مشروع حياة تمشرق المغرب وتمغرب المشرق

مشروع حياة تمشرق المغرب وتمغرب المشرق

لم يمثل الدكتور الجابري مشروعًا فكريًا فقط بل هو - كما يقول د. حسن حنفي - مشروع حياة يعبر عن مرحلة بأكملها في تاريخ الفكر العربي المعاصر.
وفي هذا الملف تنشر «العربي» مقالين للمفكرين العربيين د. حسن حنفي وجورج طرابيشي يتناولان فيهما بالتحليل والنقد أهم أفكار الجابري كاشفين عن التأثير العميق لأفكاره في الفكر العربي المعاصر.

محمد عابد الجابري.. حوار المشرق والمغرب

انتقل رفيق العمر إلى رحاب السماء، ولكن مشروعه باق في الأرض يؤثر في عدة أجيال قادمة، ويحدد مسار الفكر العربي المعاصر. ويرد على شبهات الداخل والخارج: أين العرب؟ وماذا أبدعوا؟ شبهات الداخل إقلال لشأن الذات وإعجاب بالآخر، وشبهات الآخر إقلال من شأن الغير وغرور بتراث الذات. لا يكون الشاب العربي مفكرا إلا إذا عرّج على الجابري، وذكره في خطابه، وأشار إلى مشروعه، وحاور «نقد العقل العربي»، إعجابا أو نقدا. أصبح نموذج المفكر العربي، ونقطة إحالة في مسار الفكر العربي، وإطارا مرجعيا لكل شاب أراد وضع الإشكال العربي والتعامل معه بالتحليل والتشخيص من أجل المساهمة في حله، كما حاولت أربعة أجيال ماضية منذ الطهطاوي وخير الدين وحتى الآن.

ليس الجابري فقط مشروعا فكريا بل هو مشروع حياة تعبر عن مرحلة بأكملها في تاريخ العرب المعاصر، مرحلة انتكاسة النهضة الأولى في القرن التاسع عشر التي أسسها محمد علي من أجل إحياء الخلافة العثمانية من القاهرة بعد ضعف استانبول وتكالب القوى الغربية عليها لتمزيق دولة الخلافة. والنهضة الثانية التي قادها عبد الناصر من أجل توحيد الأمة العربية حلم القومية العربية بعد انهيار دولة الخلافة والتي انتكست أيضا بعد هزيمة 1967 وحتى الآن، وغياب أية محاولة جديدة لنهضة ثالثة بعد المشروع الإسلامي والمشروع القومي، وتكالب القوى الغربية الجديدة على الوطن العربي بالعدوان المباشر، كما حدث في العراق أو بالتجزئة العرقية والتفتيت الطائفي كما يحدث في السودان والصومال واليمن، والذي مازال يهدد الخليج ومصر والمغرب العربي حتى تصبح إسرائيل هي أكبر قوة مركزية في المنطقة تقوم بدور التحديث لمصلحتها. فهي المركز ومحيطها العربي هو الأطراف.

ويمكن تلخيص مشروع الجابري كمشروع حياة في سبعة محاور رئيسية متمايزة ومتداخلة في آن واحد، يتوالد كل منها من الآخر زمانيا، وفي الوقت نفسه تترابط فيما بينها بنيويا، بحيث تكوّن جوانب المشروع. تتفاوت بين المشروع التربوي، والمشروع الفكري، والمشروع التراثي، والمشروع النقدي، والمشروع الوطني، والمشروع الثقافي، والمشروع الإسلامي.

