يقـدم المقال وجهـة نظر
خاصة ترى أن الفن المغربي الذي كان لغة جمالية تلقائية ملموسة لدى الإنسان المغربي
في كل أشكال العمارة التي تحيط به قد انسلخ عن جذوره وسجن نفسه داخل إطار اللوحة
الضيق، الذي ورد عليه من تأثيرات الحضارة الغربية. فما هي مبررات هذه
النظرة؟
إن اللوحة في
مفهومها العام/ الرسـم داخل الإطار. لم تكن واردة في الأعمال التعبيرية المغربيـة،
ولم تكن من مظاهر الحياة المغربية، حيث إنها لم تـدخل الفضاء المغربي إلا بعد العشر
الأوائل بعد تسعمائة وألف، أي بعـد تغلغل الاحتلال الأجنبي في بلادنا (فرنسا في
الجنوب وإسبانيا في الشمال).. ولم تحتضن البيوت البرجوازية المغربية اللوحة، إلا في
أواخر العشرينيات، كـما أن تلك الأعمال لم تكـن لرسامين مغاربة... إلا أن ثمة حقيقة
تبقى واردة وتتمثل في أن الاستعمار الفرنسي والإسباني، وكذلك البرتغالي الذي تعاقب
على مدن ساحلية بالمغرب (والكفر ملة واحدة)، كان يدري أن مس القاعدة الشعبية في
شعائرها ومعتقداتها الدينية وفي تقاليدها وعاداتها المجتمعية، أمر مستحيل، لكن
التأثير على المنفعلين المتعطشين لتقليد الغرب من ذوي الميول أو النزعة الفنية، يظل
هو الآخر واردا.. بل من هنا عبأ الاستعمار طاقاته وجند إمكاناته للحفر في الذاكرة
المغربية بطرق تدريجية ووسائل أولية ومكثفة... فكان طبيعياً مع دخول اللوحة وما
زامنها وزاملهـا من مؤثرات مذهبية، على يد فئات من العائلات الأجنبية إلى المغرب
عقب قيام هياكل الاحتلال الفرنسي الإسباني، كان بديهياً أن يواكب ذلك تسرب تيارات
الفن الأوربي بما تحمله من أفكار وتوسلات مريبة وشيوعها بين المغاربة، وكان بديهياً
كذلك، أن تتفاعل تلك التيارات مع الحضارة المغربية فتأثرت بها وأثرت فيها، بل إنها
عملت على امتصاص تلك الحضارة وتذويب روافدها ومقدراتها بدعوى تمازج التراث الإنساني
الذي هو في حقيقته تخطيط للاحتواء..
لغة الفن
التلقائية
ذلك فبعد أن كان
الفن التشكيلي لغة جمالية تلقائية حسية ملموسة لدى الإنسان المغربي، تترجمها
وتبلورها سلوكاته وممارساته التي يفرغ فيها صدقه ومعاناته ويشخصها من خلجات قلبه
وملكات عقله ويصب فيها من قدراته وتخيله الشيء الكبير لتنطبق على حياته وتشملها
وتوافق اختياراته وتسايرها، فنراها مجسدة في مسكنه وملبسه وأفرشته وأدواته وأمتعته
وحليه وأوانيه إلى غير ذلك حيث تكون طرفا ملازماً له ينتقل بتنقله ويشغل حيزاً من
وقته واهتماماته- إن لم تكن هي وسيلة عيشه وسبب رزقه ومصدر استمراره واستقراره أصبح
هذا الفن بكل تجلياته، جامداً ميتاً راكداً في لوحة مكتومة داخل إطار مسدود وقضاء
محدود. ومهما كانت المبررات، فإن فقداننا للعديد من الأنماط والعينات والأشكال التي
هي من صلب حضارتنا والتي تم تذويبها في فكرة المعاصرة وصهرها ضمن شروط الامتثال
والانصياع لمفهوم الحياة الجديدة بكل تشنجاتها وضبابية معانيها، لا يخرج عن كونه
نتيجة من نتائج انسياقنا وراء المؤشرات والإفرازات الاستعمارية التي كدت واجتهدت
عبر عدة وسائل وطرائق في سبيل طمس هويتنا الحضارية وتشويه سماتها وهدم شامخ
بنيانها، وكان خليقاً بالفنان المغربي - التشكيلي على الخصـوص، ولا يستثنى مـن ذلك
المهنـدس المعماري- بعـد تمكنه من استيعاب مختلـف المدارس والمذاهـب والنهل من
مختلف الأبحـاث والتجـارب والوقوف على مختلف النماذج والأساليب، كان خليقاً به أن
يوظف كل إمكاناته وقدراته وخبراته وعلمه لفائدة موروثه الحضاري وما يحويه من معطيات
إنسانية مرة، ولصالـح تراثه الزاخر الذي لا تنعدم فيه عناصر وأدوات وإيحاءات
الإبـداع والتعبير الجمالي.. وهـذا لم يحدث إلا عند النزر القليل من الفطريين
المندفعين نحو الطبيعة بدافـع رومانسي... أو عند بعض التجريديين الذين يفرخون
إرهاصات ذاتية تعاني من القصور في الإفصاح عن هويتها الفنيـة، من هنا لا يجوز الحكم
لها بشيء في هذا الصـدد.. أو عنـد بعـض التجريبيين المرحليين الذين لا يتعاملون مع
التراث إلا لتشويهه واستغلاله كأداة ميته وغير موحية بخصوصيات الحركة والاستمرار...
