د. شاكر خصباك... وعلي المقري

. شاكر خصباك... وعلي المقري

لا يمكن أن ألوم النقاد إذا كانت كتبي لم تصل إليهم

  • في لقاءاتي برائد القصة محمود تيمور في مقهى الجمال كان يغمرني بعطف أبوي بعد وفاة ابنه
  • بالرغم من شهرة محفوظ في أواخر الأربعينيات فقد أسرني بتواضعه وبعده عن الغرور
  • لم أتجن على شخص زكي مبارك فقد اهتزت شخصيته في أواخر أيامه نتيجة الإحباط
  • أنا أكثر جغرافيي العرب إنتاجا وترجمة لجغرافيي العالم ولايعرفني أحد لأنني أربأ بنفسي عن شهرة مزيفة

يمثل الأستاذ الدكتور شاكر خصباك تجربة خصبة في مجال الأدب والجغرافيا والتاريخ. وهي تجربة بدأت مع أبرز روّاد الأدب الحديث في أربعينيات القرن الماضي، حيث عاصر الكثيرين منهم، بل يعد من أوائل من نوّهوا حينها بأهمية كتابات نجيب محفوظ ومستقبله المتميّز.

شاكر خصباك الملقب بشيخ الجغرافيين العرب، والذي ألّف الكثير من الدراسات عن الجغرافيا لدى العرب، وله عشرات الكتب في القصة والرواية والمسرح، واهتم بشكل مبكر بالقضية الكردية، يتحدث في هذا الحوار عن أدبه، وتجربة حياته الأولى، وذكرياته مع كبار الأدباء العرب، ونظرته الحالية للمسألة الكردية في ضوء التحولات التاريخية. يحاوره الروائي والشاعر اليمني علي المقري الذي صدرت له روايتان، وأربع مجموعات شعرية، وكتب أخرى.

  • في سيرتك الأدبية تشير إلى أهمية قراءاتك الأولى وتذكر مجلة «سمير التلميذ» المصرية التي كانت أوّل اتصال لك بعالم الأدب والقصة، فيما كنتَ حينها في الثامنة من عمرك، ثمّ مجلة «الرواية» التي بدأت بعد سنتين تقرأها، وكان يصدرها أحمد حسن الزيات في القاهرة إلى جانب «الرسالة». هل يمكن أن تستذكر أبرز ملامح فترة نشأتك الأولى في عراق ثلاثينيات القرن العشرين، حيث ولدت عام 1930، في جوانبها الاجتماعية والثقافية؟

- لابد أن أذكر أولاً أن العراق كان قد نال استقلاله التام عن بريطانيا في العام 1931 واعترفت به عصبة الأمم كدولة مستقلّة ذات سيادة. ولقد نشأت في جو مشبع بالوطنية، وبنزعة قوية للنهوض بالعراق ثقافياً واجتماعياً؛ فكان هناك اهتمام بالغ بالتعليم. وكانت المدارس مؤسسات تربوية تعنى بمختلف جوانب الثقافة. كل مدرسة مزودة بمكتبة، وفيها أنشطة موسيقية ورياضية، وكانت تعقد أسابيع ثقافية يتبارى فيها الطلاب؛ وقد أنشئت مكتبة عامة في مدينتي (الحلة) وأنا مازلت في الصف الثالث الابتدائي. واعتبر العراق يومها من أهم أسواق الكتب والمجلات المصرية، وكان أخي الأكبر الدكتور جعفر يوفر لي أهم المجلات والكتب. وشجعتني هذه الأجواء على الاهتمام بالقراءة، ثم على النشر وأنا في مرحلة الدراسة المتوسطة، ففي الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي صدرت الكثير من المجلات والصحف ليس في بغداد فحسب، بل وفي العديد من المدن الإقليمية.