المشروع التربوي

بدأ الجابري حياته باعتباره أستاذا للفلسفة في جامعة محمد الخامس بالرباط بعد أن تخرج في قسم الفلسفة بجامعة دمشق، مؤثرا على أقرانه المشرق العربي على الغرب الفرنسي، وهو صاحب مقولة «تمشرق المغرب وتمغرب المشرق»، وأحد المحاورين في «حوار المشرق والمغرب» 1990 معي كمحاور ثان، بتأليف جماعي مع اثنين آخرين (السطائي والعمري) كتب الفلسفة المقررة على الثانوية العامة. الأول «دروس الفلسفة لطلاب البكالوريا»، والثاني «الفكر الإسلامي لطلاب البكالوريا» 1966 حتى قبل أن يحصل على الدكتوراه في الفلسفة عام 1970. فكان له أبلغ الأثر على التكوين الفلسفي في مرحلة التعليم العام قبل الجامعي. ويوحى التمييز بين الفلسفة العامة، وهي الفلسفة الغربية، والفكر الإسلامي بالتمييز بين ثقافة الآخر وثقافة الأنا في مواجهة التيار الفرانكفوني الغربي، الذي يعتبر الأنا جزءا من الآخر لغة وثقافة وتوجها من أجل إكمال حركة التحرر الوطني من المستوى الاجتماعي والسياسي إلى المستوى العلمي والثقافي.

تم زواج الفلسفة بالعلم. فالفلسفة بالضرورة هي فلسفة علمية، رؤية منهجية عقلية وتجريبية، لذلك كتب «مدخل لفلسفة العلوم» 1976 بعد الدكتوراه للتعليم العام والتدريس الجامعي في الوقت نفسه. وتضم فلسفة العلم الرياضى في الجزء الأول «تطور الفكر الرياضي والعقلانية المعاصرة»، والجزء الثاني «المنهاج التجريبي وتطور الفكر العلمي». مجموعة من النصوص في فلسفة العلم الغربي مترجمة إلى العربية مع مقدمات وشروح لها. وهما أهم إنتاجين في الفلسفة الغربية الحديثة والمعاصرة يمثلان بدايتين جديدتين للوعي الأوربي، العقل والطبيعة، الذات والموضوع كبديلين عن الإيمان والكنيسة.

وكان الجابري على وعي نظري بالمشروع التربوي. وقد عبر عن ذلك في «أضواء على مشكل التعليم بالمغرب» 1973 بعد الدكتوراه تعبيرا عن مسئوليته العامة كأستاذ جامعي عن التكوين الفلسفي للطلاب في مرحلة التعليم العام. فتطوير التعليم في المغرب لا يتعلق فقط بمناهج الدراسة ولا مقرراتها بل بأسسه ومضامينه. فهو تعليم وطني مغربي وليس تعليما إسرائيليا أو فرنسيا. وهو تعليم عربي وطني عام وليس تعليما خاصا للطبقات القادرة. يحتاج إلى أربعة مبادئ: التعريب، والتوحيد، والتعميم، والأطر. التعريب ضد الفرانكفونية، والتوحيد ضد المدارس الخاصة، والتعميم ضد الأمية، والأطر ضد التعليم الأجنبي وضرورة الإطار الوطني.

والتعليم استكمال لحركة التحرر الوطني لبناء الحرية والاشتراكية والوحدة. وهو ما عبر عنه في «رؤية تقدمية لبعض مشكلاتنا الفكرية والتربوية» 1977. وهنا يبرز مفهوم «التقدم» بعد مفهوم «التحرر». التقدم ضد التخلف، والتحرر ضد الاستعمار. وهي مجموعة مقالات ممتدة على أكثر من عشر سنوات 1964-1975، ما قبل الدكتوراه وما بعدها. وهي مسئولية المثقفين في البلاد المتخلفة. تضع المثقف بين الحرية والالتزام في قلب الثقافة الوطنية. وتدعوه إلى التفكير في الأسس النظرية للاشتراكية العلمية في مجتمع نام يعود إلى التاريخ في مساره بين الأصالة والمعاصرة. وهي الازدواجية في الفكر العربي الحديث التي تعبر عن انقسامه الحاد بين الأصولية والعلمانية، وتدعو إلى التفكير في ماركسية جديدة تتفق مع المرحلة الراهنة للمجتمع العربي. وهو ما سماه العروي «الماركسية العربية» أو «الماركسية التاريخانية». ولا تخلو التربية من أسس أيديولوجية، فهي فلسفة وعلم وفن، وأهم خطر على التربية هو المحافظة والتقليدية على عكس الأمم الناهضة التي أقامتها أولا على الحرية ثم على العلم. تحتاج التربية المغربية إلى أن تقوم على الأسس الوطنية أولا ثم على الأسس التنموية ثانيا، فالمجتمعات النامية في حاجة أولا إلى الحرية ثم ثانيا إلى العدالة.

