تصنيع المخ البشري منير محمد سالم

تصنيع المخ البشري

عندما ظهرت أجهزة الكمبيوتر كانت لا تتعدى كونها آلات حاسبة بسيطة ذات حجم كبير، وكان الجهاز المصمم لحساب العمليات الرياضية البسيطة يملأ حجرات عديدة، ولكن التطور لم يتوقف ليتمكن جهاز بحجم الكف من القيام بعمليات تفوق تلك التي كان يقوم بها جهاز يملأ غرف مبنى كامل منذ ما يزيد على خمسين عاما، ونجم هذا الإنجاز الإعجازي نتيجة لتلك النقلات النوعية، والقفزات الكبيرة التي شهدتها تكنولوجيا الكمبيوتر بدءا من الصمامات الالكترونية وانتهاء بالدوائر المتكاملة متناهية الصغر بعد اختراع الميكروشب الذي مكن صانعي الكمبيوتر من إنتاج دوائر منطقية متكاملة عن مساحات لا تزيد على رأس الدبوس في الحجم، بل وأمكن تصغيرها مع مرور أيام وتطور وسائل التصنيع. وتقدم العلوم.

لكن السؤال المهم هو ماذا يمكن للكمبيوتر القيام به حتى يومنا هذا؟

والإجابة باختصار أن هذه الأجهزة يمكنها القيام بجميع العمليات الرياضية من تفاضل وتكامل وضرب وطرح وجمع... وغير ذلك، كما يمكنها تخزين كم هائل من المعلومات بطريقة منظمة واسترجاعهـا بسرعة خارقة عند الحاجة حسب برامج معدة سلفا. كما يمكن لهذه الأجهزة عكس الأرقام والحسابات على شكل تصاميم مرئية ذات بعدين أو ثلاثة أبعاد مما أحدث ثورة في عالم التصميم، واستحداث الأشكال الهندسية الجديدة، وما حمله ذلك من تطبيقات جديدة منها العلمي ومنها التسلية مثل أفلام الخيال العلمي وأفلام الفضاء، عدا عن استخدام هذه التطبيقات في مجال التدريب لإعداد الطيارين المدنيين والعسكريين والعديد من الاستخدامات الأخرى والتي تتطلب التمثيل المرئي للبيانات.

قدرات فوق الحدود

يمكن الجزم بأن أهم ما يمكن لأجهزة الكمبيوتر القيام به هو قدرتها على متابعة العمليات الروتينية بدقة غير قابلة للخطأ مهما طالت هذه العمليات ومهما زاد تعقيدها هذا إذا ما تم وضع البرامج المناسبة للقيام بذلك، وأمكن بالاستفادة من هذه الميزة التي توفرها أجهزة الكمبيوتر، القيام برحلات طويلة في الفضاء الخارجي اعتماداً على قدرة أجهزة الكمبيوتر على توفير معلومات وإرشادات توجيه هذه الرحلات، والتحكم بها بصورة دقيقة وكفاءة متناهية بدون أخطاء.

وقد كان الإعجاز الحقيقي عندما تمكن فريق من علماء وكالة الفضاء الأمريكية (ناسا) من إطلاق المركبة "فويجر - 1" لتسافر عبر الفضاء السحيق، والوصول إلى خارج المجموعة الشمسية بعد رحلة جاوزت 2300 مليون ميل. ووجه الإعجاز في هذه الرحلة ليس المسافة الشاسعة، أو الزمن الذي استغرقته، ولكن وجه المعجزة يكمن في أن المركبة قطعت 99.9% من هذه المسافة دون الاستعانة بمحركاتها بدون استهلاك أي وقود، واعتمدت في دفعها وتوجيهها على ميزان الجاذبية بين الكواكب بعضها البعض، وجاذبية الشمس والنجوم الأخرى.

ولكم أن تتخيلوا مدى تعقيد تلك الحسابات التي أجريت لتوفير الإرشادات اللازمة لإنجاز الرحلة الأسطورة، ولم يمكن القيام بذلك إلا بالاستعانة بأكبر وأقوى أجهزة الكمبيوتر التي كانت متوافرة آنذاك عندما بدأت الرحلة، والتي تم القيام بها بنجاح، حيث تم استقبال آلاف الصور الملونة لكواكب المجموعة الشمسية البعيدة عنا ولأول مرة فى التاريخ.

