على هامش مأساة البوسنة والهرسك

على هامش مأساة البوسنة والهرسك

الشركس.. كيف أخرجوا من ديارهم؟
الجروح تفتح الجروح.. وجرح إخراج أهالي البوسنة والهرسك من ديارهم يذكرنا بالعديد من حالات التهجير القسرية في العديد من البلدان. ولكن لعل مأساة الشركس واحدة من المآسي التي غفل عنها الزمان.

كنا عصبة من الرفاق يتطاير الحديث بينها من شقة إلى شقة حول مأساة البوسنة والهرسك. وتصطدم الكلمات بعضها مع بعض في صخب وتتطاير مزقا ولكل رأيه:

- يا أخي، إنها مؤامرة صليبية، أحكم إعدادها. تمثيلية وكل دولة في أوربا وأمريكا لها دور.. ألم تر أن..

- أريد أن أفهم فقط كيف يكون الصرب بهذه القوة الهجومية الشرسة وهذا الحقد، وأهل البوسنة والهرسك بهذا الضعف، وهما، حتى الأمس القريب، قطعتان من بلد واحد وتعايشا مدة نصف قرن!.. وفي سلام!

- الجرائم.. الجرائم اللا إنسانية هي التي تجلب الانتباه. والتدخل الدولي تجاهها أبطأ من البطيء.. أليس في ذلك سر؟

- أثارني تدخل البابا في الفتوى ضد الإجهاض في البوسنة!

- بل أثارتني عمليات الاغتصاب التي لم تعرف الإنسانية مثيلا لها.

في وسط هذا الصخب والجدل العبثي قال أحد الأصحاب الحضور:

- على رسلكم. مصيبتنا نحن المسلمين أننا نغفر، ننسى. ولعلنا ننتظر عدل الآخرة وهو أبقى.

وصمت المتحدث قليلا ثم قال ببطء:

- أريد أن أذكر مأساة أخرى قبلها. لعلكم تنسون أو قد لا تعرفون أني شركسي الأصل!

واستدارت عيوننا عجبا. حقا لم نكن، أو لم يكن معظمنا على الأقل يعلم أن هذا الصديق القديم المشتعل حماسة قومية هو شركسي الأصل! ما سأله أحد ولا هو قال لأحد منا ذلك. وصمتنا جميعا لحظات قطعها بقوله:

- أنا لمعلوماتكم أعتبر شركسيا. لقب شركسي لا تعرفه الشعوب التي تسمى شركسية. لا توجد قبيلة واحدة في شمال القفقاس كله- وهي مهد تلك الشعوب وأرضها منذ الأزل - تحمل هذا الاسم. إنما يطلقه الناس من خارج المنطقة على مجموعات شتى من سكان تلك البقاع المثلجة الغابية المختنقة بالصخور والأودية المرعبة، كالداغستان والشيشان والديقور والأديفة والأباظة والقبرطاي والأبخاز والششن وما لست أحفظ من أسماء الأقوام الصغيرة الأخرى.. جدي كان صغيرا يوم أخرجنا من ديارنا ومن ورائنا الرصاص الروسي يلعلع وأمامنا الطريق الطويل إلى المجهول.. ولكن جدي احتفظ من طفولته وفتوته بآلاف الصور المرعبة المبكية. وقد تحدث وتحدث إلى أبي عن هجرته مع أهله في علم مكسور وأم ماتت مع أختين على فراش من الثلوج، وأرجل تتقصف فلا تعاود القيام أبدا وظهور تنوء بأحمال من الحاجات والملابس.. ثم عن المركب الهزيل الذي قذفوهم به في البحر، حشروهم عدة مئات كبقر الذبح فوق أكداس الصرر والحقائب والمركب لا تحمل مائة. وتعاورتهم العواصف تارة والموج أخرى حتى انتهوا إلى شبه مرفأ وتهالكوا على البر.. أي بر؟ كان شاطئا رمليا لبعض الصيادين. كانوا يخشون أن يكونوا قد وقعوا على بعض الأرض الروسية. حين أدركوا أنهم على أرض الدولة العثمانية، خر بعضهم يقبل التراب. لقد نجوا. لكن كان أمامهم مسيرة عشرة أيام ليصلوا إلي المعمور. وفي خلال هذه المسيرة لم يبق منهم إلا الخمس. لكنهم ظلوا يمشون قدما لا يعرفون إلى أين؟ يمشون ويشحذون- إن وجدوا- بعض الغذاء. إنها غريزة البقاء هي التي كانت تقود الخطى المنكودة!..

