الموت؟

«حسناً.. تذكر أن متسابقين قبلك هذا الشهر قد اختارا المحقن الآمن».

قالتها المقدمة مشجعة، لكني أعرف أن هذا لن يحدث.. أعرف أن هذا أجمل من أن يحدث..

الآن الممرضة تقوم بكشف يدي اليمني.. تناولت المحقن المختار ونزعت غطاءه، وبثقة أولجت الإبرة بأحد أوردة ظهر يدي..

عندما رفعت الممرضة المحقن رفعت رأسي ونظرت لها.. وددت أن أسألها هل هي ممرضة حقاً أم فقط ترتدي مثلهن.. وددت أن أتكلم، لكني لم أستطع.. هل هو تأثير الخوف أم هو الوهن يزداد؟ هل جفناي ينغلقان بإرادتهما أم أن أحدهم قد ألصق ثقلين بهما؟

هل بدأت أفقد توازني؟ هل هذا هو صوت محفة؟

هل هو المخدر؟ أم هو الموت؟

لا أعرف.. حقاً لا أعرف.. أرجوك اتركني الآن فأنا أريد أن ارتاح.. وعلى أية حال إذا استيقظت فسنعرف معاً.. فإذا لم...... أرجوك.. أرجوك.. لا تنس من فضلك أن تأخذ المال إلى ورثتي..

----------------------------
الشليطة تغمر المدينة*
عيسى بن محمود - الجزائر

أشكال مختلفة تجوب المدينة بعضها من دون ملامح وبعضها الأخر يسير على ثلاثة أرجل في حين أن أخرى تسير على رجل واحدة.

وقفت جانبا، وسألت أول بشري يمر بي:

- ما هذا؟

قال: هذه أمثال وحكم.

تعجبت: كيف؟

قال: انظر هل ترى تلك الكومة السوداء التي لاتشبه شيئًا، هل ترى أنها تسير على بعض أجزاء الأعضاء، يمينها كما ترى قدم ويسراها ساق فقط؟.. أتدري ماذا تعني؟

قلت: لا

قال : هذا تجسيد للمثل القائل «تسير على قدم وساق».

انصرف دون أن يودعني.

واصلت السير دخلت الشارع الموالي.. آلاف الكلمات تتطاير في الهواء بعضها تخص العويل بأنواعه وبعضها الآخر يتعلق بالضحك. حدقت مليا فرأيت إحدى كلمات الضحك كانت تربط إليها دمعة كلما كادت تنفلت منها حضنتها أكثر.. نظرت ذات اليمين وذات الشمال لعلني أرى آدميا أسأله. لمحت في آخر الشارع عجوزًا هرولت نحوها..كدت ألحق بها وهي تدخل الشارع الموالي. ما إن ولجت الشارع حتى أصبحت لا أميزها من بين الجمع.. وقفت عند إحداهن لأسألها، فوجئت بأن نصفها شيخ والنصف الآخر عجوز أنثى.. استدرت إلى أخرى أذناها بارزتان جدا ترتدي إطار نظارات دون زجاج يبدو قسمها العلوي معمرًا في الهرم على عكس أسفلها.. ردفان ممتلئان وساقان بلوريتان وقدماها في صغر محبوب.. لاحظت تحديقي فيها فأهدرت على سمعي عبارات لم أفهم منها شيئًا ولم أعهدها في لغة البشر.

أسرعت بالمغادرة أحسست كأنهن يلاحقنني. زدت من سرعتي.. مؤخرتا رجلي سرت فيهما حرارة.. كلما زدت من سرعتي تشتد الحرارة أكثر.. رائحة الاحتراق تدخل أنفي أحسها شهية جدًا.. ذكرتني بوقت الغداء.. ولجت إلى أول مطعم في طريقي.. قد يكون في الشارع السادس أو السابع.. سألت عن الحنفية وملأت إناء ألقيته على مؤخرتي.

جلست إلى المائدة.. تقدمت مني نادلة أنيقة جدا ارتحت إليها فقلت:

- المدينة تغيرت كثيرا..

ابتسمت فبدا لي أن فمها بدون أسنان. خفضت رأسي وطلبت وجبة بطاطا ببعض الدجاج..

أحضرت الوجبة سريعًا ووضعتها أمامي وانصرفت.. رفعت الشوكة.. البطاطا مكدسة بشكل بيدر.. رحت أسويها فبدا لي وسطها رأس دجاجة. غرزت فيه الفرشاة ورفعته عاليا عن الصحن.. هنا لاحظت وجود أذنين صغيرتين.. ألقيت بالفرشاة وهرولت خارجًا.

