دولة مركزية مفيد قطيش

دولة مركزية

كتاب الشهر
المؤلف: غينادي زوغانوف موسكو 1994

يعالج هذا الكتاب مجموعة من المشاكل المتعلقة بمصير إحدى أكبر دول الاتحاد السوفييتي السابق وهي روسيا والوريث الرئيسي لتركته ومشاكله. يزيد من أهمية هذا الكتاب كون مؤلفه هو الأمين العام للحزب الشيوعي الروسي، الذي جرت عملية إعادة تشكيله بعد انقلاب أغسطس 1991 والذي أصبح وبسرعة أكبر قوة سياسية روسية منظمة، وهذا ما حدا ببيل كيلنتون ووزير خارجيته للقاء بغينادي زوغانوف لدى زيارتهما موسكو في هذا العام.

أبصر الكتاب النور في أعقاب أحداث أكتوبر التي انتهت بحل البرلمان بالقوة حيث يحدد هذا المناخ هموم الكاتب، الذي يحاول تحليل المسائل الملحة للبناء الدولي الروسي وللسياسة الداخلية والخارجية الجديدة وللجوانب الروحية والوطنية. ويقترح برنامجا متكاملا لإخراج روسيا من أزمتها العميقة ولتجاوز أزمة الثقة بأجهزة السلطة حسب تعبيره. ويدعو لتوحيد مصالح أوسع الفئات بغض النظر عن قناعاتها.

في قسم أساسي يعالج المؤلف مسائل الدولة المركزية، فيشير إلى أن نتائج تفكك الاتحاد السوفييتي هي هذه الحروب المتنقلة من مكان لآخر. لذا يدعو لإعادة وصل ما انقطع - التوارث التاريخي والاستمرارية لتقاليد الدولة المركزية. ويتصدى للتهجم على رغبة الروس في بناء دولة مركزية كبرى لا تنال من حقوق الآخـرين، بل تكـون ضمانـة لبقـاء هذه القوميـات والشعـوب. ويعـرض المؤلف لمراحل تطـور الدولـة السوفييتية من لينين إلى ستالين ومن ثم لخروتشوف ومنه لغورباتشوف، الذي أوصل الوضع لما هو عليه، وجعل "أعداء روسيا يحتفلون بتقهقرها وبانتصار نظام المافيا والخيانة الوطنية فيها"، وسمح لمراكز النظام الرأسمالي العالمي بزيادة تحكمها بخيرات البلدان المتأخرة ومنها روسيا. ويتساءل زوغانوف في نهاية القسم: ماذا ينتظرنا ؟. ويجيب بأن روسيـا أمام خيارين: إمـا التسليم بخسارة السيادة الوطنية السيـاسية والاقتصادية والقبول بـالإذلال، وإما تقبل التحـدي التاريخي وتـرفض الاستسـلام للعبـودية المنتظرة وتحاول استعـادة دورها كدولة عظمى. وتحت عنوان "روسيا- هي قلبي" يصف المؤلف أوضاع الغالبية الروسية المتضررة من النظام القائم وينـدد بالوعود المبنيـة على خيرات السوق، ويـزعم أن أزمة الـوعي الراهنة هي التي سمحت بنجاح المتربعـين على سـدة الحكم، الـذين سمحوا بدورهم بتفريخ الدويلات في الأطراف، فسقطت الدولة المركزية بسبب تناسي الجذور العميقة للينية الدوليـة الروسية، وللثقافة والدين وبسبب تدمير المؤسسات الحافظة لهذه القيم: المدرسة والكنيسة والجيش. وحتى لا تتعرض روسيا لما تعرض له الاتحاد السـوفييتي يدعو المؤلف لوضع حد لتفريخ الدويلات المستقلة وذلك بالاعتراف من قبل الدولة المركزية بحق الأمم بالتوحد وبالاعتراف الرسمي بالدور المميز للشعب الروسي، وبتكوين المؤسسات التي تبعث الوعي الروسي على المستوى الفيدرالي.