وتتوج هذه المرحلة في منتصفها بموضوع الدكتوراه «العصبية والدولة، معالم نظرية خلدونية في التاريخ الإسلامى» 1970. وفيها تأكيد على الخصوصية المغربية التي يمثلها ابن خلدون وتحليله المادي للتاريخ، وابن رشد الذي يمثل العقلانية، ومالك الذي يمثل الواقعية، فباجتماع الثلاثة يتم تطوير المغرب ونهضته. وهو ما قاله علي أومليل أيضا في رسالته عن ابن خلدون، والعروي من قبل في رسالته عن «المخزن»، الدولة في المغرب. فالدولة هي منطلق الفتح في الخارج ورفاهية الشعب في الداخل. في حين أن نموذج المشرق هو الشافعي الذي يستند إلى الأشعري. عقلانية المغرب في مقابل إشراقية المشرق. وهو ما سيتجلى بعد ذلك في قلب المشروع «نقد العقل العربي». أسس ابن خلدون علما جديدا هو «علم العمران»، وهو ما يعادل فلسفة التاريخ في الغرب، في نهاية المرحلة الأولى في تطور الحضارة الإسلامية، القرون السبعة الأولى التي انتقلت فيها من النهضة إلى السقوط، وتراجعت فيها عن العقلانية، واكتشاف قوانين التاريخ، ومنها العصبية، ومساره من البداوة إلى الحضارة، وعودته إلى الحضارة من جديد، وتحوله من الدولة إلى الملك. وقد مرت قرون سبعة ثانية ولم يظهر في آخرها ابن خلدون جديد يؤرخ لفترة السقوط ونهايتها في محاولات الإصلاح، ويضع شرط النهضة لقرون سبعة قادمة.

المشروع الفكري

ويبدأ المشروع الفكرى بتحليل الخطاب العربي المعاصر. فالخطاب هو ما يعنيه القدماء خاصة ابن رشد باسم القول وتصنيفه له في ثلاثة أقاويل: القول الخطابي، والقول الجدلي، والقول البرهاني. ويبدأ بكتاب «الخطاب العربي المعاصر، دراسة تحليلية نقدية» 1982. ويقدم مفاهيم جديدة غير مطروقة في الفكر العربي المعاصر، وإن كانت مستعملة الآن حتى وإن كانت شائعة في الفكر الغربي المعاصر. ويصنفه في أربعة: الخطاب النهضوي حول النهضة والسقوط، والأصالة والمعاصرة، والخطاب السياسي حول الدين والدولة، والديمقراطية والأهداف القومية، والخطاب القومي حول الوحدة والاشتراكية والوحدة وتحرير فلسطين، والخطاب الفلسفي السلفي من أجل تأصيل فلسفة للماضي, أو حداثى من أجل فلسفة عربية معاصرة. والهدف من هذا التحليل تحقيق الاستقلال التاريخي للذات العربية عن طريق القول، والقول فكر، والفكر وجود.

ويعود الموضوع نفسه في «إشكاليات الفكر العربي المعاصر» 1989. يضاف إليه أزمة الإبداع، وإشكالية التقدم، والمشروع الحضاري العربي، والروحية الاجتماعية وليست الروحية العرجاء الفارغة من أي مضمون، والعرب والغرب والتكنولوجيا الحديثة، وهم المستقبل في مقابل سيطرة الماضي. وتعود الموضوعات في «قضايا في الفكر المعاصر» وفى «وجهة نظر، نحو إعادة بناء قضايا الفكر العربي المعاصر» في 1997. تحليل الحاضر إذن هو الذي يكشف عن حضور الماضي وضبابية المستقبل.

