الاستشراق.. نظرة موضوعية حازم صاغية

الاستشراق.. نظرة موضوعية

بعيدا عن أسطورة العداء للعرب والاسلام

حين يتم إبعاد الاستشراق عن السياسة ويعاد إلي موقعه الفعلي في تاريخ المعارف الإنسانية يصير في وسعنا أن ننظر إليه في موضوعية وأن نضع إخفاقاته ونقائصه في سياقها بعيدا عن أساطير "العداء للعرب والإسلام".

إن مـا حصـل التعـارف على تسميتـه بـ "الاستشراق"، لا يجوز التوقـف في تاريخه عند القرن التاسع عشر، لحظة مأسسته (تحويله إلى مؤسسة) مـع انعقـاد المؤتمر الأول للمستشرقين في 1873، وإن كـان الـذين يتـوقفون عنـد القرن المذكـور، يرون في الاستشراق تجسيداً لنزعـة غربية متأصلـة وأقدم زمنـاً بكثير!

فالتزامن بين دخولـه طور العمـل المؤسسي وبين عصر الإمبريالية، لا يلغي أن جذوره ومقدماتـه قائمة منـذ بـدايـات التعـارف والاتصـال بين "الشرق" و"الغرب"، دون أن يسبـغ على تلك المقدمات النوايا الشريرة المنسوبـة إليها، ودون أن ينفي، في المقابـل، واقع اتساع الاحتكـاك الإنسـاني الحاصل في القرن التاسـع عشر. ولما كان هذا الاتسـاع محكوماً بقوة أوربا الداخلية، اقتصـادياً وتنظيمياً، وناجماً عنهـا، بدا من الطبيعي أن يتقاطع تعاظم الاحتكاك مـع نشأة السيادة الأوربيـة، لا سياسيـاً واستراتيجياً فحسـب، بل قيميـاً وتصـورياً أيضـاً. أما المسـارات اللاحقـة على القرن التـاسع عشر فيصعـب تلخيصها في وجهة وحيدة أو قاطعة، بطبيعة الحال.

ما نزعمـه أن البدايات لم تنفصل عن تيـارات فاعلة في تاريخ أوربا نفسها، كالتحـدي الذي شكلته إسبانيا والحضور الثقافي الإسـلامي هناك، ومعرفة المغلوب (الأوربي) بثقـافة غالبة ولغتـه ونمط عيشه، واتصـال الأوروبيين باليونـان مـن طريق الثقـافة الإسلامية وظهور المشكلة الـدينية اليهـودية- المسيحيـة في أوربا، وبحث المسيحيين عن حجج لاهوتيـة ضد اليهـودية، فضلا عـن هدف المسـاجلة مـع الإسلام، في عـالم كان الدين لا يزال يشكل مرجعه الدلالي، الأول.

وكان كلما اتسع العالم وتحذلقت معـارفه، تبعا لتزايد الاتصال، بما قد يشمله من سجال أو حروب أحيانا، اتسع الميدان المتاح لمزاج الفنان والرحالة الغرائبي والحاج المؤمن والفضولي الباحث عن اكتشاف جديد.

ويلخّص مكسيم رودنسون بعض تلك التيارات الفاعلة في التاريخ الأوربي لحظتذاك، معتبراً أنه:
"فتح باب جديد منذ القرن الحادي عشر، لميدان لا يرتبط بالدين بصورة مباشرة ولكنه يمسه بصورة غير مباشرة، وهو ميدان الفلسفة والعلوم التجريبية، التي أخذت شيئا فشيئا تغير صورة العربي المسلم، خصوصا بعد أن تعرف الغرب على العلماء العرب والمسلمين، وبعد أن تمت ترجمة أمهات الكتب في الفلسفة والطب والفلك والرياضيات، ولا سيما بعد فتح طليطلة من قبل العرب في 1085، حيث أصبحت مركزا علميا وثقافيا.

وبطبيعة الحال ففي عالم يهيمن عليه الدين المسيحي، دون أن تتطور معارفه العلمية إلى الحد الذي يتحدى رؤيته الدينية للكون، ظهرت صور متحيزة ضد الإسلام، كتلك التي عبر عنهـا سوذرن الذي تأثرت كتاباته "بمصادر تاريخية غير علمية وموضوعية"، كما اعتمد على "الرأي الشعبي" أساسا.