في تفسيره لأحداث أغسطس 1991 يشير المؤلف إلى الـواقع السياسي آنـذاك والذي تميز بإمساك الحزب بالوضع في البلـد، بكل أدوات وأجهـزة السلطـة وتحكمه بالوضع، ما عدا مسألة واحدة وهي افتقار قيادته للإرادة السياسيـة الهادفة والفاعلة. لذا لم يجد الحزب القوة الكافيـة لمجابهة المخاطـر ولاتخاذ تدابير الحيطة والحذر. ومع ذلك كان لابد من إبعاد الحزب وضربه "من قبل المتعطشين للسلطـة والمرتبطين بالغرب". وقـد تمكنت هذه النخبة من الانتصار لأسباب ثلاثة:
1 - جاذبية الأيـديولوجيا "الليبرالية - الـديمقراطية" المموهة بالخداع.

2 - دعم الغرب لحاملي هذه الأيديولوجيا.

3 - وجود حلفـاء لهؤلاء "الديمقراطيين" داخل الحزب.

في ظل هـذا الوضع كـانت النخبة الحزبيـة في وضع محكوم عليها فيه بالهلاك، وبقيت المسألة محصورة بطريقة تسليم السلطة: تدريجياً أم بالقوة.

مراحل إزاحة القوى

أما منطق ما حدث فهو يصور على الشكل التالي: يفترض المؤلف وجـود "مخرج أو موجه" من الخارج، لم يدر اللعبة بشكل مخطط من البـداية وحتى النهاية، إنما استفاد من مسار الأحداث لتصب في صـالحه. وهو يسمي إدارة الأحداث هذه بطريقة "التفجيرات الموجهة" أو "الكارثة الموجهة" التي تهدف لإزاحة القوى السياسية المعـرقلـة لانـدمـاج روسيـا في النظـام العـالمي الجديـد. وساهم في هـذه العمليـة لاعبون لهم أهداف سياسية خـاصة، و "موجه" مهمته تأمين قواعد اللعبة الضامنة لنتيجـة محدثة. ويفترض وجود خمس مراحل متتالية في هذا السيناريو:

المرحلة الأولى: الابتدائية، فيها يحدد الموجه علاقته بالـلاعبيـن وتقسيمهم إلى أصدقاء وأعداء. أما المعيار فهـو موقف هؤلاء من مفـاهيم ومتطلبات محددة. وطبقا لأحداث 1991 كـانت معـايير التقسيم هذه الاستعداد للتضحيـة بالاتحاد السـوفييتـي وروسيـا ومصـالحهـا (وحـدة البلـد، قـدرتـه العسكـريـة، السيادة وغير ذلك). من هـذا المنطلـق كـان "الـديمقـراطيون" هم الأصـدقـاء. وكـان الشيوعيون أعداء الموجه.

المرحلة الثانية: هي تراكمية استقطابيـة: مهمتها تحقيق استقطـاب مطلق للقـوى بحيـث يحدد من سيدخل الحلبة السياسيـة من الأصدقاء ومن سيخرج منهـا، ويتم إبـراز القادة من الأصدقاء لجذب أنظـار الناس إليهـم. وقد استمرت المرحلة الأولى من 1985 وحتى 1989، بينما اقتصرت المرحلة الثانية على 1989 - 1990.

المرحلة الثالثة: هي مرحلـة الأزمة وهي المرحلـة الأساسيـة. ويتلخص مضمونها في تأجيج التنـاقضات لدرجة تستحيل معها المساومات للخروج من الأزمة. ويدخل الوضع المأزق مما يستدعى اللجوء للوسائل غـير القانونية، ويتم استفزاز الأعداء. وهذا مـا حدث في صيف 1990 وفي النصف الأول لعـام 1991. فتفككت المنظومة الاشتراكيـة والاتحاد السـوفييتي، وجرت أحداث ليتوانيا، ورافق ذلك كله شلل في حركة الأمين العـام للحـزب ورئيس الـدولـة صـاحب الصلاحيات المطلقة، وبدأ التململ في القوات المسلحة والقلق في قواعد الحزب، فلم يبق لدي الجزء المحافظ من قيادة الحزب إلا خياران: إمـا الاستسلام أمام الأمر الـواقع وإما العمل لحسم الوضع وإعادة الأمور إلى نصابها. وهكذا تم استفزاز انقلاب 1991.