وحتى تلك التجربة كانت أجهزة الكمبيوتر عبارة عن عامل مساعد، وخزان للمعلومات، وأداة فائقة السرعة لاسترجاع هذه المعلومات وكان هذا بحد ذاته إعجازاً علمياً، ولكن هل يتوقف التطور...؟

العقل البشري وتحدي المجهـول

إن العقل البشري فطر على تحدي المجهول وتحقيق المستحيل، وقد يكون هذا الدافع هو نفسه الذي سيؤدي إلى دمار حضارة البشرية في يوم من الأيام والكيفية يعلمها الله وحده، فالعلماء ما زالوا يحاولون تطوير أجيال جديدة من أجهزة الكمبيوتر يمكنها إجراء وتخزين معلومات وعمليات أكبر، ويحاولون في ذات الوقت إنتاج هذه الأجهـزة بأحجام متناهية الصغر، ويأملون خلال عشر سنوات في التمكن من إنتاج كمبيوتر بسرعة ذاكرة تتجاوز الميجابايت بحجم القداحة ولكن كيف... نظرياً ذلك ممكن وعملياً ما زال في غاية الصعوبة نظراً لأن المواد المصنعة منها ذاكرة الكمبيوتر الآن تشغل حيزاً لا بأس به، ولا يمكن باستخدام نفس المواد تحقيق هذا الحلم الطموح إذ يجب البحث عن مواد جديدة يمكن تخزين المعلومات فيها، ويكون لديها القدرة على تخزين الطاقة الكهربائية بملايين أضعاف المواد المتاحة حاليا ومثل هذه المواد متوافرة في الطبيعة وإن لم يتمكن الإنسان من السيطرة على استخدامها حتى الآن.

لا جدال في أن أكفأ هذه المواد هي بالطبع خلايا مخ الإنسان، وللعلم فإن ما يحويه مخ طفل في الرابعة من عمره من معلومات مخزنة لا يمكن حصره في ذاكرات أجهزة كمبيوتر تملأ مساحة تعادل آلاف الكيلومترات. فما بالكم بالمعلومات التي يحويها مخ إنسان يبلغ من العمر أربعين عاماً فمما لاشك فيه أنه لتخزين نفس المعلومات في أجهزة الكمبيوتر، فسوف يحتاج الأمر لصناعة أضعاف عدد الأجهزة الموجودة حالياً وربطها جميعاً لتشكل معاً وحدة ذاكرة واحدة لتخزين حجم مساو من المعلومات التي يحويها مخ هذا الشخص.

إذن فالعلماء في وجه معضلة لا يمكن حلها، لكن هذا ليس بالصحيح تماما فلقد ظهر على الساحة التكنـولـوجيـة علماء تخصصوا فيما يسمـى بـ "البيوالكترونكس" ومعهم الحل السحـري، حيث يعملون على تطوير خلايا ذاكرة من المواد العضوية يمكنها تخزين كمية من المعلومات تساوي عشرات الأضعاف لمثيلتها المصنوعة من السيميكوبدكترس المستخدمة حالياً. ولكن لماذا يطمح العلماء بتطوير مثل هذه الخلايا؟ والإجابة ببساطة أنه إذا أمكن زيادة حجم المعلومات المخزنة في حيز صغير جداً فإنه يمكن الدخول في مرحلة جديدة من الذكاء الإلكتروني والاقتراب من مرحلة صنع أجهزة قادرة على التفكير بدلاً من الحاجة لوضع البرامج طوال. الوقت لمقابلة التغيرات المحيطة.

إن هذه التكنولوجيا الجديدة والتي تعتمد على أبحاث "الذكـاء الاصطناعي"، ومع ما تسفر عنه هذه الأبحاث من طفرة تؤدي إلى خلق جيل جـديد من أجهزة الكمبيوتر- والذي حددت له اليابان بداية القرن المقبل- باستطاعته أن يفكر كالمخ البشري، وأن يعالج المواقف الحياتيـة بعد تفكـير سريع ولا يحتمل الخطأ. ولكن كيف يتم ذلك؟