وقد تتساءلون. ما الدوافع إلى تلك الهجرة وشمال جبال القفقاس مأزق داخلي مغلق في قلب البر الأوربي الآسيوي؟ تهوي الكلمات فيه فتتجمد قبل أن تصل الأذن. وتضرب الأودية في أنحائه، فالصدى يهرب فيها فلا يعود أبدا. وتمتد المناطق الغابية العمياء في أطراف السفوح حتى ليضيع فيها الضياع.. تتساءلون فأسألكم أولا: وما الداعي إلى هجرة هذه المئات من ألوف البوسنيين وأهل الهرسك، وتشريدهم في كل اتجاه، ولو ترك القطا ليلا لنام؟!

آلام الشركس

بدأت آلام هذه المنطقة القفقاسية مع ظهور العثمانيين في جوارها في القرن الخامس عشر أيام محمد الفاتح وظهور الروس الجيران الآخرين في القرن السادس عشر على عهد إيفان الرهيب. وتضاربت مصالح الطرفين. العثمانيون يريدون الاتصال بتركستان عن طريق شمال القفقاس كيدا بإيران. ولذلك فرضوا نفوذهم الكامل سياسيا ودينيا على شبه جزيرة القرم المسلمة. والروس يريدون الوصول إلى المياه الدافئة في الجنوب. وبين هذا وذاك هناك الكسب الأهم، الذي كان بشمال القفقاس وهو الممر الطبيعي للتجارة البرية بين الصين وأوربا وبين الهند وأوربا. الطرق البرية كلها تمر منها ومن حولها. والسيطرة عليها- حسب مفاهيم عصرنا الحاضر- سيطرة على عقدة كبرى من عقد المواصلات العالمية.

اتخذت كل من الدولتين الدين وسيلة لهذه السيطرة. وكان العثمانيون بالطبع أكثر نجاحا، لأن ثم كتلا مسلمة واسعة تعمر المنطقة ولانحياز رجال الإقطاع إليهم ودعاية رجال الدين من الشيوخ والقضاة في عروق الشعب وتخلي الروس بعد سنة 1735 وبعد موت القيصر بطرس الأكبر عن شمال القفقاس لفترة طويلة ثم تخلي العثمانيون بدورهم- وقد بدأ الضعف في دولتهم- عن هذه المنطقة بالمقابل في اتفاقية بلغراد مع روسيا سنة 1739. ثم ظهر الضعف فيهم أكثر فأكثر فدمغوا عليه بخاتمهم في معاهدة كوتشوك قنيارجي سنة 1774 التي سلم فيها العثمانيون منطقة القرم للروس، واعترفوا في الوقت نفسه باستقلال شمال القفقاس (منطقة القبرطاي). واحتل الروس سنة 1873 القرم، وطوق الشركس من الشمال، ولما كانت قمم القفقاس الثلجية من ورائهم، لم يبق لهم من منفذ سوى شواطئ بحر قزوين المغلق وشواطئ البحر الأسود. وهم فهود البر والصخر. أما البحر فمن ذا الذي يمسك مجاديفه وسكانه؟ في السنوات الثمانين التالية (بين سنتي 1783 و 1864) وضعت الخطط الروسية لأحد أمرين: إما تنصير الشركس أرثوذكسيا أو إخراجهم من الأرض! وخلال هذه الفترة شرب الشراكسة من وعود الدولة العثمانية حتى الثمالة ولكن.. في أكواب فارغة! هل كان العثمانيون وحدهم هم الذين يعدون؟ أبدا. كانت إنجلترا أيضا معهم!! وما شأن إنجلترا هنا؟ في القرنين الماضيين كانت إنجلترا (ومثلها فرنسا) الإمبراطورية التي لا تغيب عن مستعمراتها الشمس. ولا تغيب أصابعها الدساسة عما تحت الشمس! وكان في كل عرس لها قرص. وفي كل واد أثر من ثعلبة! مصالحها التجارية المتصلة في البر من الهند إلى أوربا أوصلتها إلى شمال القفقاس وإلى التظاهر بالصداقة للشركس!