المشروع التراثي

وهو بداية جهد متواصل لتحليل التراث الإسلامي باعتباره تراثا حيا تحول إلى ثقافة شعبية تحدد رؤى الناس للعالم وتمدهم بموجهات للسلوك. ففي «نحن والتراث» 1980 يتم تحليل التراث الفلسفي عند الفارابى وابن سينا وابن رشد وابن خلدون. ويضم التراث النظري في الفلسفة الإشراقية أو في ابستمولوجيا المعقول أو اللامعقول في مقدمة ابن خلدون. ويبدأ مفهوم النقد في الظهور في الدراسة الخامسة «مشروع قراءة نقدية لفكر ابن خلدون». ويعتبر «نحن والتراث» المقدمة الفعلية لمشروع «نقد العقل العربي». وبعد إتمام الرباعية النقدية يعود التراث من جديد في «التراث والحداثة، قراءات ومناقشات» إلى أي حد يستطيع تحليل التراث كتجربة حية في الشعور الفردي والاجتماعي، ويظهر الاهتمام بالرؤية والمنهج. فالتعامل مع التراث يحتاج إلى رؤية جديدة غير الرؤية الكمية، والمخطوطات والحفاظ عليها أو نشرها نشرًا علميا محققا. كما أنه لم يعد بمفرده موروثا، هناك أيضا الوافد يتصارع معه أو يساعد على فهمه أو يكون بديلا عنه. لم يعد التراث من صنع القدماء بل أصبح موضوعا في أتون الفكر العالمي، وتتعدد مناهج قراءته، هناك المنهج الاستشراقي الذي يتعامل مع التراث باعتباره نصوصا ميتة تحتاج فقط إلى التكفين بالنشر العلمي، وهناك منهج القراءة والتأويل والذي يتعامل مع التراث باعتباره تجربة حية متصلة من الماضي إلى الحاضر. وهي مسألة الأصالة والمعاصرة. وتعطي دراسات تطبيقية على هذا المنهج في خصوصية العلاقة بين اللغة والفكر في الثقافة العربية، واستمرار فكر الغزالي منذ ألف عام، حاضرا حتى الآن في الوجدان الشعبي، في الأشعرية والتصوف، وتمتاز المغرب والأندلس بخصوصية ثقافية ناتجة عن برهانية ابن رشد ومدرسة قرطبة، ومادية من ابن خلدون. وقد أصبح «المشروع النقدي» موضع مناقشات وحوارات تبين أن العقلانية ضرورية، وأن المشروع النقدي يتحقق في نقد العقل السياسي، وأنه في النهاية مواجهة العقل العربي لذاته، واكتشاف نفسه بدلا من وصف الآخرين له.

المشروع النقدي

وهو ذروة مشروع الحياة. إذ تقسم الأعمال كلها إلى ما قبل المرحلة النقدية (1964-1983)، والمرحلة النقدية (1984-2001)، والمرحلة ما بعد النقدية (2002-2010). ويتكون من الرباعية النقدية: «تكوين العقل العربي» (1984)، «بنية العقل العربي» (1986)، «العقل السياسي العربي» (1990)، «العقل الأخلاقى العربي» (2001). التكوين والبنية أقرب إلى العقل النظري، والسياسي والأخلاقي أقرب إلى العقل العملي. ولا يعني العقل العربي الملكة أو الأداة المعرفية بل الرؤية التي تعبر عنها في ثقافة، وقد تكونت عبر التاريخ في مسار له بداية ووسط ونهاية، من الشفاه إلى التدوين إلى الإطار المرجعي، تجمع بين المعرفي والأيديولوجي، بين الرؤية العربية والتشريعية، بين الديني والعقلي، بين اللامعقول والمعقول، بين العلمي والسياسي. وقد كان التكوين من البيان في القرنين الأول والثاني، إلى العرفان في القرنين الثالث والرابع، إلى البرهان في القرنين الخامس والسادس. وتتداخل هذه المراحل. إذ يمتد البيان إلى المرحلة الثانية لدى الجاحظ والمتنبي وأبي العلاء. ويمتد العرفان إلى ابن الفارض وابن عربي.

وقد تحول هذا التكوين للعقل العربي إلى بنية في «بنية العقل العربي» إلى النظم المعرفية: البيان، والعرفان، والبرهان. ويتجلى البيان في ثنائية لغوية: اللفظ والمعنى، الأصل والفرع، الجوهر والمعرض. ويتجلى العرفان في الظاهر والباطن، والنبوة والولاية، والرؤية والإلهام. ويتكون البرهان من المقولات النظرية مثل الواجب والممكن، ثم تفككت هذه النظم، واختلط بعضها ببعضها الآخر، وذاب البرهان لمصلحة البيان والعرفان.