وقد نجد بعضا مـن ذلك أيضاً عند المتعاملين مـع الحرف العربي ليس بـاعتباره قاعـدة
فنية وشكلا هندسياً ورمزا جمالياً، وإنما لاعتباره فاصلا تقنياً يخلف توازناً داخل
فضاء اللـوحة، فيما انصرف الكثير من دعاة العلمانيـة إلى تملق حضارة الغرب ومبايعة
خطواته وأساليبه والخضوع لمذاهبه ومناهجه.. وتجدهم - فوق كل ذلك- مستعدين للدفاع عن
تلك الحضارة التي لم ينالوا منها إلا القشور على حساب جهلهم مكـونات ومقومات
حضاراتهم الأم.. وهم بـذلك يوصدون أبواب المستقبل في وجوههم ويسدون الطريق الذي
يـؤدي إلى استنطاق الماضي واستحضـاره، إذ الماضي هو السبيل إلى تحقيق المستقبل
المنشود والتحكم في ضبط عناصره...
وإذا كنا لا نزال
نرى التشكيلي المغربي يلهث مغرمـاً مأسوراً وهو يقتفي أثر الحركـة التشكيلية
الغربيـة التي حققت ذاتها ووفرت لنفسها الكثير مما كانت تزعمـه وتتوخاه من غايات
لصالح مدها الحضاري والتاريخي، واستطاعـت بموازاة ذلك، أن تعلب وتسجـن الكثير من
أوجه الحضـارات الإنسانية الأخـرى، ومن بينهـا الحضارة المغربيـة، داخـل إطار
اللوحـة...، كـما نراه يترصد هـذه الحركـة منقبـا بين الصحـف والمجـلات والدوريات
ومنشورات الدعـاية، منجذباً مشدوداً لما يسمعه ويشاهـده عنهـا، مسخراً كل جهده وجل
وقته لحذوها وتقليدها، مكرسا كل طاقته لخدمتها والاهتداء بها ومحاذاتها بغيـة الأخذ
عنهـا بـالحرف الواحد.. فإن ذلـك لا يعكـس- كما يتخيـل هـذا التشكيلي خطأ - شمولية
معرفته وثقافته ومقدار علمه وإدراكه وإحاطته بجميع التحولات والتطورات، ولعله من
المدهش حقاً ومن اللافـت للنظر، أن نلاحظ أنه في الوقت الذي ما فتيء فيـه التشكيلي
المغربي منبهراً بحضـارة اللـوحـة المستـوردة متحمسـاً لها يعيد قراءتها ويعيـد
تقليدها ويعيد رسـم خطوطها مـا هو مستقيم منها أو منعرج، من غير أن ينتابه إحسـاس
بالرغبـة في وقفة تأمل، في هذا الـوقت بالـذات، نلاحظ التشكيلي الغـربي- وقد أضنـاه
التعـامـل مـع اللوحـة التـي عـاصرهـا دهورا بـأكملها واستنفد في إطارها وحدها
الضيقين كـل جهـده وطاقتـه وتفكـيره- يفـر إلى التشكيـل المطلـق وينصرف إلى تجديد
أسـاليب التعبير وأسبـاب الإيصال والولوج إلى مسـاحات رحبة الفضاء، متسعـة الآفاق،
تستوعب كل إمكاناته وأدواته وخـبراته وتجاربه، وتفجر كل انفعـالاته وإحساساته
وقدراتـه الإبداعية وترسم اتجاها حقيقياً لطموحاته التي لم تستطع اللوحة- بعد قرون
من حياته معها وبداخلهـا- أن تصل إلى تحقيقها أو طرحها والإفصاح عنها، مستغلا في
هذا السبيـل ومتجاوبا مـع كل الفعاليات والمعطيـات الطبيعية التي وهبتها الطبيعية
بسخاء مفرط للإنسان (النبات+ اللوح + الحديد+ الزجـاج+ الصفيح+ الصخر+ الخزف+
الحجر+ القماش+ الخيـط+ النفايات... إلخ...)، بل إنك تجد مدناً بأكملهـا ومناطق
شاسعة يتولاها الفنان التشكيلي بالعناية والدراسة والتجميل وإعادة الترميم والبناء
مع مراعاة نقاءاتها الطبيعية واستغلالها استغلالا يناسب مناخـاتها المجتمعيـة
المعيشية والتاريخية الموروثـة. (في النمسا والولايات المتحـدة الأمريكيـة وبولندا
وألمانيـا وهولاندا والبرازيل وسواها). وهذا ما يدل على متانة العلائق بين
الممارسـة التشكيلية من منظورهـا الجمالي وبين الحياة الرتيبة للإنسان في سـائر
العصـور والأمصـار، ويلي العـلائق التي تفرض أن يوظف المبدع في إطارها كل إمكاناته
وقـدراته من غير أن يبقي هو خارجها... فهل يصبح هذا التطوير، لمفهوم العمل
التشكيلي، في نظر الرسام المغربي، ظاهرة تخلف وتقهقر إلى الوراء، أم سينصرف بعـد
حـين من الانبهـار إلى تقليـد الظاهرة والتبجح بتقليدها فقـط لأنها واردة من الغرب،
وكـل ما يرد من الغرب باعتقاده سليـم صحيح يدل على التعبقر ويرشد إلى
الخلود...؟!
