السجن فضاءٌ إنساني مفتوح على الأسئلة المعلّقة في أفلام أوربية حديثة الإنتاج

السجن فضاءٌ إنساني مفتوح على الأسئلة المعلّقة في أفلام أوربية حديثة الإنتاج

شكّل السجن مادة حيّة لصناعة سينمائية غربية، في الآونة الأخيرة، على الرغم من أنه ظلّ أعواماً طويلة عاملاً جاذباً لسينمائيين مختلفي الأساليب والهواجس. بعيداً عن النضال السياسي، غاصت أفلام حديثة الإنتاج في التفاصيل الإنسانية البحتة لمسجونين متّهمين بجرائم متفرّقة «قتل، سرقة، تجارة مخدرات، إلخ»؛ واستلّت حكاياتها الدرامية من الواقع الإنساني، من دون إصدار أحكام على أولئك الذين حوكموا قضائياً، فدخلوا السجن أو خرجوا منه بعد انتهاء مدة الحكم، وباتوا في مهبّ رياح عاصفة وسط انكسارات وخيبات جمّة. والأهمّ كامنٌ في قدرة صانعي هذه الأفلام على إبداع أعمال بصرية راقية، وعلى مواكبة مسارات المسجونين ومصائرهم بلغة سينمائية بديعة وآسرة.

لا إدانة ولا أحكاماً مسبقة. بهذه البساطة العميقة بدلالاتها السينمائية، يُمكن اختزال التشابه القائم بين أفلام حديثة الإنتاج، التقت عند قراءة البُعد الإنساني في حياة مساجين مقيمين داخل السجن، أو خارجين منه حديثاً. فعلى الرغم من الاختلافات الواضحة في المضامين الدرامية والمعالجة الفنية والمقاربة البصرية، بدت الأفلام تلك، التي عُرضت للمرّة الأولى في الدورتين الأخيرتين لمهرجاني «كان» «مايو 2009» وبرلين «فبراير 2010»، منسجمة مع التزام صانعيها بالتنقيب السينمائي في حيوات أولئك الناس، وفي مساراتهم الاجتماعية. كما أن هؤلاء المخرجين لم يُعلّقوا أهمية كبرى على الأسباب التي آلت بالمساجين إلى ارتكاب أفعالهم، ولم يحلّلوا الظروف التربوية والاجتماعية والثقافية والحياتية التي أحاطت بهم قبل دخولهم السجن، أو أثناء تنفيذهم الأحكام الصادرة بحقّهم. ذلك أن الأهمّ أمرٌ واحد فقط: متابعة السياق الإنساني ليومياتهم، والاقتراب من أسئلتهم المعلّقة في فضاء عيشهم، والمرتبطة بالوجود والحياة والموت. أما الأفلام، فهي: «نبي» للفرنسي جاك أوديار، «إذا أردتُ أن أصفّر، سأصفّر» للروماني فلوران سربان، «سوبمارينو» للدانماركي توماس فينتربيرج، «الجنتلمان» للنروجي هانز بيتر مولاند و«السارق» للألماني بنجامن هايزنبيرج.

أبعد من الجريمة

ليست معرفة الجريمة أمراً مهمّاً، غالباً. فعلى الرغم من انكشافها أمام المشاهدين، فإن المسألة ليست جوهرية. الأفلام تلك منشغلة بما هو مختلف عن الجريمة، وبما هو أبعد من الفعل الجرمي وكيفية ارتكابه وآثاره وخلفياته. المخرجون مهمومون بمسائل أخرى أهمّ: المتاهة. الحصار المانع خروجاً من شرنقة الماضي. السعي إلى فهم التفاصيل والاهتمام بالهامشيّ. الالتباس الحاصل بين الموقع الحياتي الآن، والرغبة في كسر الجامد. الذنب إزاء مفصل أساسي في الحياة، أو إزاء تبدّل في المعطيات الحياتية. الرغبة في الخروج من النفق، أي الذهاب إلى نوع من سلام داخلي، أو الاكتفاء بالبقاء في الإطار الضيّق للعيش. المخرجون مكترثون أكثر بالإنسان، أي بالمجرم، ككائن بشريّ لديه انفعالات وهواجس ورؤية خاصّة بكل ما يحيط به من ظروف ومناخات وأشياء وحالات. الإنسان الفرد محور الأفلام، وركيزتها وآفاقها ومفردات سردها. بعض المساجين أراد ابتعاداً مطلقاً عن ماضيه إثر خروجه من السجن «الجنتلمان»، «سوبمارينو». بعضهم الآخر يعاني تداعيات السجن والجرم المرتكب «نبي» و«سوبمارينو» أيضاً. هناك من قدّم للمُشاهدين قسوة القدر الفارض بؤسه عليه «إذا أردتُ أن أصفّر، سأصفّر». هذه نماذج. هناك من اعتاد السرقة بدافع غير مبرّر، فإذا بالمخرج لا يذهب إلى التبرير، بل يرافق السارق في مساره الحياتي «السارق».