أما «العقل السياسي» فقد بُني على ثلاثي آخر: العقيدة والقبيلة والغنيمة، من الدعوة إلى الدولة بداية بالعقيدة أي التوحيد ثم القبيلة التي لم تنصهر بعد ثم الغنيمة أي السلطة، ثم من الردة إلى الفتنة، من القبيلة إلى الغنيمة إلى العقيدة، القبيلة التي لم تنصر بعد، والغنيمة التي أصبحت الدافع على الاقتتال، والعقيدة التي استقرت في المذاهب والطوائف والفرق، كالسنة والشيعة، ثم تحولت النبوة إلى دولة والدولة إلى ملك، والملك إلى إمامة وولاية. ومهما بلغ التنوير من ذروة فإنه قام على الأيديولوجيا السلطانية وفقه السياسة.

ويكشف «العقل الأخلاقي العربي» عن نظم القيم في الثقافة العربية عن الوافد الفارسي في أخلاق الطاعة، والوافد اليوناني في أخلاق السعادة، والموروث الصوفي في أخلاق الفناء، والموروث العربي في أخلاق المروءة، والموروث الإسلامي الذي ضم الوافد والموروث في نظام أخلاقي متكامل، ومع ذلك ظلت أخلاق الطاعة هي السائدة، فالعرب «لم يدفنوا بعد أباهم أردشير».

المشروع الوطني

وبالرغم من بلوغ مشروع الحياة ذروة التنظير في «نقد العقل العربي» فإنه عاد إلى التطبيقات العملية في المشروع الوطني والمشروع الثقافي، ويتجلى المشروع الوطني في تحليل «المغرب المعاصر، الخصوصية والهوية والحداثة والتنمية» 1988، ويتضمن مشروع رؤية لكتابة الحركة الوطنية المغربية، ويقظة الوعي العروبي بالمغرب في مواجهة الاستعمار، والمقاومة المغربية في مدلولها التاريخي وبعد التحرر من الاستعمار بفضل حركة التحرر الوطني تبدأ عمليات ما بعد الاستعمار في التحديث والتنمية وامتدادها بين النخبة والجماهير، بين الانتلجنسيا والشعب والحداثة السياسية وإلى أي حد استطاعت أن تقوم بعملية التحول الديمقراطي. ثم كيف تعثر بناء الدولة وانقسامها بين السياسي والديني، بين الدولة من ناحية والعلماء ورجال الدين والجماعات الدينية من ناحية أخرى.

ويتوالى التخطيط للمشروع الوطني في عدة كتيبات صغيرة لإعادة بناء الثقافة الوطنية ومخاطبة الجمهور العريض في «مسألة الهوية، العروبة والإسلام والغرب» 1995. وهي الدوائر الثلاث التي يعيش فيها كل قطر في الوطن العربي: الوطن والعروبة والإسلام في مقابل النزوع نحو دائرة غربية، الغرب كقطب أوحد يجذب الوطن العربي إليه. كما يتعرض المشروع لقضية «الدين والدولة وتطبيق الشريعة الإسلامية» 1966، وهو الموضوع الذي مازال يؤرق النظام السياسي العربي وتوتره بين الدين والدولة، بين الأصولية والعلمانية، بين الشريعة الإسلامية والقانون المدني. وكل هذا التخطيط من أجل إرساء قواعد «المشروع النهضوي العربي» 1996. فالمغرب ما هو إلا نموذج للوطن العربي. ويقوم هذا المشروع على «الديمقراطية وحقوق الإنسان» 1997 أي على الحرية، حرية الجماعة وحرية الفرد في ثقافة مازالت تخضع الثقافة للسلطان، وللواجبات دون الحقوق. ومع الحرية تأتي التنمية من أجل العدالة في «التنمية البشرية والخصوصية السوسيوثقافية» 1997، فالتنمية ليست فقط للموارد الطبيعية وزيادة الدخل القومي، ولكنها أيضا للبشر وتغيير رؤيتهم للعالم من التبعية إلى الاستقلال، ومن الاعتماد على الغير، في الدين أو في الدولة إلى الاعتماد على الذات.