  • مع أنّك نشرت أول مجـمـوعـــاتك القصصية «صراع» العام 1948 ولم تتوقف عن النشر، فلك خمس عشرة رواية، وثماني عشرة مسرحية وثلاث مجموعات قصصية، إلاّ أنّنا لا نجدك حاضراً في الكتابات النقدية الحديثة، وفي ندوات الأدب والإعلام. هل نشاطك الأكاديمي، الذي بقيت مخلصًا له كأستاذ في الجغرافيا وإصدارك الكثير من المؤلفات والترجمات (أكثر من 20 كتابًا) في هذا المجال، هو السبب؟ حيث شهرتك العلمية وصفتك كعالم - كما قال الدكتور عبد العزيز المقالح - قد جنت على منجزك الأدبي؟

- يبدو أنني قد نلت فعلاً سمعة طيبة كجغرافي في وطننا العربي، وأكافأ على نشاطي العلمي بالذكر الطيب أحيانًا من بعض الجهات، لكن المؤسسات الرسمية العربية تغدق الجوائز والألقاب على أشخاص لا يملكون إلاّ القليل من التميّز العلمي، فأنا مثلاً أكثر الجغرافيين العرب اهتمامًا بدراسة التراث الجغرافي العربي، فلي كتاب عن رحلة ابن بطوطة، وكتب كثيرة في الجغرافيا العربية، وتراث العرب الجغرافي، إضافة إلى أنني أزعم أنني أكثر جغرافي عربي ترجم أمهات الكتب العالمية لأكبر أساتذة الجغرافيا في العالم. مع هذا، هل سمعت على الصعيد الرسمي من يتحدث عن هذه الجهود؟ هكذا، فإن شهرتي العلمية تكاد تقتصر على المختصين. أتدري لماذا؟ لأنني لا أطبّل لنفسي، وأزمّر، كما يفعل البعض؛ والشهرة لا تأتي عادة إلا عن طريق ذلك، ولها أساليب خاصة بها أربأ بنفسي عن اتخاذها. وما ينطبق عليّ كجغرافي ينطبق عليّ كأديب، وإن اختلف الأمر في بعض النقاط. فعدم حضوري في الكتابات النقدية الحديثة وفي ندوات الأدب ومؤتمراته، كما ذكرت، يعود إلى ابتعادي عن محيط الإعلام، وزهدي في الشهرة، وتعرف أن الاهتمام بالإعلام يحتاج إلى وقت وجهد واتصالات مستمرة بالآخرين، وأنا لا طاقة لي على ذلك، ولا يتسع وقتي للمؤتمرات الأدبية، والتي هي في بلداننا، سواء كانت مؤتمرات أدبية أو علمية، ليست مجدية في شيء سوى الدعاية والولائم، إذ لا يتاح فيها مناقشة القضايا المطروحة بجدية.

  • في مراجع سيرتك الأدبية لوحظ أن كتابك الأول تناوله حين صدر (1948) أكثر من عشرين ناقدا وكاتبا، فيما لا نجد الاهتمام نفسه بكتبك خلال العقود الأخيرة، أليس بقاء أعمالك الأدبية في المنحى الواقعي بتعبيره عن الاجتماعي أكثر من الفني هو الذي أدى إلى تجاهلها من النقاد الذين ظلّوا يهتمون بالكتابات ذات المنحى التجريبي الفني؟

- نشرت كتبي الأخيرة في دار نشر يمنية، ضعيفة في التوزيع والإعلام، وبالتالي لا يمكنني أن ألوم النقاد والمعنيين بالأدب عن عدم التحدث عنها مادامت لم تصل إليهم أصلاً، وأنا لم أقم بأي جهد في إيصالها إليهم. أمّا عن أدبي فله طابع جدي، فمنذ بدأت الكتابة في صباي وضعت نصب عيني أن يكون أدبي جادّاً، وأن يكون في خدمة الإنسان المسحوق، وحربًا على الطغيان والديكتاتورية، وكل ما يمس كرامة الإنسان، ومثل هذه المواضيع لا تجتذب القارئ الاعتيادي الذي ينشد التسلية والترويح عن النفس. وأسلوبي متجدد باستمرار وإن ابتعد عن (الصرعات)، أو(الغرائبية) التي تحسب خطأ على تجدد الأديب وحيويته ونجاحه.

  • كثيرة هي الوجوه الأدبية التي رافقت سنوات حياتك الأولى وتأثرت بها، لكنّ أوّلها كما يبدو هو محمود تيمور الذي بدأت الكتابة عنه العام 1945ومراسلته وأنت في العراق. وكذلك بالنسبة لأدباء آخرين عاصرتهم كسهيل إدريس ورئيف خوري، هل يمكن استرجاع أوجه علاقتك المبكرة بهؤلاء؟