ما بقي من الحروب الصليبية

الحقيقة أن الأمور لم تكن، حتى في ذلك الحين، ولا كانت أبدا، ذات وجهة واحدة. صحيح أن أدبيات الحروب الصليبية صيغيت في قالب من التعصب ضد "الكفار" و "الوثنيين" المسلمين، لكن هذا لم يمنع ظهور صورة إيجابية لصلاح الدين الأيوبي، الفارس الشهم والنبيل الذي تحاك الأساطير عن هيام نساء القصور في أوربا به، ولا هو منع ظهور "مستعمرة عربية" أقامها في إيطاليا في النصف الأول من القرن الثالث عشر، فريدريك الثاني المحب للمسلمين والمعجب بثقافتهم وحضارتهم، أو قيام رحالة أوائل كفريدريك بربروزا الأول، في أواخر القرن الثاني عشر، بالعيش بين البدو وإقامة صلات طيبة بهم.

وكان من العلامات المبكرة على الرغبة في كسر النظرة الأحادية التي سادت، بنتيجة سيادة الفكر المسيحي، أنه بعد أن طبعت رحلة لودفيغ فون زودهايم باللاتينية عام 1468 ولاقت رواجا في أوربا، قام لورنس روفولف برحلته في الربع الأخير من القرن السادس عشر، فحين كتب نتائج هذه الرحلة، المتعاطفة مع المسلمين وأنماط عيشهم، طرد من وظيفته في أكسبورغ بألمانيا، لتعارض ما كتبه مع المعايير المألوفة يومها.

ويبقى من اللافت أن تعابير الجهل، المعززة بضآلة الاحتكاك وضعف الاتصال، والتي لم تنفصل عن نظام القيم الديني المغلق، هي ما تعدت الموقف من الإسلام إلى الموقف من أصحاب الفرق والمذاهب المسيحية الأخرى، من آريوس ونسطوريوس إلى لوثر. فالعالم كله كان مديناً وسجاله كله كان دينيا لا يشوبه قدر من التسامح، فيما المبدأ السائد إنما هو مبدأ لاهوتيي القرون الوسطى، القائل أن "ما من خلاص خارج الكنيسة" لكن هذه العملية المديدة أثمرت اكتشاف "ألف ليلة وليلة" وحكايات شهـرزاد وعلي بابا وسندباد البحري، فترجمت ألف ليلة وليلة ترجمتها الأولى التي قام بها أنطوان غالان وقدمها إلى الملك لويس الرابع عشر، في أوائل سنوات القرن الثامن عشر، وفي وقت لاحق رأينا الشعراء الرومنطيقيين الإنجليز يفصحون عن تأثرهم بها، خصوصا منهم اللورد بايرون، مثلما أثرت في الألمان وصولا إلى غوته، على ما بات معروفا جيدا

لقد كانت الرغبة في الوقوع على الاختلاف باعثا محركا لهذه الوجهة. والرغبة في الاكتشاف تنشد تلقائيا، وتعريفا، إلى الغريب نسبياً، وإلى غير المألوف تماماً، نظراً لضآلة ما هو قابل للاكتشاف في المتشابه والمتماثل. بيد أن العملية إياها، عملية الصعود الأوربي نحو درجة أعلى من الكونية، لم تقتصر على الغريب والمثير للدهشة، من غير أي انتقاص من أهمية هذا وذاك.

ففي سياقها اكتشف الأوربيون أرسطو من خلال الترجمات العربية له، كما اكتشفوا ابن سينا. وكان اكتشاف اليونان في القرن الثاني عشر بداية المسيرة الطويلة الآيلة إلى تراجع التأثير الديني في أوربا نفسها، وصولاً إلى مراجعة الفكر اليوناني عينه، والانبثاق المعقد والمتضارب للحداثة تالياً. وإنما بسبب هذه الوجهـة المعرفية والاكتشافية البادئة مذاك، كرت سبحة الأحداث التي لم يعد ينفصل عنها أي تأريخ للتثاقف بين شعوب الشرق والغرب.