المشروع الثقافى

وكما تتجلى ذروة المشروع «نقد العقل العربي» على مستوى الجماهير في المشروع الوطني فإنها تتجلى أيضا في «المشروع الثقافي». فالوطن يبدأ في الثقافة أي في الوعي الثقافي، في الوجدان، وكما هو الحال في «المسألة الثقافية» 1994. وقد وحد الإسلام بين القبائل العربية في التوحيد أولا قبل أن تتوحد على الأرض، بحيث يصبح الإسلام دين العرب. ويقوم المثقفون بهذا الدور مهما لاقوا من محن من دعاة القبلية والتفرقة في «المثقفون في الحضارة العربية» 1995. والنموذجان السابقان محنة ابن حنبل، ومحنة ابن رشد، الأولى باسم النص، والثانية باسم العقل. فالمثقفون هم الحاملون للثقافة الوطنية التي تجمع بين الثقافة والوطن، وليس فقط بين الثقافة والتراث أو بين الثقافية والحداثة، بين ثقافة الماضي وثقافة المستقبل بل بين ثقافة الحاضر والواقع المعيش. ولما كان العقل هو الأساس الأول في المشروع النقدي ظهر ابن رشد كأساس تاريخي للمشروع، ويتجلى ذلك في «الإشراف على نشر جديد لأعمال ابن رشد الأصيلة مع مداخل ومقدمات تحليلية وشروح» 1997-1998. ويبدأ المشروع «فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال»، حيث يقرر فيه الوحدة التامة بين الفلسفة والدين، بين النظر والشرع، بين الحكمة والشريعة، وأن النظر واجب بالشرع وليس محرما ولا مكروها، كما أنه ليس مندوبا فقط أو مباحا ولكنه واجب مثل الصلاة. ثم يأتي «مناهج الأدلة في عقائد الملة والتعريف بما وقع فيها من الزيغ والبدع المضلة» لكشف عيوب التفكير النظري بتبرير العقائد، وجود الله، وخلق العالم، وخلود النفس. فالعقل لم يبرهن على صحتها، والعقائد لم تبق إيمانية خالصة، والجدل الكلامي ليس هو البرهان الفلسفى، فقِدم العالم بديل نظري مطروح لخلقه، وخلود النفس الكلي بديل مطروح عن خلود النفس الفردية، وعلم الله بالكليات بدل مطروح عن علمه بالجزئيات، وهو ما أكده مرة ثانية في «تهافت التهافت» ردا على الغزالي في «تهافت الفلاسفة» دفاعا عن الفلسفة ضد الكلام، وعن البرهان ضد الجدل. وفى «الكليات في الطب» بيّن أن الطب ليس علمًا تجريبيًا فقط بل هو علم نظري يقوم على كليات ومبادئ عامة. أما «الضروري في السياسة» فهو ليس فقط مختصرا لجمهورية أفلاطون بل هو إعادة كتابة للوافد من أجل توظيفه في نقد الموروث ووحدانية التسلط في فقه السلطان. ونظرا لأهمية ابن رشد فإنه خصص له «ابن رشد، سيرة وفكر» 1998. يعيد فهم مشروع ابن رشد كمشروع حياة، كما أن مشروع «نقد العقل العربي» مشروع حياة. وهو ما تأكد أيضا في «حفريات في الذاكرة، من بعيد» 1997 عندما يؤرخ المفكر لبدايات مشروعه في بدايات حياته منذ الطفولة حتى الشباب.