- لقد بدأت علاقاتي مع الأدباء العرب في وقت مبكر من حياتي فعلاً. طبعاً، كانت هذه العلاقة عن طريق المراسلة، ولم يكن أحد منهم يعلم أنني تلميذ في الإعدادية، وفي الخامسة عشرة من عمري، ذلك أن هذه العلاقة بنيت على ما كنت أكتبه عن أدبهم. وكانت تلك الكتابات المنشورة في المجلات العراقية والعربية، على ما يبدو، تحوز رضاهم وإعجابهم، ومن تلك المجلات «الرسالة» المصرية، و«الأديب» و«الطريق» و«شهرزاد» اللبنانية. ولذلك كان بريدي يشمل دائماً الكثير من الكتب التي كانوا يرسلونها إليّ حال صدورها. وفي مقدمتهم محمود تيمور الذي كان يعد في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي من أبرز كتّاب القصة في العالم العربي، إن لم يكن أبرزهم على الإطلاق. بدأت علاقتي بتيمور منذ العام 1945، وكنت قد كتبت عنه مقالاً في إحدى المجلات العراقية بعنوان (محمود تيمور رائد القصة العربية)، وأرسلته إليه على عنوانه الذي كان يسجله في كتبه، وفوجئت بعد أسابيع بمجموعة ضخمة من كتبه تصل إلى عنواني البريدي مع إهداء بخطه. ومن حينها اتصلت بيننا المراسلات، إلى أن سافرت إلى القاهرة في أواخر العام 1948 للدراسة في جامعتها (جامعة فؤاد الأول)، وطوال إقامتي هناك كنت ألتقي به أسبوعياً في (مقهى الجمال) في شارع محمد فريد- على ما أتذكر- وكانت لقاءاته يحضرها عدد من الأدباء والمستشرقين، وغمرني أيّامها بعطف أبوي كأنني ابن له، حتى ظننت أنه يجد فيّ تعويضاً عن ابنه الوحيد الذي كان قد توفى.

  • تعد من أوائل من نوّهوا بتميز أعمال نجيب محفوظ المبكرة، ففي مجلة «البطحاء» العراقية عدد 11من سنتها الأولى 1946 كتبت مقالاً عنه انتقدت فيه ضعف النقد الأدبي وتهافت النقّاد على الأدباء اللامعين، وعدم التفاتهم إلى الأسماء الجديدة والمغمورة، ومن هذه الأسماء نجيب محفوظ الذي كان قد بدأ ينشر قبل تسع سنوات من حينها. وقلت إن قصص هذا الكاتب، الشاب يومها، ورواياته «تبشّر بعبقرية قصصية مبدعة وبمستقبل أدبي عظيم»، وأنّه «سيتحف الأدب العربي، بمرور الأيّام بآثار باقية تخلّد اسمه للأجيال القادمة». ما هي الجوانب التي أثارت انتباهك في أعمال محفوظ الأولى، ودعتك إلى أن تكتب (مبشّرا) بمستقبله، على هذا النحو؟

- كانت أولى معرفتي بكتابات نجيب محفوظ على صفحات مجلة (الرواية) المصرية التي كان يصدرها الأديب الكبير أحمد حسن الزيات مع شقيقتها (الرسالة)، فاجتذبت قصص محفوظ انتباهي ببراعته في التقنية القصصية، وبلقطاته اللماحة عن الحياة اليومية، وإن لم أوافقه على الكثير من مواضيعها، وكان بارعًا على نحو الخصوص في رسم شخوصه. وأعجبت برواياته التاريخية الأولى «رادوبيس» و«كفاح طيبة»، من خلال نقله القارئ إلى أجواء الحياة الفرعونية القديمة، وتقديمه لشخصيات تتحرك على الورق، كأنها انبثقت لتوّها من الحياة الواقعية.

تواضع نجيب محفوظ

  • ما الذي لا تنساه من ذكرياتك مع محفوظ، في أثناء اللقاء الأسبوعي لجماعة، أو شلّة «كازينو أوبرا»؟