وهكذا كان..

كان هم العثمانيين أن يعززوا القوة العسكرية في جيوشهم بهذا الشعب المقاتل المتين الإسلام. لا سيما بعد أن توقفت الفتوح تماما وانقطع تجنيد الإنكشارية. وكانت تبذل لهم الوعود للانتقال إلى الأناضول وللتجنيد بالجيش: الإعفاء من الضرائب بالمجان. حماية كاملة من السلطان. تجنيد بعد ست سنوات إلى 12 سنة. وكان العثمانيون لا يزالون يحلمون بجعل الشركس جسرا إلى مسلمي تركستان وإقامة قناة بين. نهري الدون والفولغا فهي الطريق المباشر لذلك الحلم!..

وكان هم إنجلترا منع روسيا من الاقتراب من طرقها التجارية الرئيسية في شمال القفقاس. بذلت في ذلك أعسل الوعود. اللورد بالمرستون قال مرة: " لقد تركنا الشركس وحدهم أمام الروس، مع أننا نحن الذين طلبنا مساعدتهم ضدهم، واسمحوا لي أن أقول: إننا استطعنا أن نستغل تضحياتهم هذه لمصالحنا على أفضل شكل. وبدون أي خسارة من جانبنا!!"

أما هم الروس فكان احتلال شمال القفقاس للتقدم نحو البحار الدافئة. ومراقبة مضائق البوسفور والدردنيل والسيطرة على تجارة المرور.. كانوا يرسلون إليها الجيش تلو الجيش ولكن إلى الفناء! كانت المنطقة مقبرة الجيش الروسي. ربع هذا الجيش ارتمى أشلاء مبعثرة على تلك الصخور الثلجية. مليون ونصف مليون جندي دفعهم القياصرة إلى هناك ما بين تولي كاترين العرش سنة 1762 وحتى سنة 1864.. ما رجع منهم أحد!

وحشية السلاف

توقف المتحدث يلتقط أنفاسه، ونلتقط نحن بدورنا أنفاسنا، ثم تساءل:

- لماذا أقص عليكم كل هذا القصص؟ أهي للتخفيف من مأساة البوسنة والهرسك أم لإثارتها؟ إنها من التاريخ السابق المنسي. ولعلي أردت أن أقول إن المأساة الحالية هي كمأساة الشركس ليست بنت اليوم، ولكنها عميقة الجذور في التاريخ. الصرب سلاف الجنوب (يوغوسلاف) ليسوا أقل وحشية من أقربائهم الروس، سلاف الشمال الشرقي. إنهم أرومة واحدة، في مواجهتهم عرفت مناطق الشركس ويلات الحروب كافة. من إحراق القرى بمن فيها إلى اكتساح الناس بالسيف والرصاص وهم خروج من الصلاة، إلى الأمعاء تلتصق بالجدران والأغصان إلى الجماجم تتدحرج على السفوح والصخور إلى السنابك ما تفتر تهز الأرض، إلى بطون تبقر عن الأجنة إلى الأعراض المباحة.. عمليات سحق لإنسانية الإنسان، والإذلال حتى ليخجل الذل!

وثار الشركس مرات. قام فيهم الإمام منصور من الشيشان سنة 1783. كان أول من بدأ حركة المريدين الصوفية المقاتلة. وحد قوى القبائل، قاوم بشراسة المحارب الجريح. طرد الروس من معظم الأقاليم، أوقعهم في كمائن على مهاوي الوديان. وأرسلت الدولة العثمانية سنة 1790 بطال باشا واليا، فتابع القتال إلى أن التمع له الذهب الروسي فإذا به يتوقف قبل سحق الروس ثم يأخذ 800 كيس من الذهب ويهرب إليهم.. ولكن هذه الخيانة- ويا للعجب- جاءت بعد أن أسر الروس الإمام منصور، وأصدرت الدولة العثمانية عفوا عاما عن بطال باشا الذي عاد.. وعين واليا في طرابزون!!