لقد سار اكتشاف "الغرب" العالم الإسلامي في موازاة تطوره هو نفسه، بما اشتمل عليه التطور من تراجع النظرة الغيبية فيه، ونشأة القوة التي أفضت، لاحقا، إلى الاستعمار. ويتحدث رودنسون مطولاً عن المسار العام الذي عكس ظلاله وتأثيراته على عناصر لا حصر لها، إذ وجد "عامل مهم جدا" تمثل في "الرغبة بتوسيع الهيومانيزم [النزعة بالإضافة إلى الحضارات الإنسانية للنهضة] الإغريقي الروماني، لكي يشمل، بالإضافة إلى الحضارات النموذجية الكلاسيكية، أي اليونانية والرومانية والمسيحية، حضارات أخرى والتقليد والمراجعية. وهذا تشكل مصدرا للإلهام والتقليد والمراجعية.وهذا الطموح العام ناتج عن حركات ما قبل الرومنطيقية وعن الرومنطيقية، أي عن منعطف حاسم في الحساسية والعقلية الأوربية. وكما نعلم جيدا فإن هذا التيار الرومنطيقي يميل عادة إلى ما هو خصوصي، أي إلى استكشاف "العقليات القومية" بكل خصوصياتها وألوانها المحلية وغير ذلك... وهذا ما يمثل رد فعل ضد كونية القرن الثامن عشر التي كانت ترتكز على القيمة الكونية للنموذج الإغريقي- الروماني. وبالطبع فإنه، عبر هذا المنعطف، استمر العمل بالقاعدة التي ترتكز إليها الدراسات والصور السابقة للشرق الإسلامي.

علاقات يسودها الطابع الحربي

فإذا كان من غير المفهوم أن تنسحب التصورات العدائية على الحاضر والمستقبل إلى ما لا نهاية، يبقى من المفهوم، والحال هذه، أن تنشأ مثل هذه التصورات عن الطابع الحربي الذي وسم تاريخ الشرق والغرب. فالحروب الصليبية شكلت عملا اعتدائيا غربيا على الشرق، ثم باتت شبه الجزيرة الإيبيرية مهد مواجهة أخرى أسفرت عن إخراج المسلمين وتأسيس الدولة الإسبانية في أواخر القرن الخامس عشر بعد ذلك نجح الشرق، بدوره، في تشكيل تهديد فعلي لأوربا، من طريق فيينا، ما بين مطلع القرن السادس عشر والقرن الثامن عشر، وذلك يعد احتلال السلطنة العثمانية القسطنطينية في أواسط القرن الخامس عشر. ولأن العداء كان يستقي أسبابه من واقع فعلي، شرع "المسلم" آنذاك يعني العربي والتركي معا، لا العربي وحده، كما كانت الحال قبل نشوء التحدي التركي (تماماً كما أن المشاعر العنصرية اللاحقة التي أيقظتها في الغرب أزمة 1973 النفطية، قصدت بالمسلم العربي والإيراني)..

على أنه لم تنقض غير عقود تسعة على حملة نابليون في أواخر القرن الثامن عشر حتى دخل الإنجليز إلى مصر في 1882، مع ظهور الحركة الإمبريالية الحديثة وما واجهها من رفض وثورات وتمردات أهلية، وكرت سبحة الانتدابات والاستعمارات التي أعقبت الحرب العالمية الأولى وانهيار السلطنة العثمانية. وهذا التطاحن كله لم يترك للأفكار والقيم والتصورات أن تنمو في سماء صافية من غيوم تاريخ الاحتكاك الفعلي الذي ذكرنا عناوينه، خصوصاً إذا أضفنا الملاحظة التي كثيراً ما أشار إليها برنارد لويس وسواه من المستشرقين، ومفادها أن المسيحية والإسلام دينان عالميان، على عكس الأديان والحضارات الآسيوية "الإقليمية". وهكذا فإن صراع رؤيتيهما الشاملتين للكون أمر كان يصعب تلافيه في ظل الدور الكبير الذي كان يلعبه الدين، ناهيك عن القرب الجغرافي بين بلاد المسيحيين (أوربا) وبلاد المسلمين.