- عرفت نجيب محفوظ في وقت مبكر، وتواصلت المراسلات بيننا قبل لقائه في القاهرة التي وصلت إليها للدراسة العام 1948، حيث أصبحت علاقتنا أكثر حميمية، وكنت ألتقيه، في كازينو أوبرا الواقع في ميدان إبراهيم باشا، كل أسبوع تقريباً، في صباح كل جمعة، حتى تخرجي في الجامعة العام 1951، وكان يحضر هذه اللقاءات بصورة دائمة: عبدالحميد جودة السحار، علي أحمد باكثير، عبدالحليم عبدالله، الروائي عادل كامل، والقصاص محمد عفيفي. وكان يحضر أيضا، بين حين وآخر، أشخاص آخرون، مثل: يوسف السباعي، محمود البدوي، أحمد عباس صالح، المخرج صلاح أبو سيف، والممثل يحيى شاهين. كان نجيب محفوظ يتميّز عن الجميع بخفة دمه، وبالابتسامة المشرقة التي لا تفارق وجهه، وكان حينها في أواخر الأربعينيات من عمره. وقد أسرني بدماثة خلقه وتواضعه الجمّ، فبالرغم من أن شهرته الأدبية كانت قد بدأت تتعاظم في أواخر الأربعينيات، لكنه ظل الشخص نفسه، البسيط والمتواضع، البعيد جداً عن الغرور والكبرياء. وأذكر أنني سألته يومًا: لماذا لا تترجم رواياتك الرائعة إلى اللغات الأجنبية يا أستاذ نجيب؟ فأجابني بتواضعه المعهود: لا أعتقد يا شاكر أنها تستحق الترجمة، فهي تتحدث عن مشاكل محلية في المجتمع المصري، لا تهم الناس في العالم الغربي.

  • هل صحيح أن عبدالحميد جودة السحار هو من ساعد محفوظ في نشر أعماله بعد أن رفضها عدد من الناشرين؟

- مصدر جوابي الكاتب الكبير المرحوم عبد الحميد جودة السحار نفسه، الذي أخبرني أنه كان قد فكر مع أخيه سعيد جودة السحار في تأسيس دار للنشر تتولى نشر كتابات الأدباء الجدد، الذين كانوا يجدون صعوبة في نشر مؤلفاتهم، وكان نجيب محفوظ حينها ينشر قصصه على صفحات المجلات، وخصوصًا مجلة «الرواية»، فلفت انتباه محبي الأدب القصصي. سعى السحار إلى التعرف إليه وفاتحه في نشر رواياته، وكان يحتفظ يومها في أدراج مكتبه بثلاث روايات تنتظر النشر بعد أن رفضها الناشرون. وظهرت بالفعل أولى رواياته «رادوبيس» في عام 1943والتي تولت نشرها ما سمّي حينها «لجنة النشر للجامعيين»، والتي صار اسمها في ما بعد «مكتبة مصر». ولجنة النشر هذه هي التي تولت نشر أعمال باكثير، ونشرت ثاني مجموعة قصصية لي «عهد جديد» عام 1951. وقد أكد لي المرحوم السحار أن روايات محفوظ الأولى كانت بالكاد تسد نفقاتها. وقد ظل نجيب محفوظ مخلصًا لهذه الدار، ولم يتحول إلى ناشر آخر، على الرغم من أنها لم تكن تدفع له مبلغًا مجزيًا، حتى بعد أن أصاب شهرة عظيمة.

  • الكثير من الوجوه الأدبية، التي عايشتها أو قابلتها، وصفتها في مذكراتك بكلمات وآراء لافتة مثل: توفيق الحكيم، طه حسين، الزيات، بنت الشاطئ، السباعي، محمود البدوي، مهدي المخزومي، علي جواد الطاهر، عبدالمجيد لطفي، غائب طعمة فرمان، باكثير، محمد عبدالحليم عبدالله، فتحي غانم، إحسان عبدالقدوس، أحمد بهاء الدين، نعمان عاشور، يوسف الشاروني، أنور المعداوي، أحمد عباس صالح، عبدالرحمن منيف؛ لكن ما يلفت القارئ أكثر أنّك قدّمت صورة مغايرة لشخصية زكي مبارك المشهور بلقب الدكاترة وبموسوعيته الثقافية، فقد أظهرته شخصية هذيانية بفكر مشتت وآمال خائبة، مع أنّ ذلك كان من خلال لحظات عابرة شاهدته فيها؟