ومع ذلك تابعت المقاومة الشركسية مسيرتها بزعامة غازي محمد مولى ثم الإمام حمزات، كانت شعارات المريدين المتصوفة شعارات حرب:

- من لا يحارب الروس فمصيره إلى جهنم.

- الجنة تحت ظلال السيوف

- أمة محمد لا تعيش تحت ظل الكفرة!

فأقام الروس مقابلها حركة الزباروز التي جعلت شعارها حربا أشد وأكثر عماية:

- أفضل الأديان النصرانية

- يجب قتل كل قفقاسي لا يقر بذلك

- وهذه أولى مهمات الزباروزي!

وصار الصراع في المنطقة كلها صراعا دينيا سافرا. وإذا شغلت روسيا عن حروب القفقاس في مطلع القرن التاسع عشر بسبب حروب نابليون، وهدأت المنطقة بعض الهدوء فقد عاد الشر يجتر حين أضحى نابليون منفيا في سانت هيلانة! عاد الروس إلى عدوانهم عليها واحتلوا بالقوة أقساما منها سنة 1822 ثم جاءت معاهدة أدرنة سنة 1829 التي أنهت حرب الأفلاق والبغدان في رومانيا فكان من بنودها تسليم شمال القفقاس للروس!! ولست تدري العلاقة بين هزيمة في غرب البحر الأسود وبين تسليم المناطق الشرقية المطلة عليه إلا إذا أنزلت في الحساب المطامع الروسية!

لم يكن هذا يعني سحب الجيش العثماني من المنطقة. أبدا، فلم يكن هناك جيش ولكنها منطقة إسلامية تركها العثمانيون لمصيرها، استرضاء للروس. وتحركت البلاد لحماية هذا المصير. ظهر فيها الشيخ شامل يقود المقاومة وفي لبها حركة المريدين.

كان الشراكسة يعدون في التقدير أربعة ملايين وحشدت روسيا 125 ألف جندي لخنقهم في قراهم الجبلية. وهرعوا يناشدون الدولة العثمانية المعونة. قالوا إن الدم الشركسي يملأ أوردة السلطان فأمه وزوجته شركسيتان ودماء الحاشية والوزراء والقادة وكثير من رجال الدولة. ما بين سنتي 1560 و 1908 كان الشراكسة عصب الجيش العثماني. وصل 400 من رجالهم رتبة الباشوية فيه وكان 12 منهم من الصدور العظام وحوالي مائة وخمسين ضابطا رتبة مارشال عدا المئات بعد المئات من الوزراء والقادة والولاة والسفراء.. وعبثا كانت المناشدة والاستنجاد. لم يكن لشيء أن يحرك ذلك العملاق الخدر القابع تحت قباب طـوبقبوسراي أو ضولمه بفجه!! كان يفضل ألف مرة أن يسمع هذا الصوت الضئيل البعيد من وراء البحر الأسود عن أن يسمع هدير المدافع الروسية قرب البوسفور والدردنيل!

وفت في عضد الشيخ شامل أن بعض الشركس من القبرطاي تقاعسوا عن نصرته هددهم بأنه سوف ينقض عليهم كالغيوم السوداء التي تقدح شررا وصواعق فتاكة. وأن الدم سيسيل على جوانب طريقه إليهم وسوف يتبعه الهلاك والخوف وأنه حين يعجز الكلام تبدأ القوة.. ولكن تهديده ذهب أدراج الرياح بل إنه بالعكس خسر حملته عليهم. كان شامل يحاول لم الشمل الشركسي كله وأرسل قائدين من عنده: محمد أمين وسليمان يمثلانه لدى بعض القبائل الشركسية الكبيرة سنة 1848..