نقد الحاجة إلى الإصلاح

وقبل أن يبدأ مشروعه الإسلامي القرآني الأخير يبدأ «في نقد الحاجة إلى الإصلاح» 2005 حتى يطوره تطويرا جذريا بالعودة إلى الأصول ومنها «القرآن». فقد أصبح الإصلاح منذ عدة أجيال له نموذج واحد، نموذج الأفغاني ومحمد عبده قبل أن يتحول إلى مشروع سلفي عند رشيد رضا كرد فعل على سقوط الخلافة العثمانية. أصبح الإصلاح مشجبا تعلق عليه كل الرغبات في التغير الاجتماعي. فهو يرضي السلفيين والعلمانيين، الأصوليين والغربيين على حد سواء. والإصلاح نفسه كنموذج في حاجة إلى إصلاح. ليس الإصلاح إحياء للسلفية ولا هو تبني النموذج الغربي. فالأولون محقون فيما يثبتون، مخطئون فيما ينفون. والآخرون محقون فيما يثبتون، مخطئون فيما ينفون، الأولون يثبتون الموروث نموذج محمد عبده، والآخرون يتبعون الوافد نموذج أرسطو، وعند كليهما الدين تبرير للسياسة وليس عدم تأصيل لها، والمغرب في حاجة إلى سلفية وطنية، تلك خصوصيته، الإسلام الوطني، لا الموروث الخالص ولا الوافد الخالص المنقطعين عن الخصوصية المغربية.

وقد أثر الإسلام في الإصلاح الأوربي بعد ترجمة العلوم الإسلامية إلى اللاتينية وفي مقدمتها القرآن. ووصل إلى العلمانية نموذجا، وأصولها إسلامية وما تولد عنها من ديمقراطية وعقلانية واجتهاد يقوم على الإبداع الإنساني الخالص. ووضع أصول العقد الاجتماعي الذي له جذوره في صحيفة المدينة وعقد البيعة الأول في ميثاقها من أجل الاعتراف بالجماعات الخاصة في إطار الأمة الواحدة، التنوع في إطار الوحدة، والوحدة في إطار التنوع. كما ثبتت حقوق الإنسان كقانون طبيعي ووضعي مما جعل الثقافة الغربية تقوم على الحقوق أكثر مما تقوم على الواجبات، وصعب نقلها في حضارة أخرى، كالحضارة الإسلامية التي تقوم على الواجبات أكثر مما تقوم على الحقوق، الواجبات على الإنسان والحقوق لله. إذن «بالفعل يجب الانتباه إلى أن في حضارتنا ذئبا بل ذئابا». حقوق الإنسان ليست فقط أيديولوجية بل ثقافة، وهذا هو السبب في بقائها على السطح أننا استوردناها أيديولوجيا أكثر من تأصيلها ثقافة.

عوائق بنيوية

وهناك عوائق بنيوية في التحول الديمقراطي، في ثقافة السلطان، وفقهاء السلطان بل وفى السلطان ذاته «إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن»، لذلك انتصر الأمويون على الشرعية السياسية، وتحولت الخلافة إلى ملك عضود. واجتمعت الثروة والمال في البيوتات، فالمال مال بيوتات، والجاه مصدر المال، والخلق مصدر الجاه، ومع ذلك فنموذج ابن رشد وابن خلدون ممكن، العقل والمجتمع، فالإصلاح ممكن عن طريق هذا النموذج. وبالتالي تنزاح شبهة الإرهاب، وتتوقف حركة الهجرة إلى الخارج بعد أن أصبح الوطن طاردا لمواطنيه.

المشروع الإسلامي

وهو المشروع الأخير في مشروع الحياة في مرحلتين: الأولى «مدخل إلى القرآن الكريم، في التعريف بالقرآن» 2006. وهو ما يعادل علوم القرآن عند القدماء. وقد كان في النية إصدار عدة أقسام ثم تغيرت إلى جزء واحد من أجل المرحلة الثانية «فهم القرآن الحكيم، التفسير الواضح حسب ترتيب النزول» في ثلاثة أجزاء 2008 - 2009. وهو ما يعادل علوم التفسير عند القدماء. وهنا ينتقل المشروع من اكتشاف تكوين العلوم العقلية النقلية وبنيتها، الكلام والفلسفة وأصول الفقه والتصوف إلى محاولة إعادة بناء العلوم النقلية الخمسية الخمسة التي تركت منذ أكثر من ألف عام، كما أسسها القدماء وتحولت إلى علوم مقدسة لا يمكن الاقتراب منها وهي: القرآن، والحديث، والسيرة، والتفسير، والفقه.