ركبت أول سيارة أجرة.. سألني السائق عن وجهتي قلت:

- خارج المدينة.

زاد من الضغط على مدوس البنزين فأصاب بمقدمة سيارته أحد المارة.. لم يتوقف قلت:

- لقد دهست أحدهم.

- قال: لا يهم كلهم «تايوان».

- طلبت توضيحا أكثر فقال:

- إنهم يُصنعون.. وقد تم سحب عدد كبير هذه الأيام.. فقد تعطلت عدسة آلة النسخ..

ثم أردف: يبدو أنك غريب عن المدينة.. سأعرج بك على المصنع..

قلت: إني لا أملك إلا ثمن أجرة تنقل لاتجاه واحد..

قال: لا بأس..

مررنا قرب المصنع.. كانت هناك أنابيب كبيرة لها فوهة من الأعلى وباب دائري في أسفلها تخرج منه أشكال غريبة تباعًا.. أسرع السائق بالمغادرة قبل أن تملأ المكان.. أوقف السيارة خارج المدينة..

سألته، وأنا أخرج نقودي، عن تلك الأنابيب الموجودة بالمصنع فقال:

- أنابيب التخصيب ياصاحبي لقد أتوا بها من الخارج.. بعضها لصنع الأشكال وبعضها اللغات وأخرى تخصب كل شيء.. وهناك أيضا أنابيب النسخ تخرج آلاف النسخ من نسخة واحدة وأخرى أيضا للخلط..

ثم قرب فمه من أذني كأنما يخبرني سرًا:

- يوجد بالمدخل الغربي للمدينة أنبوب أحدث عليه صاحب المصنع تغييرًا جذريًا إذ استطاع عزل حمض الـ DNA ** وزيادة فاعلية الجينات المعدلة وراثيًا ؛ فأصبح يخصب الكسكس ويرفع نسبة الإنتاج. بالأمس فقط خصب أطنانا من «الشليطة» فلاداعي بعد اليوم لشراء الفلفل..

ودعته وهممت بالمغادرة.. سمعت هديرًا خلفي فالتفتت.. كانت أنهار الشليطة تغمر المدينة، وذبابة بحجم المدينة تحجب الشمس.
-----------------------------
* وجبة تحضر من الفلفل والطماطم والزيت
** حمض نووي منقوص الأوكسيجين

-----------------------------
تقرير تأريخي..
فؤاد محمد فرج عمران - سورية

(صفحتان ناقصتان ..

صفحة رقم ثلاثة ...):

وقد تخطى الناس بالعلم منذ زمن بعيد مسألة التجارب المخبرية لإيجاد الأدوية..

لقد وصل العلماء منذ عدة قرون إلى تلك التركيبة السحرية التي تداوي كل مرض محتمل.. بجرعة يحدد كميتها مقدار الألم الناتج عن المرض.. حتى إن مسألة زرع عضو بديل عن عضو مصاب في جسد أحدهم لم تعد مسألة تحتاج إلى مئات التحاليل للتأكد من إمكان تآلف الأعضاء.. فتركيبة (الشفاء المتكامل) قد احتوت كل الحلول..

لكنهم، الناس، لم يصلوا بعد إلى جرعة تفيد في حل النزاعات حول الرمل الذي يكثرُ...... ..... .....

(ثلاثة أسطر ضائعة..)..

فلسبب ما لم يؤرخ له جيدا.. انقسم أهل الأرض إلى تحالفين.. تحالف غربي.. وآخر شرقي.. والتحالفان لايزالان في حالة اقتتال عنيفة بسبب الرمل..

قد يبدو الكلام مستهجنا لو قرأه أحد الذين عاشوا في القرن الخامس والعشرين.. لأنه لن يعرف أن الرمل قد أصبح في هذه الآونة من عمر الكون يساوي كقيمة مادية ومعنوية أضعاف ما كان يساوي نفط أيام الأزمان القديمة.. ولؤلؤها.. فالغربيون ينظرون إلى الرمل من جانب أنه يشكل المادة الخام الوحيدة لاستخراج التركيبة المثالية لـ (الشفاء المتكامل).. أما الشرقيون.. فكل ما يرون في الرمل مادة أولية يصنع منها زجاج نوافذهم المطلة إلى الغرب.. لكي يجلسوا كل مساء خلفها ويتأملوا المغيب أسوة بأجدادهم الذين تأملوا الشمس كثيرا أثناء مغيبها اليومي في زمن سابق...........

(صفحات مهترئة هي تمامًا إحدى عشرة صفحة..

عدة أسطر تالفة في الصفحة التالية... ثم).