الشركس ومصيرهم الغامض

وتوقف صاحبنا "الشركسي" عن الكلام مرة أخرى وبقينا سكوتا نستمع حتى قال: قضيت فترة من حياتي أدرس هذه المأساة كلما وجدت فراغا. إنها المأساة التي عاشتها أسرتي قبل أن أعرف الدنيا بقرن أو نحوه. كانت هواية وحكا على الجراح القديمة. أبي سجل الكثير مما رواه جدي من ذكرياته ولكن.. بالشركسية! لم يكن هناك تكافؤ بين رقعة صغيرة من الأرض وقبضة أقوام قليلة، وبين روسيـا في اتساعها ومواردها وجيشها الذي صار جيشا حديثا في القرن الماضي يزيد على مليون ونصف المليون.. أكثر عددا من المقاومة الشركسية كلها. المأساة الحقيقية للشركس بدأت بعد حرب القرم سنة 1856 التي غرقنا فيها نحن الشركس حتى الأذقان. حاربنا مع الحلفاء العثمانيين والإنجليز والفرنسيين. قاومنا، دمرنا. حسبناها فرصة العمر. وحين توقفت الحرب وترقبنا الجزاء الأوفى من مؤتمر باريس لم يأت أحد عنا بكلمة! ولا الدولة العثمانية نفسها! وحين سئل المندوب الإنجليزي عن نصيبنا من هذه الحرب قال: لا يمكن أن نكون مسلمين أكثر من المسلمين أنفسهم! تماما كما هو لسان حال زعماء أمريكا وأوربا اليوم. هل يمكن. أن يكونوا مسلمين أكثر من الألف مليون مسلم المنتشرين في الأرض! ومرة أخرى تركت المنطقة الشركسية لمصيرها وأمام 280 ألف جندي حشدتهم روسيا لسحق المقاومة هناك لم يجد شامل إمام المريدين إلا الاستسلام (أيلول سنة 1859)، ثم تبعه محمد أمين فاستسلم بدوره. وانقلب الروس وحوشا في جلود إنسانية.

لم تكن عملياتهم إخماد ثورة، ولكن عمليات إبادة منظمة. هذا الشعب الشركسي لا نريده في إطار روسيا. فإما أن يسحق، وبدون قبور، وإما أن يهاجر. كان هذا هو مبدأ الجنرال ميشيل كراندوك الحاكم العسكري العام للمنطقة. الحقول المحروقة دبيب المشردين على الثلوج، تسلل الهاربين في الغابات أقبية التعذيب البربري، التمثيل حتى بالجثث، هدم المساجد، سحل الشيوخ، تقصف الأكواخ كالهياكل العظمية الباكية. كل ذلك كان بعض العمل اليومي للجندي الروسي، سبع سنوات ونيف. حتى أعلن الجنرال كراندوك "نهاية حرب القفقاس" سنة 1864. صارت المنطقة- في مفهومه- روسية!! وساد فيها السلم سلم القبور!! ولكن بعد مائة سنة من القتال!

حرب المائة عام الشركسية هذه لم يتحدث عنها أحد في التاريخ بوصفها أحد فصوله المخجلة المرعبة. انتهت بانهيار المقاومة في صمت. وإعلان نتيجتها في صمت أكبر. والناس يذكرون الفظائع الاستعمارية للفرنسيين والإنجليز، ولكن من ذا الذي يذكر الاستعمار الروسي وفظائعه في القرم وشمالي القفقاس وفي التركستان؟ مع أنها كانت أكثر مرارة وأشد نكالا!

الروس لم يكونوا يريدون الأرض، وكذلك الصرب اليوم في البوسنة والهرسك. أراضيهم واسعة وخالية ولكنهم لا يريدون هذه "الملة" الإسلامية الموجودة عليها. ولذلك أمر الجنرال الروسي كارتسوف قادته بتسفير الشركس "إلى أبعد ما يستطيعون"! وكان هذا الأبعد يعني عنده أقاصي الأرض العثمانية!.. وكان هذا فقط هو "الجزاء الأوفى" الذي ناله الشركس من الحلفاء!!