من الصعب الإجابة عن هذا التساؤل، ولكن يمكن إلقاء بعض الضوء على هذه الطفرة، فإنه من المعروف أن المخ البشري مبرمج ذاتيا- بقدرة الخالق عز وجل- بكم هائل من المعلومات، ولا تشغل إلا جزءا يسيرا من طاقة المخ البشري، وهذه المعلومات تتعلق بالتحكم بأجهزة الجسم، وبنمو الإنسان وتقدمه في العمر يتم تخزين معلومات جديدة يتم توصيلها إلى المخ البشري عن طريق الحواس الخمس المعروفة إلى جانب حواس أخرى لا ندركها لأنها تعمل بميكانيكية ما زالت مجهولة لدينا وإن كان العلم قد بدأ يقتحم مجاهلها فقد تـم إثبات أن المخ البشري يرسل ويلتقط الموجات الكهرومغناطيسية، كما أن الإنسان يتمتع بحواس غير مرئية مثل التنبؤ، وتبادل الخواطر، بل والتأثير على المادة باستخـدام طاقة مخه مثل ما يقوم به بعض الموهوبين من ثني الأجسام المعدنية دون لمسهـا.

من هنا اكتشف العلماء أنه إذا أمكن تزويد جهاز كمبيوتر جبار ذي سعة ذاكرة قد تصل إلى مائة مليون ميجابايت بحواس اليكترونية تشبه حواس الإنسـان بحيث يتمكن هذا الكمبيوتر من إدراك مصادر الحرارة وملمس الأشياء، ومصادر الضوء ورائحتها المحيطة بجانب رصد الأصوات الصادرة عن الأشياء وربـط هذه الحواس بوحدة الذاكـرة المطورة التي سيزود بها الجهاز، فإنه يمكن لهذا الكمبيوتر مستعينا بجهاز تحليل متطور إصـدار التعليمات وإيجاد الحلول، وتقـديـم الاقتراحـات لأي مشاكل أو استفسارات مباشرة دون الحاجـة لوضـع برامج مفصلة لكل مشكلة على حدة، ويتوجب عندئذ أن يزود الكمبيوتر ببرامج أولية شاملة تخزن في الذاكر، وتقوم بتوجيه أجهزة التحليل الداخلية بحيث يمكن للجهاز زيادة المعلومات المخزنة داخله بناء على مدى ارتباطها وعلاقتها بمعلومات أولية مخزنة سابقة، ومن ثم يتمكن من تحليلهـا وربطها وإيجاد العلاقة بين البيانات المختلفة دون الحاجة لتلقي الأوامر لعمل ذلك وكما قلنا سابقا إن مثـل هذا الأمر يحتاج لتنفيذه ما لا يقل عن خمسة ملايين جهاز كمبيوتر من أكبر الأحجام المتوافرة حاليا، ولتزويدها بالطاقة فإنه يلزم تسخير ثلث إنتاج العالم من الطاقة الكهربائية لتغذيتها، إلى جانب استحداث بعض المعدات الإضافية ولمد شبكة من الأسلاك الموصلة تكفي إذا ربطت معا لمد سلك من الأرض إلى الشمس في كلا الاتجاهين. ولكن إذا أمكن إحداث ثورة جديدة في عالم الالكترونيات وأمكن تطوير خلايا ذاكرة ذات سعات خارقة فإنه يمكن إنجاز ذلك في حيز وبمصادر طاقة في متناول البشرية.

جدوى العقل الصناعي المشابه لمخ الإنسان

يجب ألا يبـدو الأمر غير ذي أهمية بالاعتقاد أنه مادام يتوافر بلايين البشر، فما الحاجـة إلى تصنيع مخ بشري. ويجب ألا ننسى أنه لا يمكن إرسال البشر إلى كثير من الأماكـن الواجب إجراء الاستكشافات عليها وذلك بسبب عدم توافر البيئة المناسبة لحياة هؤلاء البشر بجانب عدم إمكان تخزين أطعمة كافية لمثل هذه الرحلات التي قد تستغرق سنوات طويلة، ولكن إذا أمكن إنتاج أجهزة كمبيوتر ذكية كـالتي يطمح العلماء لصنعهـا فإنـه يمكـن إرسال الأجهزة إلى الكـواكب البعيدة دون المخاطرة بأرواح البشر وحتى يمكـن الحصول عل النتائج المطلوبة بجانب أن العامل الأهم هو أن الإنسان يريد أن يحقق المستحيل... فهل له إلى ذلك من سبيل؟."

 

منير محمد سالم

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




المخ أرفع أعضاء الجسد البشري أداء هل يستطيع الإنسان ممثالته تقنيا





استكشاف مجالات المخ البشري بمساعدة الكمبيوتر، هل يساعد تنمية قدرات الكمبيوتر نفسه؟





استكشاف مجالات المخ البشري بمساعدة الكمبيوتر، هل يساعد تنمية قدرات الكمبيوتر نفسه؟