مراحل التشكيل
المغربي
إننا باستقراء
حركة الرسم بالغرب في محاولة لتقييمها وتجميع عناصرها ورصد معطياتها، سنخرج
باستنتاجات- وإن اختلفت من حيث كمهـا والكيف، فهي تؤدي بصورة دائمة ومطلقـة إلى
الاعتقاد بإفرازات الغرب قـد لا تتعدى أو تتخطى عتبة مـا يمكـن الاصطـلاح عليـه
بـالموروث الثقـافي عن حضـارة الغرب... ذلـك أن اللوحة المغربية الإطار، لم تجد بعد
وإلى الآن فضاءها ليس داخـل البيت المغربي وحسب، وإنما داخل الذاكرة الشعبية
المغربية. ناهيك عن عدم القول بها في الموروث الشعبي والتاريخ
الحـضاري...
مـع ذلك يجوز
الاعتقاد بأن الـرسم المغربي- من حيث هو من الشائعات الثقافية التي تحاول فض بكارة
الحاجز المحدق بها وفك الحصار المضروب حولها- تميز في بعض مناحيه وعند بعض عناصره
وطاقاته من حيث هو من الشائعـات الثقافية التي تحاول فض بكـارة الحاجز المحدق بها
وفك الحصار المضروب حولها- تميز في بعض مناحيه وعند بعـض عناصره وطاقاته مـن
المجربين والممارسين، بعطاءات جريئة ومعطيات جد متفائلة تحمل في طياتها أسئلة زمنها
المتراكمة وسمات بعدة ألوان وهواجس لخطابات حلزونيـة نستشف منها الرغبة الدافعة إلى
إلغاء التبعية لعقدة الأجنبي وإلى تجاوز الغرب وإن من خلال المحاولة- اليائسة
أحياناً كثيرة- في اختزال وتقليص مراحل تجريبية، حيث أضحى هذا الرسم- في المغرب- من
الرموز البصرية التي تبنتها في الغالب جهات إدارية وأخرى تجارية وثالثة ملتصقة
بالحياة العامة للناس، وجميعها تختلف من حيث نظرتها للفن وتقييمها له، ومن حيث
إدراكها لأسباب احتوائه واخضاعه لمصالحها ليس بالنظر لقيمته التاريخية والتراثية،
ولا لمكانته الفنية الإبداعية، وإنما بالنظر لأشكاله المادية التجميلية البحتة..
فهي إذن تحسبه على الكماليات وتدخله فيما هو جمالي لحظي ولا تدخله فيما هو حضاري
تاريخي باعتبار أن فن الرسم بالمغرب، وليد نزوات وتفاعلات ذاتية، واجتهادات فردية
ناتجة عن مؤشرات خارجية لم تمر بالمراحل والمدارس المؤسسة لهذا النمط من الفنون.