بعيداً عن إدانة، مرفوضة أصلاً، وعن تشريح نفسي للذات المرتكبة جرماً، وبالتالي بعيداً عن تعاطف ساذج أو تعاضد إنساني مفرّغ من أي معنى؛ وبعيداً عن واجب أخلاقي يقول بالتعاطي مع المجرم كإنسان، بالمعنى الشعاراتي العام؛ انبنت هذه الأفلام على حكايات أناس مدمَّرين ومسحوقين وساعين إلى لحظة صفاء ذاتي وسط الانهيارات المختلفة، أو إلى تحرّر داخلي ممنوع عليهم بلوغه. انشغلت بالفرد وسط جماعته، بل وسط حريته المنقوصة ومستقبله المعلّق وراهنه المثقل بالخيبة والألم. بعضها مشبع بالبؤس النفسي «سوبمارينو» أو بالخيبة المبطّنة «السارق». بعضها الآخر اعتمد السخرية الضاحكة طريقة اشتغال سينمائي «الجنتلمان». هناك من أنجز شهادة بديعة عن لحظة واحدة بدّلت أموراً كثيرة، فانقلبت الدنيا رأساً على عقب «إذا أردتُ أن أصفّر، سأصفّر»؛ أو صوّر الجحيم القاتل الذي وجد المسجون نفسه فيه، ما أدّى به إلى ابتكار أدوات أعنف من نار الجحيم لتحصين نفسه من الجنون المتفشّي في الأمكنة كلّها «نبي». الأساليب مختلفة، أو متناقضة؛ لكن البحث في التفاصيل الإنسانية أهمّ: أولريك «ستيلان سكارسغارد»، الخارج من سجنه حديثاً، يواجه ظروفاً مثيرة للضحك، على الرغم من أن بعض ماضيه القذر يُطارده ويلحّ عليه بالثأر «الجنتلمان». الشقيقان المنفصلان عن بعضهما البعض إثر حادثة ألمّت بهما في طفولتهما، ضائعان في أزقّة المدينة والحياة معاً، وإن اختلف نمط العيش عند كل واحد منهما، فإذا بالأول نك «ياكوب سيدرغرين» يغرق في السكر والتوهان، وإذا بالثاني نكس برودر «بيتر بلوجبورج» يُتاجر بالمخدّرات لتأمين حياة أفضل لابنه الوحيد ذي الأعوام الستة، ويُدمن عليها في الوقت نفسه هرباً من أشباح ماضيه «سوبمارينو». الشاب سيلفيو «جورج بيستيريانو»، المستعدّ للخروج من الإصلاحية بعد أسبوعين، عانى مأزقاً عبثياً قلب أموره كلّها، ودفعه إلى أقصى العنف للحصول على لحظة هناء مع وهم حبّ «إذا أردت أن أصفّر، سأصفّر». الدخول إلى السجن لا يختلف عن السقوط في الجحيم، بالنسبة إلى ماليك الدجبانة «طاهر رحيم»، ما يستدعي انقلابات وحشية وسقوطاً في حقل من الألغام والعيش في أدغال الموت، انتصاراً لحريته الخاصّة «نبي». المزج بين موهبتين «سرقة المصارف ورياضة الركض» ميزة يوهان ريتنبيرج «أندرياس لوست» الخارج من سجنه حديثاً، من دون أن يخرج من عالميه هذين، فإذا بمساره ينتهي في القرف واللامبالاة، من دون أي تعبير عن ندم، أو استعادة ماض «السارق».