وأفهم الروس الشركس أن عليهم أن يرحلوا، طوعا أو كرهـا. عليهم الهجرة، إلى البلاد العثمانية أو إلى غيابة المجهول! لا فرق. ودبت صيحة الرحيل في البلاد من أقصاها إلى أقصاها. كأنها صرخة العويل. وبدأ الزحف باتجاه الغرب نحو شواطئ البحر الأسود الذي ازداد على سواده سوادا في الأعين. وتساءل شركي قبل أن يخوض المياه إلى مركب الهجرة ألهذا سموه بالبحر الأسود؟.. أتسمون هذه صليبية؟ سموها إذا شئتم ولكنها لن تكون آخر الصليبيات. ولا أقصد الصليب نفسه، فهو منها براء. ولكن الروح الحاقدة المتعصبة ضد العقائد الأخرى، وإغلاق الروح على فكرة واحدة متقوقعة!

ورسمت الأقدام الشركسية آلاف الدروب إلى شواطئ البحر. الموانئ عليه اكتظت بالمهاجرين الذين ينتظرون فرصة السفر. الموت من ورائهم والبحر من أمام. نصف مليون إنسان مروا على هذه الدروب الوعرة يجرون الأقدام والعربات والأطفال والعجزة، موانئ آنابه، تـوابسه، سوجي أولر. بوتي، باطوم كانت تقذفهم إلى الماء في أنواع المراكب. وموانئ طرازون. سمسون سينوب، اسطنبول. فارنا. بوغاز. كوستنجه تتلقاهم قادمين ثقلاء!

كان هذا أول الأمر ولمدة سنوات.. ثم بعد سنة 1866 اكتفوا بدفعهم عن طريق البر، عبر الأودية والثلوج ومجاري السيول والأنهر والصخور المسنونة والأحذية الممزقة والمخيمات المرتجلة والأمطار والوحل. وهل الطرق عبر أرمينية وجبال أرارات بالسهلة العبور؟ كانوا قرابة المليون و 400 ألف يزحفون، وصل منهم مليون ومائة ألف فقط وسقط الباقون على الدروب.

أنقول وصلوا؟ الواقع أنهم سيقوا سوقا يزرعون الجثث المعروقة حتى العظم حيث مروا. ولقد تمنى معظمهم العودة ليموتوا على ترابهم الوطني ولكن.. كان الطريق أمامهم وحده هو المفتوح، اتجاه واحد. وكل الطرق الأخرى مغلقة. النظرة إلى الوراء هي المحرمة! اليوم تقدم الدول الأمريكية والأوربية الباصات والمعونات المالية، لا ليتمكن أهل البوسنة والهرسك من الدفاع المجدي ولكن لنقل أهل المدن التي يحتلها الصرب إلى المناطق النائية في المجر وإيطاليا وفرنسا والنمسا واليونان والتسليم للصرب بالاحتلال. قبل قرن لم يكونوا بهذا الكرم. تركوا لأقدام الشركس أن تهترئ على الطرق لعلها تصل مناطق الأمان.. لماذا؟ ليجبني من عنده الجواب!

ولعب المكر العثماني دوره في عملية الإسكان. كانت البلقان بخاصة وبعض البلاد العربية في الفترة الحرجة التي تتحرك فيها لطلب الاستقلال عن "الرجل المريض"!

أسكنوا بعض الشركس على مدن الحدود المتاخمة لروسيا ليكونوا في وجهها عند الحرب فكأنهم نقلوا من جبهة قتال إلى أخرى والعدو هو العدو!

وأسكنوا بعضهم الآخر على الشريط الفاصل بين القرى التركية والبلغارية لكيلا يجد البلغار سواهم إن هموا بالقتال. وأنزلوا بعضهم حول اسطنبول ليكونوا درع الحماية في الأخطار، على مداخلها والطرق المؤدية إليها. أما المهاجرون التالون في البر فوطنوا بعضا منهم في القرى والأماكن ذات الأغلبية المسيحية مثل مالا زكـرد في قلب أرمينية وجبال ساسون لا ليخلقوا التوازن بين السكان فقط ولكن ليهددوا بعضا منهم ببعض. لا يهمهم أيهم المقتول. ورسموا بالشركس خطا من السكان يفصل ما بين الأكراد والأرمن من جهة وبين الأتراك في الأناضول من جهة أخرى اعتبارا من مدينة سينوب وسمسون حتى أنطاكية والإسكندرونة.