- سؤالك هذا يا أخ علي يوحي بأنني قد تجنيت على هذه الشخصية الكبيرة متعمّدًا، وهذا أمر غير صحيح، فقد كنت أجلّ هذا الكاتب والباحث الكبير، ولا يمكن لأحد أن ينكر أهمية كتابه، مثلاً، عن التصوف الإسلامي، وكذلك دراساته الأدبية الأخرى، لكن المشكلة أن زكي مبارك أصيب في أواخر حياته بالإحباط فاهتزت شخصيته. ومرجع هذا الإحباط أنه لم يحقق من النجاح والشهرة ما حققه زملاؤه، وخصوصًا الدكتور طه حسين الذي كان يحسده على مكانته الأدبية والاجتماعية. وقد أثّرت تلك الخيبة على شخصيته، ولمست ذلك بنفسي حين رأيته في مقهى صغير في ميدان التوفيقية أواخر العام 1949، وكان جالساً وحده في وضع مزر في ملابسه وهيأته، يتناول ما يناوله النادل ويرفع عقيرته بالغناء بين حين وآخر. كما حضرت له محاضرة عامة عن الضحك، فإذا به يتحدث عن كل شيء إلاّ عن الضحك. وكان ينتقل من موضوع إلى آخر من دون أي رابطة، وهذا هو حال مقالاته في أعوامه الأخيرة التي كان ينشرها أسبوعيًا في «البلاغ» المسائية. ولهذا لم أنقل عنه إلاّ الصورة الواقعية التي شاهدتها بنفسي، وإنني أجلّه شأنك.

الحل العقلاني لمشكلة الأكراد

  • كنت من أوائل المهتمين بالمشكلة الكردية، وكتبت عنها ثلاثة كتب أوّلها «الكرد والمسألة الكردية» 1959. كيف تنظر الآن إلى القضية الـــكـــردية فـــي مــربــّعــها العراقي، السوري، الإيراني، والتركي، في ظل المتغيرات الإقليمية والعالمية، وهل دعوتك المبكرةً لمنح الأكراد الــحــكم الـــذاتي مـازالت ممكنة؟ أم أن أطروحات أخرى هي التي صارت ملحة الآن؟

- المشكلة الكردية معقّدة في الماضي وفي الحاضر، والأكراد قوم مظلومون. فهم قومية متميّزة لها سماتها العرقية واللغوية الخاصة بها. يتوزعون في دول عديدة أبرزها تركيا ثم إيران ثم العراق ثم سورية، وهناك أقليات كردية، أيضًا، تعيش في جورجيا، وفي أماكن مجاورة أخرى، وهم جميعًا مسلمون، وليس هناك أكراد مسيحيون، كما حاول أن يشيع بعض المستشرقين. تبنوا الديانة الإسلامية منذ عهد الخليفة عمر، وعاش معظمهم في القرون الأربعة الأخيرة ضمن الدولة العثمانية. وكانوا يطمحون في أعقاب انهيار الدولة العثمانية في الحرب الكبرى الأولى - شأنهم شأن القوميات الأخرى التي عاشت ضمن السيطرة العثمانية - إلى تكوين دولتهم الخاصة بهم، غير أن الدول المتحالفة وعلى رأسها بريطانيا وفرنسا كانت قد خططت لتقاسم تركة الرجل المريض (الدولة العثمانية). فكان نصيب الأكراد الذين يقطنون ما كان يسمى بولاية الموصل، في عهد العثمانيين، أن يقعوا تحت النفوذ البريطاني ضمن دولة العراق الجديد، بينما احتفظت تركيا الحديثة بزعامة أتاتورك بالجزء الأكبر من الأكراد الذين يقطنون في الجزء الجنوبي الشرقي من تركيا. والواقع أن أكراد ولاية الموصل الذين أصبحوا جزءاً من دولة العراق الحديث ظلوا لسنوات عديدة موضع أخذ ورد بين تركيا والعراق، حيث طالبت تركيا بضمّهم إليها، ثم اتفقت تركيا والعراق، أو على الأصح بريطانيا التي كانت تحكم العراق حينها، أن يترك لهم حق تقرير المصير والخيار بين بقائهم مع العراق أو الانضمام إلى تركيا. وأجري الاستفتاء على ذلك تحت رعاية عصبة الأمم في العام 1926، فاختاروا بالأغلبية البقاء مع العراق. وهكذا تقرر مصير أكراد العراق. لكن عصبة الأمم اشترطت على الحكومة العراقية يومها أن تفي بالتزامات معينة تجاههم تضمن حقوقهم القومية. وفي الحقيقة أن الحكومة العراقية أوفت ببعض تلك الالتزامات ولكنها قصّرت، أيضًا، بالتزامات كثيرة أخرى، مما أثار السخط وعدم الرضا في نفوس الأكراد، فقاموا بثورات عديدة للمطالبة بحقوقهم القومية. فكانت هناك اضطرابات مستمرة في المنطقة الكردية، أو ما كان يطلق عليها رسميا (الشمال)، وكانت تجيّش لهم الجيوش وتقصف قراهم بالقنابل، وأطلق على تلك الحملات العسكرية اسم (الحركات في الشمال). وكان الأكراد يشكون دائما من تخلّف اقتصادي كبير، وإهمال في الخدمات التعليمية والصحية. ومما زاد في عدم رضاهم شعورهم بأن الجزء الأعظم من موارد العراق المالية كانت تتحصل من البترول الذي يستخرج من منطقتهم. هذا هو الحال بالنسبة للجانب الحكومي، أما في الجانب الشعبي فأذكر أن العرب العراقيين لم يشعروا يوماً أن الأكراد قومية دونهم، بل إن غير المتعلّمين منهم كانوا يتصورونهم جزءًا من العرب يتكلّمون لغة أخرى، وأن شكاواهم هي جزء من شكاوى سكّان البلاد عمومًا. أمّا المتعلمون فكانوا يدركون أن الأكراد قومية أخرى من القوميات التي يتكون منها نسيج الشعب العراقي. لكن مهما كان هناك من قصور في التعامل مع الأكراد على الصعيد الرسمي أو الشعبي فلم يبلغ ما بلغه في تركيا أولاً، وفي إيران ثانيًا. فقد ظلت الحكومات التركية المتعاقبة حتى اليوم تنكر أن الأكراد قومية مستقلّة وتطلق عليهم اسم (أتراك الجبال)، بل كانت تحرّم عليهم أبسط حقوقهم الإنسانية، مثل ارتداء زيّهم التقليدي أو التحدث والتعلم بلغتهم. وقد قاموا بثورات عديدة في عهد أتاتورك فقمعت بقسوة بالغة. وأمّا إيران فلا تعترف بوجود أكراد أصلاً، وتعتبرهم شعبا من الشعوب الإيرانية الإسلامية. وعموما فإن حكّام البلدان المعنية ينظرون إليهم كأقلية ليس من حقّها فرض شروطها. وغاب عنهم أن الأكراد ليسوا قوما وافدين على سكان المناطق التي يعيشون فيها، بل هم سكان البلاد الأصليون ولهم كامل الأحقية في بلدهم.