نبض أفراد

بهذا المعنى، يُمكن القول إن الأفلام هذه التقطت نبض أفراد مقيمين في السجن، أو خارجين منه، أو داخلين إليه. لكن السجن المقصود حاضرٌ فيها بالمعنيين المباشر والرمزي. فالسجناء مصابون بحصار نفسي ومجتمعي وإنساني، لا يقلّ قسوة عن العيش داخل الزنزانات، إن لم يكن عيشٌ كهذا أرحم وأسهل، أحياناً. «نبي» أوديار مقيم في قسوة السجنين، لكنه مدرك اللعبة الدموية التي سيق إليها، فوظّف قدراته العقلية والذهنية، بحثاً عن خلاص. «سارق» هايزنبيرج بدا أسير ألم داخلي غير واضح، لسقوطه في لجّة القهر والتمزّق والصمت. شقيقا «سوبمارينو» لفينتربيرج محاصَران بكَمّ هائل من الأوجاع النفسية والروحية، كأنهما مقيمان في سجن يطاردهما في عيشهما وأحلامهما «أو بالأحرى كوابيسهما». جدران السجن مفتوحة على فضاء حرية الشاب الروماني سيلفيو في فيلم سربان، لكن حضور والدته ورغبتها في اصطحاب شقيقه الصغير خارج البلد أثقلا عليه كثيراً، فإذا بالانقلاب يقع، وإذا بالغضب المبطّن ينفجر، وإذا بالتمرّد على كل شيء سيّد الموقف. أما «جنتلمان» مولاند فظلّ سجين خيباته وفشله في الانتفاض على ماضيه واستعادة أجمل ما فيه.

غالب الظنّ أن تحليلاً كهذا يبقى قاصراً عن إيفاء المضامين الدرامية حقّها، لأنها لاتقف عند حدّ إنساني معيّن، بقدر ما تتيح للمُشاهدين فرصة البحث في معاني الحياة والموت، والواقع والوهم، والحقيقيّ والمتخيّل، والذاتي والجمعي، والانفعالي والعقلي. أسئلة متشعّبة، صاغها المخرجون بحرفية بديعة في جعل الصورة والصمت - غالباً - أداتين أساسيتين في تحقيق الأفلام وسرد الحكايات. علماً أن الموسيقى مخفّفة، والاهتمام بالصورة وأبعادها وقدراتها الإبداعية على التعبير أقوى، وإدارة الممثلين واضحة، خصوصاً أن فيلمي «نبي» و«إذا أردتُ أن أصفّر، سأصفّر» قدّما ممثلين شابين هما طاهر رحيم وجورج بيستيريانو، برعا في تأدية الشخصيتين بحرفية لافتة للانتباه. أما ستيلان سكارسجارد، المحترف والمعروف في هوليوود أيضاً، فبدا رائعاً في شخصية القاتل الباحث عن طريقة لإعادة ترميم حياته كلّها، والساعي إلى نوع من المصالحة مع الذات «الجنتلمان».

-----------------------

ليسَ لي بالذي تقولينَ علمُ
لا وعينيكِ فالحكايةُ وهمُ
نَشَرَ الحاسدونَ هذي الأقاويل
وياليتهم مدى العمر بُكْمُ
أنتِ مازلتِ في فؤادي تُقيمينَ
وتَصْديقُك الإشاعات ظُلْمُ
هَلْ يفيدُ الهروبُ من أسرِ عينيكِ
وفي كل نظرة منك سَهمُ
عَلََمَ الله كَم أعاني من البُعد
وكم شفَّني من الوجدِ سقمُ

أحمد السقاف

 

 

نديم جرجوره





«السارق» في فيلم الألماني بنجامن هايزنبيرج





مشهد من «الجنتلمان» للنروجي هانز بيتر مولاند





طاهر رحيم في مشهد من «نبي» للفرنسي جاك أوديار





جورج بيستيريانو في مشهد من «إذا أردتُ أن أصفّر، سأصفّر» للروماني فلوران سربان