المرحلة الرابعة: مرحلـة العنـف أو الثورة: وهي الأقصر زمنيـا والأشـد حسما. وهي تفترض خـروج الـلاعبين عن الحدود الدستورية، ممـا يخلق الظروف لتحضير الرأي العام بقبول كل سلوك الفريق المنتصر. وهذا ما عبرت عنـه نتائج انقلاب 1991 الذي لم يحضر له معدوه الذي كان متـوقعـا والذي انعدم فيه طابع الحزم.

المرحلة الخامسة: الانهيار: نتيجـة الانفجار السيـاسي المدبر، يصبح الطرف السياسي المعادي خارجا على القانـون ويجري تدميره. ويعمل المنتصر على احتلال المواقع الرئيسية في السلطة ويجري تحويل النظام السيـاسي إلى توعيه جديـدة. وقد جري الانهيار بين أغسطس وديسمبر من عام 1991. حيث جرت تصفية الاتحاد السوفييتي وتم بلوغ حـالة نوعية جـديدة وتوازن قوى سياسي روسي داخلي وعالمي جديد.

روسيا والنظام العالمي الجديد

وبنفس المنطق يفسر الكـاتب أحداث أكتوبر 1993 التي انتهت بحل البرلمان وضربـه بالقـوة. إذ تكـررت الحلقة داخل المجموعـة الحاكمة. ويعتبر ما حدث في أغسطس 1991 مجرد حلقة في سيناريو أوسع يهدف "لترويض الدب الروسي"، مضمونة القضاء على "مركز القوة الروسي". ولذا فإن القيادة الحزبية القديمة لم تكن العائق الـوحيد أمام تحقيق هذا السيناريو. بل هناك قوى عديدة ومختلفة بتوجهها السياسي ومعيقة لتحـويل روسيا إلى جسر عبـور للنظـام العالمي الجديد وإلى تابع للغرب. لذا كان لابد من إبراز هذه القوى وتدميرها فتكررت تجربة 1991 في سنة 1993، حيث جرى التمايز بين الفئة التي تسلمت السلطة بعد 1991 وجرت استقطابات بينها وتفاقمت التناقضات بينها على وهج المرسوم الرئاسي بإقامة نظام إدارة خـاصة ومن ثم بحل البرلمان، وبرد فعل البرلمان بعزل الرئيس، وبتنفيذ الصدام المسلح وإزاحة العدو الجديد "الديمقراطي" منذ عدة أشهر. وجرت أحداث هذه الحلقة بسرعة فائقة بين 1992 و 1993. ويرى المؤلف أن المسألة لم تنته بعد، والله يعلم دور من سيكون من "الديمقراطيين" في الحلقة القادمة من السيناريو المخصص لترويض روسيا. ويوجز الكاتب استنتاجاته على الشكل التالي:
1 - لقد أصبح عدد الناس المتفهمين للطابع الحقيقي للسلطة ولخطورة الوضع كبيرا جدا. ويتزايد عدد المقتنعين بإمكان إنقاذ روسيا بتوحيد القوى الحية فيها.

2 - ليس لهذا النظام آفاق. وهو يستطيع أن يستمر بالاعتماد على القوة والديكتاتورية.

3 - إن الخطر الرئيسي هو في أن كل حلقة عنف جديدة تصبح أطول وأسوأ من سابقاتها.

ويعود الكاتب لأحداث أكتوبر 1993 فيحذر من مخاطر الاستمرار بالنهج الحالي ويذكر بأن الشعب مازال قادرا على مقاومة الديكتاتورية وأن النظام الحالي فشل فشلا ذريعا عندما أخذ على عاتقه كل السلطات التنفيذية والدستورية والتشريعية.. مما أوجد فراغا سياسيا في البلد. وحدد موقف الحزب من الانتخابات النيابية التي اعتبرها مهزلة وغير قانونية، لكنه دافع عن مبدأ مشاركته فيها ليفضح السلطة من خلالها وليمنعها من تدبيج برلمان على هواها.

