إحياء الحضارة العربية

إحياء الحضارة العربية

تعقيبًا على مقال «كوكب الشرق وانقراض العرب» أقول:

لقد تفضل الأستاذ الكبير الدكتور سليمان إبراهيم العسكري - رئيس التحرير بتناول موضوع، أو بالأحرى قضايا عدة من أهم قضايا الساعة، وذلك في مجلتنا رائدة المجلات العربية «العربي» في العدد 610 الصادر في سبتمبر 2009 شارحًا وموضحًا ومشخصًا حالة الأمة العربية في الوقت الراهن ومبينًا حاجتها الملحة إلى ضرورة العمل على تحقيق النهضة الشمولية والتقدم والرقي والازدهار والأخذ بثقافة العصر دون إغفال الماضي الحضاري المجيد لأمتنا العربية والإسلامية.

والحقيقة أن تذكير الأجيال الراهنة والصاعدة بالأمجاد والانتصارات والإنجازات التي حققها أسلافنا العرب والمسلمون في عصور الإسلام الأولى أو في ثنايا حركة النهضة التي قامت بها الأمة العربية بعد التحرر من الاستعمار العثماني، وما فرضه من ركود وخمول وجمود وتخلف وتأخر على الأمة العربية، التذكير بهذه الأمجاد الخالدة ليس من باب الفخر والتعلق بذيول الماضي أو التباكي على أمجادنا الخالدة، ولكن بقصد إثارة الهمة وتحفيز الشباب والعلماء الحاليين، وغرس مشاعر الثقة في نفوسهم بقدرة العقلية العربية والذكاء العربي على الخلق والإبداع والابتكار والتجديد ومسايرة حضارة العصر والأخذ منها وإعطائها، ولكن مع الانتقاء فنأخذ الصالح منها لحضارتنا ونطرح الطالح. نحن لسنا مجرد نقلة وإنما نحن - كما فعل أسلافنا- قادرون على الإبداع والابتكار وعلى الإسهام في حضارة العالم.

هذه الأمجاد يثيرها ويحرّكها ويوقظها الأعمال الفنية الجيدة والأصيلة والناجحة على نحو ما قدمته سيدة الغناء العربي أم كلثوم مدعومًا بنشاطها القومي والوطني والعربي في جمع التبرعات لمصلحة المجهود الحربي وتشجيع فكرة الوحدة العربية والاتحاد العربي والتماسك والتضامن والإخاء. وهو ما ظهر جليًا في وقفة العرب وقفة رجل واحد وأمة واحدة في حرب عام 1973. ولذلك كان النصر من نصيبهم - أين ذهبت روح أكتوبر المجيد؟

والفن ليس للفن - كما يقولون - أو ليس للتسلية والترفيه فقط، ولكن للفن رسالة قومية أصيلة. وغناء أم كلثوم كما يقول أستاذنا الكبير الدكتور سليمان إبراهيم العسكري، حفظه الله لأمته، هو توثيق فني وثقافي، وكان غناؤها أداة ناجحة فعلاً من أدوات توحيد الأمة العربية على امتدادها وبين مختلف أجيالها وفئاتهم الثقافية والتعليمية.

وما يشير إليه أستاذنا الكبير الدكتور سليمان إبراهيم العسكري من أنه «كان لنساء الكويت موقفهن البارز في هذا الاستقبال والمساهمة الكبيرة في التبرّع لدرجة أنهن خلعن حليهن ومجوهراتهن وقدمنها تبرعًا للمجهود الحربي»، والحقيقة التي يقرّها كل منصف أن هذا ليس غريبًا ولا جديدًا على أهلنا في الكويت الشقيق الذي عرف عنهم الكرم والجود والسخاء والشهامة والقومية والعطاء بلا حدود لكل أبناء الأمة العربية والإسلامية حتى الآن، وسوف يستمر نهر العطاء الكويتي إلى ما شاء الله. ويذكّرنا هذا الموقف النبيل من سيدات الكويت بما شاهدته بنفسي في السفارة المصرية في لندن حين وقعت الهزيمة، فلقد كنت أعمل هناك في أحد المستشفيات العقلية، رأيت مشهدًا لايزال راسخًا في ذاكرتي ألا وهو اندفاع عشرات النسوة، ليس فقط من العرب، وإنما جميع البلدان الإسلامية يخلعن مجوهراتهن وما لديهن من نقود للتبرّع للمجهود الحربي. كان مشهدًا رائعًا يدل على الأصالة والشهامة والتوحّد مع العرب وقضاياهم، ولكننا نقول أين نحن الآن من هذا المشهد؟

ولاشك أن فن أم كلثوم ومن عاصروها كان تعبيرًا صادقاً عن روح العصر، وعن آمال الأمة وأهدافها وطموحاتها، فشكرًا لأم كلثوم ومَن سار على دربها.

إن الحضارة العربية وإن كانت قد خمدت جذوتها أو انطفأت أنوارها، فإننا، وبكل ثقة، قادرون على إحيائها مع تطعيمها بكل ما هو جديد ونافع من ثقافة العصر الحالي، لا نبغي أن «ينقرض العرب» فهم باقون وذكاؤهم معهود ومعروف وهم قادرون على الخلق والإبداع والعطاء بلا حدود إذا أتيحت لهم الفرصة.

د. عبدالرحمن محمد العيسوي - مصر