ـ...... ما حصل للشاب الشرقي.. ولم يُعرف سبب فقده عينه اليمنى.. وقد أجريت عدة اتصالات لخلق حالة من التقارب بين ذوي فاقد العين وأطباء التحالف الغربي.. حتى أثمرت تلك الجهود عن صفقة زرعت نتيجتها عين بديلة للشاب.

لم يهتم ذوو الشاب أو باقي الشرقيين بأن العين المزروعة قد انتزعت من متبرع غربي.

إنما ما اهتموا به لاحقًا هو الأعراض التي ظهرت على الشاب.. فقد نشأت هوّة كبيرة بين مجالي الرؤية لديه في كل من العينين.. وأكثر ما شغلهم جميعًا هو وصفه الغروب عندما أطبق عينه اليسرى.. فقد قال إنه يرى مساحة سديمية تزداد قتامة كلما اقتربت منها كرة ملتهبة.. وذلك الاختلاف الشاسع في وصفه المشهد ذاته وهو يطبق عينه اليمنى إذ قال إنه يرى مكانا مثاليًا لعقد الزواج.

حاول الجميع عندما سمعوه أن يروا المشهد على حالتيه اللتين وصفهما.. لكنهم فشلوا جميعا في رؤية الحالة الأولى.. فقرروا أن الأطباء الغربيين قد خدعوهم.. وأن العين المزروعة في رأس شابّهم تحوي وباء معديًا.

واجتمعوا ليناقشوا الأمر ثم توصلوا إلى ضرورة اقتلاع العين اليمنى للشاب.. والاستعانة بأصحاب الخبرات الشرقيين لصنع عدسة تشبه العين المفقودة وزرعها في.

(باقي صفحات التقرير لا أثر لها).

----------------------------
دموع ألبرت أينشتاين
هاني عبدالرحمن القط - مصر

أنا و«ألبرت» امتلأ قلبانا بالأسى.. نعم فالحقيقة المجلوة لعيوننا كانت مفزعة.

«ألبرت» في تلك الليلة تملكته الحيرة نفسها التى هداه شغفها إلى اكتشاف نظريته الكمية.. أطل يومها على العالم فرآه أضيق من سَمِّ الخياط.. جزر المالديف وهاواي والغابات الإفريقية وكذلك عذراوات النساء الشقر.. ذهب عن كل هذا بهاء دهشة الإعجاب واللذة.

في سرية تامة وقبل موعد التسلم بيومين؛ أنجزت له شركة مغمورة تصميمه الغرائبي لشبكة المواسير اللولبية الضخمة.. بداخلها الكرة الهوائية المثبتة عند فتحة الدخول.. كانت المقاييس دقيقة بحيث إنها شجعته على إتمام الأمر فى الحال.

دخل محكمًا إغلاق الباب وراءه.. وعلى الكرسي المتصل مع الكرة بقضيب فولاذي جلس.. وبمجرد ضغطه على الزر الأحمر انطلقت الكرة مع الكرسي فى دوراتها الخمس الأولى بالسرعة المقررة.. وفي الدورة السادسة أصبحت السرعة من الجنون بحيث لا تصدق.. اتجاه الكرة حدده للأمام؛ لقراره الحكيم ألا يضيع وقته باستدعاء الزمن القديم.. فالتاريخ مدون.. وإن اختلط بالمبالغات والأكاذيب.

أول الأمر رأى ضبابًا أشهى من الذي يراه الموتى لحظة إفاقة أرواحهم المسجونة داخل الأجساد الحية.. انمحى الضباب على صورة الكوكب الأرضي.. أنهارًا عتيقة جفت.. ومدنًا ساحلية أغرقها ارتفاع منسوب البحار.. لكن ما هاله كان رائحة الموت.. الأرواح الطازجة رآها تصعد من كل مكان إلى السماء بخفتها المتناهية.. الرجل الأحمق الذي ضغط على الزر.. انتابه الخرس بعد سماعه نتائج فعلته.. دقائق معدودة نهض بعدها ليصوب مسدسه إلى رأسه مستعجلاً النهاية التي أصر ألا تكون بقنبلة الخصم. ساعة من الصراخ والدموع.. بعدها صمتت الدنيا.. الكل فارق الحياة في مكانه.. الأطفال بمحازاة الرصيف فوق عجلاتهم الصغيرة.. المزارعون في حقولهم وبأيديهم مناجل الحصاد.. عازفو الكمان وحدهم من أصروا على احتضان آلاتهم التى عزفت أوتارها بعد موتهم لحنًا بديعا.. رثت به كل الأموات فى واحدة من عجائب الدنيا.