أما على الصعيد الاقتصادي فقد رفع المؤلف مطلبا رئيسيا يقتضي التخلي عن نهج "العلاج بالصدمة" واستخدام تدابير التنظيم الحكومي لإيقاف تدهور الانتاج ووضع حد للجريمة وللفساد والسمسرة وإيقاف نهب الموارد الطبيعية واستعادة مستوى معيشة الناس.

هل تنفذ روسيا مآرب الغرب

وبعد أن يشير إلى أن روسيا ستكور تابعا في البنية الدولية الجديدة ومنفذة لمآرب الغرب يدعو لتصحيح السياسة الخارجية الروسية، لأنهـا لا تستجيب لمصالح الشعب، ويدعو للاعتماد على القوة الذاتية والاستمرار بنهج مستقل والتخلي عن الإفراط الأيديولوجي في السياسة الخارجية، وإلى استعادة الدولة الموحدة والعلاقات الاقتصادية والسياسية مع الجمهوريات والعمل على حل النزاعات فيها سياسيا.

وينتقد المؤلف العقيدة العسكرية الرسمية التي تجعل من القوات الروسية مجرد حارس لنظام معاد للشعب وفي خدمة مجلس الأمن ويقترح أساسا سياسيا لعقيدة عسكرية جديدة في ضوء الاحتياجات والمتغيرات الدولية، بحيث تؤمن هذه العقيدة أمن البلد وتتوافق مع إمكاناته. على أن تأخذ بعين الاعتبار مجموعات ثلاثا من العوامل المتغيرة: "عوامل التغيرات الهادفة" التي تمت من جراء نشاط الغرب وانتهت بانهيار المعسكر الاشتراكي. "وعوامل المجازفة" المتعلقة بعوامل غير قابلة للرقابة: من خلال ونزاعات دولية ونهوض إسلامي وكوارث بيئية، وعوامل "النظام العالمي الجديد"، وينهي المؤلف كتابه بقسم عن مستقبل روسيا ومصير الوطنية فيها، حيث يشير إلى أن الجميع يعتبرون أنفسهم وطنيين ويفهم كل واحد الوطنية كما يشاء. وتركيزه على هذا المفهوم نابع من ربطه لمصير روسيا بالوطنية وبدور هذا المفهوم في توحيد القوى. ويزعم الكاتب أنه يوجد تصوران لتطور روسيا المقبل. في النمط الأول (الكوسموبوليتي) يرون أن العالم كله يسير باتجاه التوحد الاقتصادي والسياسي والأيديولوجي في إطار النظام العالمي الجديد، وبالتالي يرحبون بتكامل روسيا في هذا النظام بغض النظر عن الأزمات التي تنتظرها.

أما النمط الثاني المحتمل لتطور روسيا فهو الوطني التقليدي الذي يعتبر أن التوحد الجيوسياسي لشعوب ودول العالم بدون آفاق من أساسه ويؤدي لإقامة ديكتاتورية عالمية للأقلية المتطورة ضد الأكثرية "المتأخرة" وقادر على التحول إلى أداة لطوفان اجتماعي شبيه بالحروب العالمية بقوته التدميرية التي ستقضي حتى على مهندس النظام العالمي الجديد. لذا لابد من إقامة علاقات صحية ومستقرة بين القوميات والدول على أساس التفاعل البناء للثقافات الوطنية والمحدد لتوازن المصالح والقرى على الصعيد العالمي. وحتى لا تصبح روسيا ضحية النظام العالمي الجديد عليها أن تستعيد التواصل التاريخي، وأن تستند إلى الخبرة الروحية الفنية وإلى الكيانية الأخلاقية والدينية والاجتماعية.

 

مفيد قطيش

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




غلاف الكتاب





محاصرة المعارضين ليلتسين في موسكو





اقتحام البرلمان الروسي