والشيء نفسه يمكن أن يقال عن تاريخ وتحولات العلوم الاجتماعية نفسها، وهي التحولات التي تقررت، بموجبها، أحكام وممارسات كثيرة حيال أمم وشعوب وأديان، لا خارج أوربا فحسب، بل في أوربا نفسها، وعلى تماس مع مسيحييها.

من هنا يصح في عيوب العلوم الاجتماعية، منظورا إليها من داخل تاريخها الفعلي، ما يصح في الطب مثلا، والذي ترتب على تخلفه في هذه المرحلة أو تلك، ظهور وصفات علاجية مضرة، وربما مميتة، أو ما يصح في الهندسة المعمارية التي عرفت أنماطا في البناء ننظر إليها الآن بوصفها غير متوازنة في تقديمها المشهد العام، من غير أن يكون الأطباء والمهندسون الأوائل "متآمرين" على شعوبهم.

والمحاولات الغربية في ترجمة القرآن شكلت، هي نفسها، دليلا مبكرا على كيفية التقدم البطيء والمديد من حيز يسوده الجهل والانحياز والتعصب، إلى آخر أكثر معرفة وانفتاحا في آن.

هل انتهى علم الاستشراق؟

والحق أن علم الاستشراق، تحديداً لم يعد موجودا، في الصورة المرسومة له، إلا عند خصومه. فنحن نقرأ، اليوم، كلمة "استشراق" بالعربية والإيرانية أو بإنجليزية الحركات النسوية المتطرفة وأصحاب المغالاة في النسبية الثقافية، أكثر أضعافاً مضاعفة مما نقرؤها في الأعمال الأكاديمية الرصينة الصادرة باللغات الأوربية. وحين نقرؤها في هذه الأخيرة، ترد، غالبا، كتسمية لجهد معرفي حصل في الماضي، بينما لا تزال ترد في العربية والإيرانية (والإنجليزية- الأمريكية المناضلة المسحورة بالعالم الثالث) كمشروع حاضر وقوي، ومتحفز للمستقبل. فكما أن وفادة الإسلام والشرق على المعرفة الغربية، في مسارات الاحتكار الأول، أملت تدريسهما كعلم مستقل، الشيء الذي رأي فيه خصوم الاستشراق أدلة فاضحة على العنصرية والتمحور حول الذات، فإن تطور المعارف، بالترابط مع تزايد التعارف بين الشعوب والحضارات وتوثقه، شرع يفتت دراسة الشرق ويربط أجراءها بسائر العلوم.

وربما كمن وراء الكلام على الاستشراق القوي الكبير الضخم الذي يشن الهجوم تلو الآخر، بعض الميل القومي، أو لنقل الإمبراطوري لا يرى في العالم المحيط إلا كتلا كبيرة متراصة. فهو امتداد للغرب نموذج واحدي متماسك يقف في مقابل النموذج العربي الإسلامي، ولهذا لا بد أن يصيبه من الوصف بعض الوصف الذي يضفيه العرب والمسلمون على الغرب.

لكن الواقع أن انتماء الاستشراق إلى العلم وتاريخه هو، تحديدا،، ما جعله عرضة للزوال والتبدد. وهذه النتيجة التي شكلت أهم أعمال المؤتمر التاسع والعشرين للمستشرقين، الذي انعقد في 1973 في باريس، إنما نجمت عن تفرع الاستشراق وخضوعه إلى تقسيمات العمل التي تخضع لها العلوم المتشعبة كلها. وذلك ما يلغي، بدوره، أية إمكانية للتعاطي معه بوصفه مشروعا ضخما متماسكا، هذا إذا جاز أصلا مثل هذا التوصيف على أي مرحلة من مراحله.

على أية حال بات من النادر، مثلا، أن نسمع اليوم بجهد جامع للمستشرقين، فيما تنعقد باستمرار مؤتمرات دولية للتاريخ المصري أو الآثار العراقية، أو هذا الطور المحدد من ذاك الموضوع الأشمل، فيما أدخل المستشرق الإسباني الأب فيلكس باريجا المقابلة والتمييز بين مصطلحي "دراسات عربية" و "دراسات إسلامية". هذا بينما يصل الأمر ببعضهم، في نقد عمومية مفهوم الاستشراق، إلى رفضه كليا، ومن ثم إدراج أجزائه وبلدان تناوله في انقسامات الآداب والعلوم الاجتماعية نفسها (تاريخ قديم، تاريخ وسيط، أنثروبولوجيا، علم إجتماع، علم نفس جمعي، نقد أدبي، أدب رحلة، وغير ذلك...).