وأنا كعربي عراقي أؤمن بأن الأكراد شركاء للعرب في وطنهم العراق، وأن فرض حلّ عليهم بالقوة لن يجدي البلاد نفعاً بل يضر بالأكراد والعرب على حد سواء.

ولهذا فإن دعوتي لمنح الأكراد حقهم في الحكم الذاتي والتي أعلنتها قبل حوالي خمسين عاماً، لاتزال قائمة، ومازلت أعتقد أن انفصال أكراد العراق عن الدولة العراقية يضر بهم أكثر مما يضر بالعرب، أمّا مستقبل الأكراد فهو في ضمير الغيب. ولن يقف العرب بالتأكيد ضد مطامحهم في خلق دولة قومية شاملة تضم جميع الأكراد، حينما تسمح الظروف الدولية بذلك. وينبغي أن يطبق هذا الحل على جميع الدول التي يوجد فيها الأكراد بأعداد كبيرة. ومن المؤكد أن هذا الحل لن يكون عاملا في تفكيك تلك الدول، بل عاملا من عوامل قوّتها ولحمتها، وهو الحل العقلاني الوحيد لمشكلة الأكراد في العهد الحاضر.

-------------------------

عَصَفَ الهَوَى بحصَافَتي ووقَارِي
فَكَشَفْتُ بعد تكتّمي أَسْراري
بأبي التي َملكت عليَّ مشاعري
بجمالِها ودلالِها السَّحارِ
الكَاعِب المكسالُ تُرفل في السَّنَى
وتضوعُ عن أرجٍ لها فوَّارِ
سارقتُها النظرَ الخجولَ فسدَّدتْ
سَهماً فكنتُ كلاعبٍ بالنارِ
فإذا الفُؤادُ صَريعُها ولطالما
صرعتْ خليَّ القومِ ذاتَ سوارِ
والمرءُ إنْ لقيَ الغرام مبكراً
لقي العذاب وعاشَ رَهْنَ إسارِ

أحمد السقاف





علي المقري محاورا الدكتور شاكر خصباك





جلسة أدبية تجمع بين نجيب محفوظ في يمين الصورة وشاكر خصباك في يسار الصورة





 





محمود تيمور





 





 





نجيب محفوظ