وأرسلوا قسما إلى قبرص ورودوس وإلى لبنان في البحر. وحين احتجت هذه البقاع ورفضت استرضاها العثمانيون بإحراق سفن اللاجئين بمن فيها! ألم تحرق سفينتان محملتان باللاجئين أمام الأعين في شواطئ لارنقة. والناس ينظرون أخذ النيران بالركاب؟!

مصير أهالي كريت المسلمين كان أفضل فيما بعد سنة 1899. اختاروا الهجرة إلى "شام شريف" (دمشق) لأنها في اعتقادهم لا يدخلها الكفار. في دمشق تعرفون الحي الذي يدعى بالمهاجرين. إن اسمه الحقيقي حي المهاجرين الكريتية. هناك أنزلوا في بقعة جرداء على سفح قاسيون وفي تلك الفترة من أواخر القرن الماضي ومطالع هذا القرن كانت ألمانيا قد أخذت جانب العثمانيين (كيدا بالإنجليز) ووقفت بجانب هؤلاء المهجرين تدعمهم. قبل ذلك وقبل عهد بسمارك لم تكن ألمانيا "كقوة" أوربية موجودة أو موحدة، ولم يكن لها أطماع استعمارية تطلب فيها مكانا تحت الشمس كما صارت فيما بعد.

هل تكفي الدموع؟

وكان للهلال الخصيب نصيب من هجرة الشركس. في العراق مد العثمانيون خط سكناهم من ماردين إلى الحلة وكربلاء ليقفوا ضد تحرك الأكراد والشيعة!! وفي بلاد الشام مدت خط السكنى على امتداد خط المدن الداخلية من منبج إلى حلب حتى جنوب عمان والكرك والطفيلة بما في ذلك الجولان. لكي يشقوا الجبهة العربية المتحركة ثم ليحموا طريق سكة حديد الحجاز..

وفي منطقة أضنة وكانت تعتبر من الشام وزع الشركس على حوضي النهرين: سيحان وجيحان (يشيل إيرماق) و (قيزيل إيرماق) لعلهم يصلحون الأراضي هناك. فالمنطقة مرزغية موبوءة بالملاريا المهلكة.. أنزلوا فيها 74 ألفا في مرسين. فلم يبق منهم سوى 4 آلاف!!

كان الشركس، في هذه الفترة، مادة حية محاربة قيد المساومة والاستغلال الدولي. حتى عدوتهم روسيا فاوضتهم. عرضت عليهم إنشـاء دولة لهم في جنـوب تركستان، على حدود أفغانستان، وتدفع روسيا كل تكاليفها. على أن يكونوا بجانبها. وذلك لا لكي يقفـوا في وجه الإنجليز فقط ولكن في شرق إيران أيضا ولكيلا يكونوا أعوان العثمانيين في حروبهم ضدها!! ورفض العرض!

واستغلت روسيا حربها مع العثمانيين في البلقان سنة 1877 وثورة الحاج علي بك بالشركس لتتكرر عمليات التدمير الشامل للمنطقة وليساق عشرات الألوف من أبنائها الباقين إلى داخل روسيا والمناطق الجرداء فيها. ولتفرض على العثمانيين ترحيل 150 ألف مهاجر شركسي من البلقان. وسيق هؤلاء من جديد إلى الأناضول وإلى بلاد الشام. كان نصيب حلب ودمشق منهم 15 ألف أسرة، ونصيب أضنة خمسة آلاف! وكان الترحيل الثاني أقسى من الأول وأشد مرارة. وصاح شركسي ضاعت صيحته مع ضجيج الناس: هل نحن غنم؟

وعاد المتحدث فتوقف وتوقفت معه الأنفاس. قال:

- أسرتي كانت واحدة من هذه الأسر التي أصابها الترحيل الثاني من البلقان. كنا حول كوستنجه. فأنزلنا في كفر لما بفلسطين ثم الريحانية. في سنة 1948 كان تهجيرنا الثالث، وفي سنة 1967 كان الرابع، والحبل على الجرار. هل تكفي الدموع؟ وصمت الجميع!

 

شاكر مصطفى

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




فتاة من الشركس بملابسها المميزة





فتى شركسى بلباسه الوطني





خريطة توضح مواطن وجود الشركس