وغني عن القول أن احتضان الغرب أعمالا ناقدة للاستشراق، كمقالة أنور عبدالملك أو كتاب إدوارد سعيد، علامة صريحة على كيفية التعامل السائد معه بوصفه جزءاً من التاريخ العلمي ومسائله وهمومه لا بوصفه معلومات سرية أو ساحة حرب بينه وبين الشرق.

بيد أن إدراج الاستشراق في تاريخ السياسة والحرب هو الوجه الأخر للاتاريخية التي يتسم بها نقده، جاعلا نقاده عاجزين عن رؤية مساره المرشح لأيلولته إلى الاندثار. ذلك أن الإدراج المذكور أضفى عليه، بين ما أضفاه، صفتين راسختين، وخاطئتين بطبيعة الحال: أولاهما أنه لا يزول لأن سياسات العدوان لا تزول، وهي أيضا من صفات "الغرب" في منظور العداء له، والثانية أنه لا يقبل التفرع والانشقاق إلا قليلا، وهي أيضا متفرع عن نعوت لصيقة "الغرب". فهو، إذن، وفي الحالات كافة، يشبه "الاستعمار" و"الإمبريالية" وسائر الشياطين الخالدين خلود الله في الموقع النقيض لهم.

فالسياسة، التي ترد في العرف العربي- الإسلامي السائد، إلى مواجهة متصلة مع العدو، شأن لا تاريخي بامتياز. ومن هنا فإن نسبة الاستشراق إلى هذا اللاتاريخي تجعله، هو الآخر، لاتاريخيا.

ما يقود تلقائيا إلى توحيد الشرق من قبل أعداء الاستشراق الذين يتهمون المستشرقين بذلك، بحيث يقع هؤلاء الأعداء في أسوأ ما ينسبونه لمنقوديهم من اختزال وقائع معينة الى صورة أو فرد أو عبارة أو حالة سريعة، وتنميطها، من ثم، عملاً بما اختزلت إليه وانطلاقا منه ثقافة الضغينة.

في هذا نرانا مشرعين دوما على "ثقافة الضغينة"، أو على احتمال عنصري خصب. فحين يصبح كارل ماركس، نبي الاشتراكية، ممسوسا بالاستشراق، كما يصبح ماكس فيبر كبير منظري الرأسمالية الحديثة وفضائلها، نصير وجها لوجه أمام إدانة العلم الاجتماعي الغربي بمجمله، واضعين كل شيء في سلة "الغرب" الواحدة. وحين تصح نظرة لا تتغير في اليونان القديمة، وفي "جحيم" دانتي، وفي فلوبير ونرفال، وفي الشاعر والفنان والعالم والرحالة والموظف العسكري، كما يصار إلى محو الفوارق التي يفترض بها أن تفصل بين العلوم والحقول المعرفية جميعا، إذ هي كلها "غربية"، في معزل عن تطورها ومساراتها ومراحلها الزمنية، يضحى النقد كناية عن تسجيل فوارق واهية بين عنصرية واضحة وأخر كامنة.

فنظرية الداخل (نحن) في مواجهـة الخارج (المستشرقين، ومن ورائهم الغرب)، لا يعقل إلا أن تكون عنصرية، استنادا إلى تثبيتها "زمننا" و "زمنهم"، "عالمنا" و"عالمهم"، في أوضاع جوهرية، ومن ثم توحيد العرب والمسلمين جميعا، وتوحيد الغربيين جميعا في مقابلهـم، عن طريق تحليلات قسرية لا تأخذ لا الواقع ولا التاريخ في عين الاعتبار.