وباعتبار مواز لما سبق ويتجلى في انعدام وسائل وأقسام ومناهج التربية الجمالية
بالمغرب... لهذا نجد وراء دعم هذه الحركة بالمغرب، بل استغلالها، جهات إدارية صرفة
ومؤسسات تجارية بحتة انصاع لها الرسام واستظل بها من جهة لشعوره بالانفصال عن
القاعدة/ البنيات التحتية للأمة والسواد الأعظم من مكونات المجتمع، ومن جهة لغياب
قدرته على فرض اللوحة كنمط تراثي منسجم مع الحياة الرتيبة لسائر الفئات ومتناغم مع
سائر الأشكال الهندسية التي تأوي هذه الفئات وبعيدا عن هذا المناخ الطاغي الذي
يبتلع حركة الرسم ويظل أهم سماتها، نقترب- عبر توحيد النظرة الجمالية التي تفيد بأن
وجود الشيء خير من عدمه من تشريح حركة الرسم المغربي من منظورين
متلازمين:
الأول: مضمون
اللوحة وهو بمثابة عالم متمزق تتعدد تركيباته الملموسة والمغيبة في بوتقة من
التناقضات التي تشفع لها الألوان والظلال والأضواء، والتي منها ما يكشف عن باطن
الرسام ودواخله. ومنها ما هو مستقل عن ذلك وتتحكم فيه ضوابط الهاجس المتخيل. ومنها
كذلك ما هو خاضع لأبجدية الرسم/ الدراسة الاكاديمية التي تنحو إلى التبعية القسرية
لمنتوج الغرب. ومنها أخيرا ما هو دال على فترة الصراع الحاد بين رغبة الرسام في
التعبير وولوج دنيا الإبداع، وبين حدود قدرته على كتابة اللوحة وشحن
فضائها....
الثاني: التوغل
في عالم يتشكل من أساسه عبر تركيبة واحدة تفرض اختيار الرسام لأسلوب أدبي وتقني
موحد تترسب فيه الذات لتنصهر في فكرة اللوحة/ الحالة الإبداعية، ضمن مفازات مدركة
تهيمن عليها سلطة العقل في توليد وتوجيه الفعل المنتوج، حتى يستجيب لشخصية الرسام
الحاضرة... وباحتكامنا إلى هذين المنظورين المتلازمين يمكننا إدراك واقع وحقيقة
وتواثب حركة الرسم في المغرب والتي هي جزء من الحركة التشكيلية بمفهومها الواسع كما
حددنا سلفاً...
اللوحة المغربية
لم تأت بجديد يختصر الدراسات والممارسات القديمة ويستفيد مما هو إيجابي في
تراكماتها. فلا يمكن اعتبارها في هذه الحال إلا امتداداً دخيلاً على ما جاء به
الغرب وإن دعا إليه ولمع طروحاته دون أن يخلق هذا الامتداد أي تميز في شكله
ومضمونه.
فالمدارس
والمذاهب المتعارضة فيها بينهـا داخل الممارسة في إطار اللوحة بالمغرب، تخضع خضوعاً
حتمياً للمعايير والمقاسات والأساليب التعبيرية التي حددتها وكرست لها مدارس ومذاهب
الغرب...
وهناك استثناءات
كفيلة بأن تجعل اللوحة المغربية تتصل فعلا بالكثير من دروب وضروب الفعل الإبداعي
على مستوى الشكل والمضمون كما على المستوى الجمالي، وتسير في اتجاه التأصيل والدعوة
إلى تقدير واستحضار الشخصية الحضارية والتراثية واستنطاق روافدها وتحريك مكامنها
وبأسلوب متجدد ينشد التطوير ويعمل عليه ويستنبض الواقع المجتمعي والإنساني للاندماج
في خلاياه وتحولاته بعين متفحصة يستخدمها العقل عبر حبكة وصياغة فنيتين ترشدان إلى
علاقة المبدع بوضعه التاريخى. وتبقى أيضا هذه الاستثناءات باعتقادي وحدها القادرة
على نسف خطط الغرب التي تدعو إلى الهيمنة واستئصال أسباب التبعية وتجاوزها إلى
تقديم مشروع يؤسس لحركة تشكيلية وطنية تفتح الشهية لتطلعات مستقبلية وتعد بإنتاج
البديل وخلقه علما وعملاً...
والإشارة هنا
والإشادة تخص المبدعين: بنسيف، شبعة، يلقاضي، الفضاس، الأبيض، بكري، الهبولي، كريم
بناني، بن علال، الناصري، فاطمة حسن، بلكاهية، السباعي، رحول، الركراكي، السمنهاج،
مغارة، الحمري، حلادي، السنوسي، لكلاوي، بلامين.. وهؤلاء جميعهم من حيث يمثلون
الاتجاه الصحيح والواعد في افق الحركة التشكيلية بالمغرب، جديرون بالتنويه لتبنيهم
عملية بلورة وتطوير أسباب الفعل الابداعي في مجال الرسم، تلك الأسباب التي أسس لها
الغرباوي والشرقاوي والورديغي والادريسي والفخار ومورسيا وقبلهم بن علي الرباطي،
فماتوا قبل أن يرسخوا هذه الأسباب وإن تركوا إرثاً هو جزء ثري وحافل بمعطيات الخطاب
المرئي المقروء الذي يحمل في جزئياته وأبعاده، أوجهاً لجوانب مهمة من الشخصية
المغربية التي تمتعت بالحصانة والشموخ وبالقدرة على التفاعل دون أن تفقد هويتها
التاريخية والحضارية وانتماءها الإنساني...