وحدي من بقيت بجانبه.. فزوجتى امتنعت أن تصحبنى لكوكبنا الجديد الذي أكُتشِفت عليه الحياة.. انتقل اليه كل أقربائنا لسأمهم من متاعب دنيانا.. كان عليّ أن أموت معها؛ لكني تأخرت عن موعد رجوعي بضع ساعات، لإتمام شراء منزل بالمواصفات التي اتفقنا عليها.. جانب البيت الأيمن يطل على بحر والأيسر على نهر و...

دموعي أنا وألبرت تعاود تغطيه وجهينا كلما مسحناها.. فقدت كل الأحبة وسأبقى فوق تلك الأرض لسنين وحدي.. حتى يأتي أحدٌ من الكوكب البعيد في زيارة فيأخذني معه.. ودعني ألبرت وألم الحسرة يكبر في قلبه.. سيسألونه في مقابلات تلفزيونية بعد عودته:

ـ ماذا ترى في المستقبل بروفيسور «ألبرت»؟

لن يجيب.. فقط ساعة احتضاره سيتخلى عن صمته.. لكن دموعه المرة ستنساب داخلةً فمه؛ فلا يقدر على الكلام.

----------------------------
الكنز الأخير
كاميلياء أحمد معلم - الجزائر

وضعت نادين القرص المضغوط في قلادتها.. ثم أغلقت المقبض الغريب.. الذي ما إن وضعته على مِعْصمِها حتى تحولت ذراعاها الرقيقتان إلى أجنحة ضخمة..

استنارت عيناها بشعاع فضيُ اللّون.. وبقدرة خفية تنفتح النافذة المستديرة على سماء مُسْتَنِيرة بجمال بدرها المكتمل، ومن أعماق مدينة دمشق القديمة تطير نادين متجهة نحو مكان مجهول.. حاملة في عنقها الصغير كل ما أنتجته الإنسانية من أعمال فنية من رسم وموسيقى.. وهندسة معمارية، وفي الأفق البعيد تختفي نادين...

وفي شكله الغريب الطائر، يتلاشى الصغير هوسوكو بين سحب مدينة طوكيو فخورًا بقلادته التي تحتوي قمة ما وصل إليه الإنسان من الاختراع التكنولوجي والتقني...

ثم لِتُتْرك مدينة القدس تحت أجنحة الْصغيِرة أمال لتحمل هي أيضا جميع الكتب السماوية وسيرة الأنبياء والتعاليم الإلهية المقدسة، مع كل النُظم القانونية والسياسية والأخلاقية السامية التي تدعو إلى العدل والسّلام العالمي، لتأخذ هي أيضا طريقها نحو المجهول...

بين عواصف جبال الهمالايا حطت أجنحة الصغير آدم الآتي من ضفاف بحيرة فكتوريا بتنزانيا من قلب إفريقيا وبين جناحيه أْكْمل علوم البيئة والطبيعة والنبات...

تصل ماري السويسرية.. الآتية من أعالي جبل الألب... من قريتها الحالمة بين ثلوجها البيضاء وبمعيتها الحصيلة العالمية في علوم الطبيعة والطب...

و ما هي إلا لحظات قليلة حتى حطت أمال ونادين مع الصغير هوسوكو...و أخيرا وصل الصغير أنجلو الذي كاد أن يسْقط من أعالي ناطحات السحاب بواشنطن لو لم يفتح أجنحته الكبيرة التي حالت دون سقوطه أرضا.. لكنه تسنم العلا حاملا معه المكتبة العالمية في جميع لُغات العالم...

ما إن لمست أقدامهم الأرض حتى استرجعوا هيئتهم الأولى وتقدم كل منهم بما بين يديه.. ثم وُضعت الأقراص الستة في القمر الاصطناعي المصغر الذي انطلق في الحين نحو مدار القمر. فهو مُبَرْمَج لِيَدُور حوله لمدة مائة عام ليعود بعدها إلى كوكب الأرض... كوكب الأرض هذا الكوكب الأزرق الرائع المهددُ بانقراض الحياة على سطحه في مدة أقصاها ثلاثة أيام...

انطلق القمر الاصطناعي بسرعة رهيبة تاركا وراءه الصمت الحزين الذي عم مجمع الأطفال الستة عندها قالت نادين:

- «إنها الهدية الأخيرة التي يمكن أن نقدمها لأطفال إنسانية قد لا ينجو منها إلا القليل... وقد لا يُصدق من حدث أبناءه يومها: أن الإنسان قد وصل إلى قمة الحضارة قبل حدوث الكارثة».