الخرافية والحروب الصليبية

ولم يعد مصادفا أن من يتصدون للاستشراق يجدون أنفسهم مسوقين آليا إلى التصدي للغرب، مدينين تاريخه ومثقفيه وعلماء اجتماعه ومؤرخيه وأدباءه وغير ذلك، فالربط كامل، عند هؤلاء النقاد، بين تلك الجزئية- (الاستشراق) وذاك الكل (الغرب)، حتى ليبدو المفهومان واحدين في ماهية لا تتجسد كما تتجسد في السياسة التناحرية. وبدورهم يبغى العرب والمسلمون، في هذا العالم الذي لا يتغير، كائنا ثبوتيا لجهة تعرضه لآثار ذاك الشر المزدوج، الاستشراقي- الغربي الذي لا يعني تحول أزمنته غير " سبب يعطيه المستشرق كي يرى الشرقية الجوهرية في الشرق".

نضع جانبا، إذن، أسطورة أن الغرب اخترع الشرق صورة متوهمة ومتخيلة، ونطرح التساؤل الأقرب إلى المعقول الذي يتصل بعلاقة العرب والمسلمين بالعالم المعاصر، أي العلاقة التي بموجبها يتم تعزيز إيديولوجيا العداء للاستشراق: كيف يفهم العرب والمسلمون، في تيارهم العريض، الغرب، قياسا بفهم المستشرقين الشرق؟

تكفي العودة إلى الكتب العربية الرديئة الطباعة، بسبب التردي المهني أساساً، فضلا عن الصحف الغنية التي في العالم العربي والدياسبورا، للوقوع على صورة للغرب لا تفعل سوى الجمع بين أوسع الجهل وأسوأ النوايا وأعظم التعصب. وهذا لئن شرع يتعاظم مع أواخر الخمسينيات ليبلغ ذروته (؟) اليوم، فإن فعاليته لم تقل عن منح العرب والمسلمين القدرة على الخروج كليا من المعاصرة، وتبرير هذا الخروج. فالغرب هذا كثيرا ما يصار إلى رسمه مزيجا من خلال أخلاقي، وتفتت عائلي، وتآمر يتجسد في سيطرة يهودية على كل شيء تقريبا، وموجة إيدز مرشحة لأن تفني الحضارة الغربية برمتها، دون انتباه طبعا، إلى كارثة أن أهل "العالم الثالث"، وخصوصاً إفريقيا، هم الأكثر تعرضا لخطر هذا المرض القاتل. بالمعنى نفسه كثيراً ما يصار إلى رسم الاستشراق الذي يتفرع، وبمعنى ما، يموت، كأنه يستجمع جنوده للانقضاض على العرب والمسلمين،

مقارعة الأشباح

هذه الخرافية، التي سنتناولها بالتفصيل لاحقاً، إنما تعيدنا إلى ملاحظة سبق لأمين معلوف أن أبداها: فالمسلمون والغرب انطلقوا، مع تلك الحروب، من موقعين انطويا علي بعض الرجحان لكفة المسلمين في جوانب عدة. لكن الأخيرين مكثوا يخوضون الحروب الصليبية بعد أن كف الغرب عن أن يكون صليبيا، وصار علمانيا وصناعيا، فيما بقوا، هم، مجرد ضد للصليبيين. أو إذا استخدمنا لغة معلوف نفسه.

"لا يستطيع العالم العربي أن يصمم على اعتبار الحروب الصليبية مجرد فصل من ماض انتهى. وكثيرا ما يدهش المرء حين يكتشف إلى أي مدى ظل موقف العرب، والمسلمين بعامة، متأثرا، إلى اليوم أيضا، بأحداث يفترض أنه انتهى أجلها منذ سبعة قرون".

غير أن العيش خارج الزمن وسيولته لا يقضي إلى الاعتراف بانصرام الزمن، ولا يفت في سالعزائم، تالياً، المضي في مقارعة الأشباح، أأسميت الاستشراق أم الصليبية والحق أن القول بـ "الاستشراف" و "الصليبية" كلا واحد ما هو غير التعبير الصريح والجلف عن أن معظم العرب والمسلمين- وليس أهل "الاستشراق" - من يعاودون اختراع أوربا توهما، ومن ثم اختراع "الغرب" على هذا النحو: غربا يبقى بمثابة "عدو" لا يموت، لأن عدم موته يبرر لخصومه الحياة، بوصفهم نقائضه ومن يتصدى له. لكن أي بؤس هو توهم انتزاع الحياة من التصدي لأعداء مات بعضهم ويموت البعض الآخر.

 

حازم صاغية

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات