السقاف.. الشاعر المعلم.. رائد الوعي القومي

السقاف.. الشاعر المعلم.. رائد الوعي القومي

ليس من السهل إطلاق وصف جامع للراحل الكبير أحمد السقاف..فقد جمع بين وجوه عديدة، فهو الشاعر المفوه، والمعلم الأستاذ، والمربي، وهو الأديب الكاتب، وكيل وزارة الإرشاد والإنباء، وغير ذلك من مناصب عديدة تولاها، بالإضافة إلى دوره الكبير في وضع التصور العروبي والقومي الذي خرجت به مجلة «العربي» إلى قرائها بفضل دوره الكبير في اختيار أول رئيس تحرير للمجلة الدكتور أحمد زكي.

وفي الكويت كان له فضل نشر الوعي القومي عبر دوره التربوي والتعليمي، وهو ما تجلى أيضا في الكثير من قصائده التي نشرها في ذروة المد القومي الذي عرفه الوطن العربي في ستينيات القرن الماضي.

إن للسقاف وجوها عديدة يضيق المقام عن الحديث عنها جميعا، لكن هذا الملف ربما يتمكن من إضاءة بعض ملامح حياة هذا المعلم الكبير، والشاعر المرموق، عبر عدد من المقالات لكبار الكتاب ممن عاصروا السقاف.

هذا الملف نحتفي فيه بالسقاف شاعرا وأديبا، ورحالة، وكاتبا، ومربيا أثر في أجيال عديدة في الكويت وخارجها، رحمه الله.

د. سليمان إبراهيم العسكري

أحمد السقاف: الجندي المجاهد.. الشاعر المبدع

ما لا يعلمه الكثيرون هو أن شعر أحمد السقاف تجاوز الوطن العربي، وانتقل إلى العالمية، حيث تُرجمت قصائده إلى اللغتين الإيطالية والفرنسية، بل وأصبح فكره ونهجه الأدبي يدرسان في جامعات أوربية منها جامعة نابولي، حيث يدرس طلبة قسم اللغة والأدب العربي مختارات من شعره.

في عام 1996 اختارت إحدى الطالبات في جامعة نابولي، وتدعى ماريا أنجلا، أحمد السقاف - أعماله الأدبية وأشعاره - موضوعا لرسالة الدكتوراه التي قدمتها في ذلك الوقت. وكانت تحت إشراف د. فتحي مقبول أستاذ الأدب العربي هناك، وهو مؤلف كتاب «أحمد السقاف شاعر العرب وراية العروبة». ويقول د. مقبول في مقدمة كتابه: إنه بعد أن ألّف العديد من الكتب عن الإنتاج الشعري في عدد من الأقطار العربية، منها الكويت والأردن والسعودية وقطر والبحرين، وعدد من الكتب الأخرى عن الشعر المعاصر والشعر النبطي، فإنه وجد أنه من المناسب أن يتحول إلى الكتابة بشيء من الإسهاب والتفصيل عن الشعراء العرب المهمّين، وحينها قرر أن يبدأ بالكتابة عن حياة ومؤلفات الشاعر الكويتي الكبير والكاتب العربي الأنيق أحمد السقاف الملقب بـ«شاعر العرب».

ويضيف د. مقبول في مقدمة كتابه «إن الشاعر الأديب أحمد السقاف يعتبر - بلاشك - شاعر الأمة وراية القومية العربية والمنال الصلب في الدفاع عن قضايا أمته، وقد حمل هم الأمة العربية على كاهله منذ أن كان فتى يافعًا ولايزال يكرّس كل نشاطاته الثقافية والإنسانية لخدمة هذه الأمة بعيدًا عن العنصرية والتعصب الأعمى».

كما ترجم شعر أحمد السقاف للفرنسية، حيث جاء في كتاب «همسات الروح» - مجموعة شعرية أصدرها البروفيسور إلياس زحلاوي بإشراف وتقديم الفيلسوف الفرنسي الشهير جان جيتون - أن الأديب والشاعر الكبير أحمد السقاف إنما هو رائد من روّاد الحركة الثقافية والفكرية في الكويت، حيث قام وصديقه عبدالحميد الصانع بإصدار أول مجلة تُطبع وتوزع في الكويت، وهي «كاظمة» كما ساهم وبعض أصدقائه في النادي الثقافي القومي بإصدار مجلة «الإيمان».

يقول جيتون: ساهم السقاف بشكل كبير في نشر الثقافة والمعرفة، ليس فقط في الكويت، بل في الأقطار العربية، وذلك من خلال مركزه في دائرة المطبوعات والنشر - قبل استقلال الكويت، وفي وزارة الإرشاد والإنباء بعد الاستقلال حين عيّن وكيلاً للوزارة، ففي ديسمبر العام 1957 استقر الرأي على إصدار مجلة شهرية ثقافية ضخمة، تقدم لجميع القرّاء العرب في جميع أقطارهم، وصدر التكليف من رئيس دائرة المطبوعات والنشر الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح لأحمد السقاف بالسفر إلى الأقطار العربية للتعاقد مع مَن يختارهم لهذه المهمة. وقد تم ذلك، وفي مصر وجد أحمد السقاف مَن يبحث عنهم، وكان على رأسهم د. أحمد زكي، ثم يتناول الكتاب مجموعة من قصائد الشاعر بالترجمة والشرح.

أحمد السقاف الإنسان

إن القيمة الإبداعية التي يمثلها السقاف ما هي إلا انعكاس وتجسيد لقيمته الإنسانية التي تستحق التوقف عندها وتسليط الضوء عليها.

أحمد السقاف شخصية غير عادية على الإطلاق، بل يمكن وصفه بأنه شخصية استثنائية نادرة، فهو مزيج من التناقضات التي تفرضها حالة القلق والإبداع التي يعيشها الشاعر الملهم، وما يتطلبه في المقابل نحو مسئولياته العامة من التزام وانضباط لخدمة قضايا أمته.

يبدو هذا التناقض واضحًا في تربيته لنا، فهو كمن يحمل العصا بيد والياسمين باليد الأخرى، يحاسبك بشدة الشرطي وصرامته عندما يخطئ، ويغمرك بحنان وعطف لا يوصفان عندما تحزن.

النظام، الدقة، الترتيب، تحديد الهدف والمثابرة من صفاته الواضحة، وفي الوقت نفسه كان لجنون الإبداع والخروج على المألوف نصيب وافر في حياته.

كان لشخصيته وتربيته أثر مهم، بل أساسي، في تكوين شخصيتي وحتى شخصية ابنتي التي ترعرعت في كنفه، ولعل أهم ما أكسبني عمقًا في تكوين شخصيتي هو فهمي لهذا التناقض الجميل المشروع في شخصيته، فهو الجندي المجاهد والشاعر المبدع في آن واحد.

إن مزيج الضدين هذا كان مثيرًا للدهشة والانبهار، كروعة الصورة في تزامن الشمس والمطر في لحظة واحدة تدفعك إلى البكاء من شدة الفرح.

إن المبادئ التي آمن بها السقاف فعاشها مع أسرته مع كل من تعامل معه كانت هي الحصن المنيع الذي تمتع به في حياته وأكسبه حب الناس واحترامهم الراسخ له. فالعدل والرحمة ونصرة المظلوم والشجاعة الأدبية والأمانة والاجتهاد واحترام الناس: الفقير قبل الغني والضعيف قبل القوي، والعطاء وخدمة الآخرين هي مبادئه الراسخة التي كان يكشف عنها في كل موقف من مواقف حياته. علّمنا أن حب العروبة لا يعني أبدًا التعصب ضد القوميات الأخرى أو التعالي عليها، بل على العكس كان يشدد على أهمية الحضارات الأخرى ودورها الإنساني وضرورة احترامها والاحتفاء بوجودها والتعلّم منها.

أحمد السقاف أحبّ الكتاب وعشق العلم والمعرفة، علّمنا أن الكتاب صديق دائم لا يخذلك إن أنت أحسنت اختياره. إن وجود السقاف في حياتي لم يكن ضرورة عاطفية فحسب، بل كان مستفزًا لنشاطي الذهني وقدراتي الإبداعية.

السقاف كان معلمًا ملهَمًا وملهِمًا، وهو ببساطة يصدق فيه قول شوقي «كاد المعلم أن يكون رسولاً».

السقاف ومحنة الاحتلال

كان يوم الثاني من أغسطس 1990 يومًا مؤلمًا لكل الكويتيين - بلاشك - لكنه أشد ألمًا ووطأةً على السقاف الذي أفنى حياته مناضلاً صلبًا من أجل قضايا أمته، وعرف عنه إيمانه المطلق بالقومية العربية، فكانت تلك الجريمة النكراء تحديًا سافرًا واستفزازًا مؤلمًا لمبادئه وقناعاته.

تلقى والدي خبر دخول الدبابات العراقية لأراضي الكويت فجر الثاني من أغسطس من أخي محمد الذي كان موجودًا حينها في الولايات المتحدة الأمريكية حيث كان متابعًا لأخبار الـCNN والتي نقلت تحرّك الجيش العراقي إلى الكويت عبر الأقمار الصناعية، فكان وقع الخبر كالصاعقة عليه، وأذكر أنه ظل صامتًا معظم اليوم، وقد تسمّرت عيناه في الفضاء، وكان يهز رأسه حينًا كأنه غير مصدق ثم أجده يمسك برأسه وكأنه يخشى عليها من الانفجار.

توالت المكالمات الهاتفية علينا «وكنا وقتها نقضي إجازة الصيف في إحدى المدن السويسرية» لكن الوالد لم يكن في وضع يسمح له باستقبال أي من هذه المكالمات، فحجم الكارثة كان أقوى من أن يحتمل، فكيف له أن يستوعب ما حدث وطعنة الغدر جاءت من الجار، بل وأقرب العواصم إلى قلبه، من بغداد مرتع صباه، بغداد التي تعلّم فيها أبجديات الشعر والهوى، بغداد التي تفجّرت فيها بواكير شاعريته، بغداد التي خصها بكمّ هائل من القصائد التي سطّر فيها حبّه واعتزازه وفخره بالعراق وشعب العراق، فجاء الغزو العراقي للكويت خنجرًا - وأي خنجر - في قلب أحمد السقاف.

على الرغم من صدمة والدي جراء الغزو شأنه شأن الكثير من الكويتيين الذين لم يتوقعوا أن يدخل صدام بجيشه إلى الكويت، أقول على الرغم من هول المفاجأة فإن والدي لم يصدم بشخصية صدام حسين الذي كان ينتقده دومًا قبل الغزو بسنوات، حتى أنني أذكر في منتصف الثمانينيات أن دخلت عليه يومًا وهو في غرفته يشاهد الأخبار ويهز رأسه مستاء، فلما سألته عن السبب، أشار بيده إلى التلفاز، وقال: انظري إلى هذا المجنون وإذا بصدام يمد يده إلى الناس يقبلونها «كان هذا المشهد بعد فوزه بحرب تحرير الفاو» ثم أكمل يقول: عليه أن يعتزل قبل أن يجني على العراق، فتشرتشل تنحى عن منصبه بعد أن حقق النصر لبريطانيا.

بالرغم من حب والدي الشديد للعراق وبغداد بالذات، فإنه لم يحب صدام حسين يومًا، بل كان يتجنب حضور مؤتمرات المربد لكثرة المطبلين لصدام.

توالت الأخبار السيئة بعد احتلال الكويت، فكل يوم من أيام الاحتلال، كان يحمل معه أخبار تعسف الجيش العراقي وبطشه بأبناء الكويت الصامدين، وما إلى ذلك من أعمال السلب والنهب والتخريب التي مارسوها في الكويت، وعلى الساحة السياسية تضارب الموقف العربي تجاه الغزو العراقي الغاشم، وابتعدت بعض الدول العربية عن جادة الحق والصواب وتخاذل بعضها الآخر عن دعم الكويت، حتى أن الكثير من الكويتيين بدأت تنتابهم مشاعر التشاؤم والقلق، إلا أن الوالد كان دومًا من الفريق المتفائل بعودة الحق إلى أصحابه.

في أحد الأيام من شهر سبتمبر، تلقى الوالد اتصالاً هاتفيًا من الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح أمير البلاد - حفظه الله - والذي كان حينها نائبًا لرئيس الوزراء ووزيرا للخارجية، حيث كلفه الشيخ صباح بالسفر إلى اليمن للقاء القيادة اليمنية للوقوف عن قرب على موقف اليمنيين من الغزو العراقي للكويت، وفي أقل من يومين، كان الوالد قد غادر إلى اليمن للقيام بالمهمة التي أوكلت إليه، وبعد أن أنهى مهمته، توجه إلى جدة ليسلم الشيخ صباح تقريره حول الموقف اليمني حكومة وشعبًا، ولدى عودته إلى سويسرا، حيث كنت في استقباله في المطار، وجدته أكثر همًا وإرهاقًا، بل خلته وكأنه قد كبر عشرة أعوام، علمت حينها أن صدمته كانت كبيرة بموقف القيادة اليمنية «بالرغم من الموقف النبيل للشعب اليمني الذي خرج في مظاهرات شعبية تعبّر عن نصرته ووقوفه بجانب الحق الكويتي».

صدمة السقاف

آلمه موقف الحكومة اليمنية الذي زاد من عدد الخناجر الغادرة التي توالت عليه منذ الفجر المشئوم للثاني من أغسطس، حيث لم يرحم من طعنات بعض الأصدقاء من الأدباء والمفكّرين العرب الذين تحججوا بالوحدة الوطنية، مبررين جريمة صدام حسين، تفاجأ السقاف بموقف هؤلاء وتضاعف همّه وهو يشرح جاهدًا بأن ما هكذا تكون الوحدة العربية، ولا هذه هي القومية العربية التي طالما آمن بها، وكنت أسمعه في بعض المكالمات الهاتفية يعلو صوته وينفعل إلى درجة كانت تقلقني عليه، سمعته يردّد دائمًا في كل مكالمة من هذا النوع «الوحدة لا تأتي بالدبابات يا أخي، والأخ لا يحتل بيت أخيه ويطرده منه وينهبه بحجة العائلة الواحدة، فهذا مفهوم منحرف وخبيث للوحدة العربية».

صدمة السقاف كانت أكبر مما تحتمل، وألمه كان مضاعفًا عن غيره لأنه لم يصدم ببشاعة جريمة الاحتلال فحسب، وإنما صدمته كانت أكبر بمَن رحب بهذه الجريمة، وبرر لها تحت غطاء العروبة والوحدة العربية، فشوّهوا مفهوم القومية العربية ووصموها بما ليس فيها.

ما آلم السقاف وزاد عليه في تلك الفترة هو أنه كان يجد نفسه وحيدًا في الدفاع عن المفهوم الصحيح للقومية العربية الداعية للتعاون والتعاطف والتكافل العربي ضمن مبادئ إنسانية قائمة على الخير والعدل والإنصاف وحب العربي لأخيه العربي، وجد نفسه وحيدًا في مجابهة الجاهلين الحاقدين على العروبة، فهناك مَن كان ينتظر مثل هذه الفرصة ليهزأ من مفهوم العروبة ويؤكد ألا خير يرتجى من العرب والعروبة، فهاهم يعتدون على بعضهم البعض ويمزّقون بعضهم البعض جشعًا وجهلاً، وهناك مَن دافع وبرر للمجرم فعلته بذريعة الوحدة العربية، ومن هنا كان هم السقاف أكبر وأشد وطأة عليه، فعانى ما عانى، وكثرت زيارته للأطباء في تلك الفترة، إلا أنه لم يتوان عن أداء واجبه الوطني بالرغم من أن ألمه كان شديدًا، فنظم القصائد الوطنية، التي استثارت همم الكويتيين، وبلغت عدد القصائد خلال فترة الاحتلال خمس قصائد خلال ستة شهور من الاحتلال.

في نوفمبر 1990 ترأس السقاف أحد الوفود الشعبية التي شكّلتها حكومة الكويت في المنفى لشرح القضية الكويتية في عدد من الأقطار، عربية كانت أو غيرها، وكان السقاف على رأس وفد شعبي ضم العديد من الشخصيات السياسية والإعلامية البارزة منهم: محمد مساعد الصالح ومحمد جاسم الصقر والدكتور أحمد الربعي - رحمه الله - وغيرهم، حيث قصد الوفد جمهورية مصر العربية ولبنان والأردن وسورية واليمن والسودان، وكانت مهمة الوفد مقابلة المسئولين في تلك الدول وإقامة الندوات العامة لشرح موقف الكويت وحقوقها.

عاد الوالد من هذه الرحلة أكثر ارتياحًا، ويعود السبب - في اعتقادي - إلى تمكّنه من قول ما أراد قوله، وإيصال ما أراد إيصاله لأكبر قاعدة ممكنة من الشعوب العربية، حيث استطاع أن يشرح للكثير من العرب الفرق بين التضامن العربي - العربي، والاحتلال العربي للعربي.

خاتمة القول، إنه وبالرغم من طعنات الغدر التي تكالبت على السقاف خلال تلك الفترة السوداء من تاريخ الكويت، بل والأمة العربية، فإنه ظل شامخًا متمسكًا بمبادئه التي لم يتزحزح عنها بالرغم من مرارة وقسوة شهور الاحتلال التي قضاها في المنفى بعيدًا عن وطنه الكويت.

الكويت حبيبته التي لا ينازعها أحد قط على مكانتها في قلبه والتي قال فيها أجمل القصائد:

يقولُ الناسُ ما اسمُ الحبيبةْ
لقد حيّر الفردَ هذا السؤالْ
فقلتُ الحكايةُ جدًا غريبةْ
فما منْ غموضٍ وما منْ خيالْ

إلى أن يصل إلى آخر القصيدة فيقول معرفًا بحبيبته:

أعيدوا التأمّلَ في كلّ بيتْ
فقالوا عرفنا الكويتُ الكويتْ.

 

 

فارعة السقاف 




 





سمو أمير البلاد الشيخ صباح الأحمد الجابر وزير الإرشاد والإنباء عام 1962 مع وكيل الوزارة أحمد السقاف





السقاف مع بعض الأدباء العرب في ضيافة «العربي» عند تأسيسها وخلفه يقف الدكتور أحمد زكي في مكتب رئيس التحرير بعد صدور أول عدد