القسم الأول «التعريف بالقرآن» يقدم قراءات في محيط القرآن الكريم، وحدة الأصل في الديانات السماوية الثلاث، اليهودية والمسيحية والإسلام، وعلاقة الدعوة المحمدية بالخارج، بالحبشة وفارس والروم والصابئة والمجوس، والتساؤل حول أمية الرسول ونفيها وأنه كان يقرأ ويكتب، وإثبات النبوة كما فعل الكلام والفلسفة في النبوة والولاية والإمامة. كما يقدم ثانيا مسار الكون والتكوين ويشير إلى موضوعات علوم القرآن القديمة مثل جمع القرآن الكريم والزيادة والنقصان فيه، وترتيبه ورواياته وقراءاته. ويقدم ثالثا القصص القرآني، وهو أدخل في علم الكلام، وتقسيم الوحي إلى مكي ومدني كما يفعل المستشرقون، والربط بين القرآن والنبي (عليه الصلاة والسلام) في علاقة حميمة بالرغم من التمييز بين الاثنين في علمين مستقلين. الأول في علوم القرآن، والثاني في علم السيرة. القرآن هو الرسالة، والنبي هو الرسول، مبلغ الرسالة.

والثاني «فهم القرآن الحكيم، التفسير الواضح حسب ترتيب النزول». وهو في علم التفسير كما تدل ألفاظ «فهم» ووصف القرآن بالحكيم أي فهم الحكمة، وهو تفسير واضح وليس غامضا، كما يفعل أحيانا بعض الصوفية في التفسير الإشاري. والقرآن مرتب فيه حسب ترتيب النزول. وهي دعوة بعض المستشرقين مثل نولدِكِهْ وبلاشير والعرب مثل خلف الله لمعرفة مسار الوحي وتطوره. ويدور حول موضوعات ثلاثة تسمى مراحل مع أنها متداخلة ومتزامنة: الأولى النبوة والربوبية والألوهية وترتيبها الأصح الألوهية والربوبية والنبوة، إثبات وجود الله وعنايته بالعالم وإرساله الرسل. والثانية البعث والجزاء ومشاهد القيامة. والثالثة إبطال الشرك وتسفيه عبادة الأصنام، وهي مرتبطة بالموضوع الأول نفيا، وهي موضوعات عقائدية لا مراحل فيها بل المراحل والتطور في الأحكام طبقا لتفسير الواقع والزمان إما من نفي إلى إثبات أو من إثبات إلى نفي أو لإثبات التدرج. وترتب السور ترتيبا زمانيا، ولكن سورةً سورةً مما يجعل الموضوع متقطعا ودون بيان لمسار التطور والحكمة منه.

وكان مشروع الحياة يود الاختتام بمشروع ثالث «نقد العقل الغربي» وهو ما يعادل عندنا «علم الاستغراب»، ولكن الأجل لم يسعفه. ففي صباح يوم الاثنين 3 مايو شعر المرحوم بدنو الأجل فرتل يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ. ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً. فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي , وتلفظ بالشهادتين.

----------------------------

ليسَ عندي كنايةٌ واستِعَارَهْ
فَقَريضي مُسْتَلْهَمٌ من حِجارَهْ
هؤلاءِ الصِغارُ قد أيقظوا الشَّعْـ
ـب وهاجُوا إباءَهُ واقْتِداره
وتنادَوْا من أجلِ صَوْتِ فلسطيـ
ـن فُطوبى لِمَنْ يُحَرِّرُ داره
عُزَّل أذهلُوا العَدُوَّ بــبأْسٍ
يَعْرُبِيٍّ وغارةٍ بعدَ غاره
لم يخَافُوا وكيفَ يخْشى المنايا
مَنْ تحدَّى الرَّدى ليطلُبَ ثاره
كَفَروا بالسكوتِ واستعذبوا المَوْ
تَ وأعْطَوْهُ لَيْلَه ونَهَاره
وَرَمَوْا خَلْفَهُمْ شِعاراتِ قَوْمٍ
لم يَرَوْا في الكِفاحِ إلاَّ شِعاره
وَتَراهُمْ مضرَّجينَ دِماءً
والأيادي بالنَّصْرِ تُعْليِ الإشارة

أحمد السقاف

 

 

حسن حنفى 




 





 





 





 





د. محمد عابد الجابري في لقاء مع وزير الخارجية البحريني